وصايا في الاختبارات-16-8-1438هـ-المنبر-بتصرف
محمد بن سامر
1438/08/16 - 2017/05/12 04:27AM
[align=justify]
أما بعد: فإنَّ نِعمَةَ الأَولادِ مِن أَجَلِّ النِّعَمِ وَأَعظَمِهَا؛ إِذْ هُمْ زِينَةُ الحَيَاةِ الدُّنيَا وَبَهجَتُهَا، وَهُم عُدَّةُ النَّوَائِبِ وَالذُّخرُ في الشَّدَائِدِ، يَبَرُّونَ الآبَاءَ، وَيَحمِلُونَ أَسمَاءَهُم، وَيَصِلُونَ أَرحَامَهُم، وَيَرفَعُونَ ذِكرَهُم، وَيَبَرُّونَ أَصدِقَاءَهُم وَيَدعُونَ لهم، عَلَى سَوَاعِدِهِم يُبنى المُستَقبَلُ، وَبِأَفكَارِهِم يَرتَقِي المُجتَمَعُ، وَبِهِمَمِهِم تَعلُو الأُمَّةُ، وَبِجِدِّهِم تُعمَرُ الدِّيَارُ، وَبِقُوَّتِهِم تُحفَظُ البِلادُ، لَكِنَّ هَذِهِ النِّعمَةَ في المُقَابِلِ أَمَانَةٌ ثَقِيلَةُ التَّبِعَاتِ، وَالعِنَايَةُ بها تَحتَاجُ إِلى بَذلِ جُهُودٍ وَصَرفِ أَوقَاتٍ، وَحِفظُهَا لا يَتِمُّ إِلاَّ بِتَكَاتُفِ الآبَاءِ وَالأُمَّهَاتِ، إِنَّهَا تُكَلِّفُ مَن تَحَمَّلَهَا مَالَهُ، وَتَستَهلِكُ صِحَّتَهُ، وَتَشغَلُ بَالَهُ.
وَإِنَّنَا فِيمَا سَيَأتي مِن أَيَّامٍ، مُقبِلُونَ عَلَى مَوسِمٍ مِن أَشَدِّ مَوَاسِمِ التَّربِيَةِ حَسَاسِيَةً، إِنَّهَا الامتِحَانَاتُ الدِّرَاسِيَّةُ، لشَرِيحَةٍ مِن أَغلَى شَرَائِحِ المُجتَمَعِ، هِيَ أَسرَعُهُم تَأَثُّرًا بما يَجرِي حَولَهَا، وَأَكثَرُهُم تَشَرُّبًا لِمَا يُلقَى عَلَيهَا، هُم طُلاَّبُ المَدَارِسِ المُتَوَسِّطَةِ وَالثَّانَوِيَّةِ مِنَ المُرَاهِقِينَ وَالشَّبَابِ، وَإِنَّهُ لَو كَانَتِ الامتِحَانَاتُ مَعلُومَاتٍ تُحفَظُ، ثم تُلقَى عَلَى أَورَاقِ الإِجَابَاتِ لَكَانَ أَمرُهَا سَهلاً مُيَسَّرًا؛ لأن الإِخفَاقَ يَعقُبُهُ نَجَاحٌ، وَضَعفَ الدَّرَجَةِ قَد يُستَدرَكُ، وَالقُصُورَ قَد يُتَلافى، لَكِنَّ القَضِيَّةَ أَنَّ الامتِحَانَ امتِحَانٌ لِلمُجتَمَعِ كُلِّهِ عَلَى مُختَلِفِ مُستَوَيَاتِهِ، وَاختِبَارٌ لأَولِيَاءِ الأُمُورِ، وَمِقيَاسٌ لِكَفَاءَةِ التَّربَوِيِّينَ وَالمَسؤُولِينَ.
وَلَقَد ثَبَتَ بِشَهَادَةِ الوَاقِعِ وَتَتَبُّعِ كَثِيرٍ مِن رِجَالِ التَّربِيَةِ وَالتَّعلِيمِ أَنَّ أَيَّامَ الامتِحَانِ مِن أَصعَبِ مَا يَمُرَّ بِالفَتى المُرَاهِقِ وَالشَّابِّ اليَافِعِ؛ إِذْ فِيهَا يُرخَى العِنَانُ وَيَنفَلِتُ الزِّمَامُ، وَيَختَلِفُ النِّظَامُ وَيَتَغَيَّرُ الدَّوَامُ، وَيَكثُرُ الفَرَاغُ وَتَزدَادُ أَوقَاتُهُ، وَيَجِدُ الطُّلاَّبُ مِنهُ فِيمَا بَينَ حصص الامتِحَانِ، وَفِيمَا بَينَ خُرُوجِهِم مِنهُ وَعَودَتِهِم إِلى البُيُوتِ مَا قَد يَتَعَلَّمُونَ فِيهِ مِنَ الفَسَادِ الشَّيءَ الكَثِيرَ، وَمَا قَد يُؤذُونَ فِيهِ أَنفُسَهُم، وَيَتَعَدَّونَ عَلى الآخَرِينَ، وَمَا قَد يَكتَسِبُونَ فِيهِ كَثِيرًا مِنَ العَادَاتِ السَّيِّئَةِ، وَيَقَعُونَ في عَدَدٍ مِنَ الآفَاتِ المُهلِكَةِ، ممَّا لَو جُمِعَ ثم وُزِنَ بما اكتَسَبُوهُ في أَيَّامِ دِرَاسَتِهِم كُلِّهَا لَسَاوَاهُ أَو زَادَ عَلَيهِ.
وَمِن هُنَا فَإِنَّهُ يَجدُرُ بِنَا أَن نَقِفَ وَقَفَاتٍ نُوصِي بها مَن وَهَبَهُمُ اللهُ هَذِهِ الزِّينَةَ؛ لِئَلاَّ تَكُونَ لهم في يَومٍ مِنَ الأَيَّامِ شَجًى في الحُلُوقِ، أَو قَذًى في العُيُونِ، فَيَعَضُّوا أَصَابِعَ النَّدَمِ عَلَى مَا فَرَّطُوا، وَلا ينفعُ الندمُ.
الوَقفَةُ الأُولى: إِنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مَن رَزَقَهُ اللهُ الأَولادَ، أَن يَعلَمَ قَدرَ هَذِهِ النِّعمَةِ فَيَشكُرَهَا لِيُبَارَكَ لَهُ فِيهَا، وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُم لَئِن شَكَرتم لأَزِيدَنَّكُمْ. وَإِنَّهُ لا شُكرَ لِهَذِهِ النِّعمَةِ مِثل حِفظِهَا وَالقِيَامِ بما يَجِبُ نَحوَهَا مِنَ التَّربِيَةِ الحَسَنَةِ وَالتَّنشِئَةِ الصَّالحةِ؛ إِذْ هِيَ أَمَانَةٌ وَأَيُّ أَمَانَةٍ، قَالَ : "كُلُّكُم رَاعٍ، وَمَسؤُولٌ عَن رَعِيَّتِهِ"، وَقالَ-عَلَيهِ وآله الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-: "إِنَّ اللهَ سَائِلٌ كُلَّ رَاعٍ عَمَّا استَرعَاهُ: حَفِظَ أَم ضَيَّعَ، حَتى يَسأَلَ الرَّجُلَ عَن أَهلِ بَيتِهِ"، وَقَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: "كَفَى بِالمَرءِ إِثمًا أَن يُضَيِّعَ مَن يَقُوت".
وَإِنَّكَ لَتَعجَبُ مِن بُيُوتٍ، لا يَتَجَاوَزُ دَورُ الأَبِ وَالأُمِّ فِيهَا الإِنتَاجَ، ثم تَرَاهُم بَعدَ أَن يَخطُوَ الوَلَدُ خُطُوَاتِهِ الأُولى يَفتَحُونَ لَهُ البَابَ عَلَى مِصرَاعَيهِ، لِيَخرُجَ إِلى أَيِّ مَكَانٍ شَاءَ، يُرَبِّيهِ غَيرُهُم، وَيُعَلِّمُهُ سِوَاهُم، وَلا يَبقَى في الخَارِجِ مِن كَلِمَةٍ سَاقِطَةٍ، أَو فَعلَةٍ قَبِيحَةٍ، أَو خُلُقٍ سَيِّئٍ إِلاَّ اكتَسَبَهُ وَتَشَرَّبَهُ، ثم هُم لا يَسأَلُونَ عَنهُ وَلا يَهتَمُّونَ بِهِ، وَلا يُوَجِّهُونَهُ وَلا يَنصَحُونَ لَهُ، وَلا يُبَيِّنُونَ لَهُ مَا يَنفَعُهُ ممَّا يَضُرُّهُ، ممَّا يَجعَلُ مِنهُ عُضوًا فَاسِدًا في المُجتَمَعِ، وَنَبتَةً لا تُثمِرُ لِلأُمَّةِ إِلاَّ الفَسَادَ وَالإِفسَادَ، وَلِهَذَا فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الوَالِدَينِ أَن يَتَّقِيَا اللهَ في أَولادِهِمَا مُنذُ الصِّغَرِ، فَيُنَشِّئَاهُم عَلَى الطَّاعَةِ، وَالصَّلاةِ، وَالصِّفَاتِ الطيبةِ، والعاداتِ الحسنةِ، وَيربوهم عَلَى أَنَّ مِنَ العَمَلِ ما هو صالحٌ وسيئ، وَمِنَ الأَخلاقِ ما هو حسنٌ وَقَبِيحٌ، ومِنَ التَّصَرُّفَاتِ ما هو مقبولٌ وَمَرفُوضٌ، وَأَنَّ الإِنسَانَ مُقَيَّدٌ بِدِينٍ وَخُلُقٍ، وَلَهُ حدودٌ يَجِبُ أَن يَقِفَ عِندَهَا ولا يتجاوزُها، وَأَنَّ للهِ عَمَلًا بِاللَّيلِ لا يَقبَلُهُ بِالنَّهَارِ، وَعَمَلًا بِالنَّهَارِ لا يَقبَلُهُ بِاللَّيلِ.
وَإِنَّ مِن رِعَايَةِ الأَمَانَةِ في أَيَّامِ الامتِحَانَاتِ أَن يَضبِطَ الأَبُ مَوعِدَ مَنَامِ أولادِه وَصَحوِهِم، وَيُرَاقِبَهُم في ذَهَابِهِم وَإِيَابِهِم، وَيُحَدِّدَ وَقتَ خُرُوجِهِم وَدُخُولِهِم، وَأَن يَحرِصَ عَلَى أَن يَكُونَ استِذكَارُهُم لدُرُوسِهم في البَيتِ لا خَارِجَهُ، وَأَلاَّ يَسمَحَ لَهُ بِالسَّهَرِ بِأَيِّ حَالٍ، فَإِنَّ مِنَ الشَّبَابِ مَن إِذَا عَادَ مِنِ امتِحَانِهِ قَبلَ الظُّهرِ رمى بِجِسمِهِ عَلَى فِرَاشِهِ، تَارِكًا صَلاةَ الظُّهرِ وَالعَصرِ، وَقَد يُلحِقُ بهما المَغرِبَ وَالعِشَاءَ، ثم لا يَبدأُ بِالاستِذكَارِ إِلاَّ بَعدَ العِشَاءِ، فَيَسهِرُ لَيلَهُ وَيُرهِقُ نَفسَهُ، حَتى إِذَا أَقبَلَ الفَجرُ نَامَ وَتَرَكَ الصَّلاةَ، وَلم يَصحُ إِلاَّ قُبَيلَ الامتِحَانِ، فَمِثلُ هَذَا كَيفَ يَنتَظِرُ تَوفِيقًا وَيَأمَلُ تَسدِيدًا؟! كَيفَ يَرجُو نَجَاحًا وَهُوَ قَد تَرَكَ فَرَائِضَ رَبِّهِ، وَخَالَفَ سُنَنَهُ، فَنَامَ في وَقتِ العَمَلِ، وَعَمِلَ في وَقتِ النَّومِ؟!
فَيَا إخواني الآباء الحِرصَ الحِرصَ عَلَى أَن تَضبِطُوا أَوقَاتَ أَبنَائِكُم في النَّومِ وَالصَّحوِ وَالذَّهَابِ وَالإِيَابِ، وَاهتَمُّوا بِعَودَتِهِم بَعدَ انتِهَاءِ الامتِحَانَاتِ مُبَاشَرَةً، فَإِنَّ في بَقَائِهِم بَعدَ الامتِحَانَاتِ في الشَّوَارِعِ أَوِ البَرَارِي أَو في المَطَاعِمِ أَوِ الأَسوَاقِ، إِنَّ فِيهِ ضَرَرًا كَبِيرًا عَلَى عُقُولِهِم وَأَخلاقِهِم، وَالحُرُّ تَكفِيهِ الإِشَارَةُ.
الوَقفَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّ الصَّاحِبَ سَاحِبٌ، وَالمَرءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، وَكُلُّ قَرِينٍ بِالمُقَارَنِ يَقتَدِي، وَمِن هُنَا فَإِنَّ عَلَى الأَبِ أَن يَحرِصَ عَلَى مَعرِفَةِ أَصدِقَاءِ أَبنَائِهِ، وَمَن يُصَاحِبُونَ، وَأَن يَكُونَ عَلَى دِرَايَةٍ بِمَكَانٍ تَجَمُّعِهِم، وَإِلى أَينَ يَذهَبُونَ، بَصِيرًا بما يَجرِي حَولَهُ، مُتَفَقِّهًا في الوَاقِعِ، عَارِفًا بِمُشكِلاتِ الشَّبَابِ وَقَضَايَاهُم، وَاعِيًا لما يَدُورُ في مُجتَمَعَاتِهِم، وَكَم كَانَ الأَصحَابُ سَبَبًا في صَلاحِ المَرءِ أَو فَسَادِهِ، فَجَدِيرٌ بِالأَبِ أَن يَحرِصَ عَلَى أَن يَصحَبَ ابنُهُ الصَّالِحِينَ، وَيُمَاشِيَ ذَوِي الأَخلاقِ الحَسَنَةِ، وَأَن يَبتَعِدَ عَن أَهلِ الشَّرِّ وَالفَسَادِ وَالفِتنَةِ، وَعَلَيهِ في هَذَا الشَّأنِ أَن يَتَعَاوَنَ مَعَ المَدرَسَةِ، وَيَبنِيَ جُسُورًا مِنَ الثِّقَةِ بَينَهُ وَبَينَ مُدِيرِهَا وَمُعَلِّمِيهَا، وَإِذَا عَرَفَ صَالِحًا حَثَّ ابنَهُ عَلَى مُصَاحَبَتِهِ، وَإِذَا اكتَشَفَ أَنَّهُ يُصَاحِبُ الأَشرَارَ سَعَى لِتَخلِيصِهِ مِنهُم، وَلا يَجُوزُ لَهُ أَن يَتَهَاوَنَ في هَذَا الأَمرِ بِحَالٍ، أَو يَسمَحَ بِهِ سَاعَةً مِن نهارٍ، فَكَم مِن تَهَاوُنِ سَاعَةٍ أَعقَبَ فَسَادَ أَيَّامٍ، وَتَهَاوُنِ أَيَّامٍ أَنتَجَ فَسَادَ أَعوَامٍ.
وَإِنَّ المُخَدِّرَاتِ مِنَ أعظمِ الأخَطَارِ الَّتي تدَاهِمُ الشَّبَابَ في هَذِهِ الأَيَّامِ، وَيُمَهِّدُ لَهُا وَيَنشُرُهُا رِفَاقُ السُّوءِ، فَاحذَرُوا وَحَذِّرُوا أَبنَاءَكُم وَانتَبِهُوا، فَإِنَّ أَيَّامَ الامتِحَانَاتِ سُوقٌ لِلمُرَوِّجِينَ رَائِجَةٌ، نَسأَلُ اللهَ أَن يَرُدَّ كَيدَهُم في نُحُورِهِم.
الوَقفَةُ الثَّالِثَةُ: إِنَّ ممَّا يُؤخَذُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الشَّبَابِ في أَيَّامِ الامتِحَانَاتِ إِيذَاءَهُمُ الآخَرِينَ وَتَسَلُّطَهُم عَلَيهِم، حَيثُ يَكثُرُ دَوَرَانُهُم في الشَّوَارِعِ، وَتُلحَظُ عَلَيهِمُ القِيَادَةُ الجُنُونِيَّةُ، وَالسُّرعَةُ الزَّائِدَةُ، والتفحيطُ، وَيَكثُرُ مِنهُمُ الوُقُوفُ المُخَالِفُ، وَسَدُّ الطُّرُقَاتِ في وُجُوهِ المَارَّةِ، وَرُبَّمَا صَادَفَ أَن يُؤذِيَ أَحَدُهُم شَيخًا كَبِيرًا، أَو يُضَايِقَ امرَأَةً ضَعِيفَةً، أَو عَامِلًا مِسكِينًا، أَو يُرَوِّعَ غَافِلًا، أَو يَعتَدِيَ عَلَى سَائِرٍ في طَرِيقِهِ، فَيَدعُوَ أَحَدُ هَؤُلاءِ عَلَيهِ دَعوَةَ مَظلُومٍ، مِن قَلبٍ مَكلُومٍ، فَتَكُونُ سَببًا لِعَدَمِ تَوَفُّقِ هَذَا الوَلَدِ في دُنيَاهُ أَو أُخرَاهُ، أَو حُصُولُ مَا يُؤذِيهِ مِن حَادِثٍ أَو نَحوِهِ، قَالَ-جَلَّ وَعَلا-: [وَالَّذِينَ يُؤذُونَ المُؤمِنِينَ وَالمُؤمِنَاتِ بِغَيرِ مَا اكتَسَبُوا فَقَدِ احتَمَلُوا بُهتَانًا وَإِثمًا مُّبِينًا]، وَقَالَ-عَلَيهِ وآله الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-: "مَن آذَى المُسلِمِينَ في طُرُقِهِم وَجَبَت عَلَيهِ لَعنَتُهُم"، وَقَالَ: "وَاتَّقِ دَعوَةَ المَظلُومِ؛ فَإِنَّهُ لَيسَ بَينَهَا وَبَينَ اللهِ حِجَابٌ"، وَقَالَ: "إِيَّاكُم وَالجُلُوسَ عَلَى الطُّرُقَاتِ، فَإِنْ أَبَيتُم إِلاَّ المَجَالِسَ فَأَعطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهَا: غَضَّ البَصَرِ وَكَفَّ الأَذَى وَرَدَّ السَّلامِ وَالأَمرَ بِالمَعرُوفِ وَالنَّهيَ عَنِ المُنكَرِ"، وَقَالَ : "لا يَحِلُّ لِمُسلِمٍ أَن يُرَوِّعَ-يُخَوِّفَ-مُسلِمًا".
فَلْيَحذَرِ الآبَاءُ مِن تَسلِيمِ السَّيَّارَاتِ لِلأَبنَاءِ دُونَ رَقَابَةٍ وَمُتَابَعَةٍ، فَإِنَّ المَسؤُولِيَّةَ كَبِيرَةٌ، وَالأَمَانَةَ عَظِيمَةٌ، وَإِيذَاءَ المُسلِمِينَ ذَنبٌ كَبِيرٌ وَجُرمٌ خَطِيرٌ، "وَالمُسلِمُ مَن سَلِمَ المُسلِمُونَ مِن لِسَانِهِ وَيَدِهِ".
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُم وَأَنتُم تَعلَمُونَ وَاعلَمُوا أَنَّمَا أَموَالُكُم وَأَولاَدُكُم فِتنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِندَهُ أَجرٌ عَظِيمٌ]، أستغفر الله لي ولكم وللمسلمين.
أَمَّا بَعدُ: َفالوَقفَةُ الرَّابِعَةُ: فَإِنَّهُ يَجِبُ أَن نَغرِسَ في قُلُوبِ أَبنَائِنَا أَن يَتَوَكَّلُوا عَلَى اللهِ وَيُفَوِّضُوا أُمُورَهُم إِلَيهِ، ثم يَبذُلُوا الأَسبَابَ وَيَتَّخِذُوا الاحتِيَاطَاتِ، فَإِذَا فَعَلُوا كُلَّ هَذَا فَحَصَلَ مَا يَرجونه فَخَيرٌ وَنِعمَةٌ يَجِبُ عَلَيهِم شُكرُهَا، وَإِلاَّ فَلْيَحذَرُوا لَومَ أَنفُسِهِم أَوِ التَّحَسُّرَ عَلَى مَا مَضَى، فَإِنَّ ذَلِكَ لا يَمنَعُ قَدَرًا وَلا يَرُدُّ فَائِتًا، قَالَ-عَلَيهِ وآله الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-: "اِحرِصْ عَلَى مَا يَنفَعُكَ وَاستَعِنْ بِاللهِ وَلا تَعجَزْ، فَإِنْ أَصَابَكَ شَيءٌ فَلا تَقُلْ: لَو أَني فَعَلتُ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنْ لَو تَفتَحُ عَمَلَ الشَّيطَانِ".
وَإِنَّهُ يَجِبُ أَن يُعلَمَ في هَذا الشَّأنِ أَن الأَسبَابَ الَّتي تُبذَلُ يَجِبُ أَن تَكُونَ جَائِزَةً غَيرَ مُحَرَّمَةٍ وَلا مَمنُوعَةٍ شَرعًا، فَلا تَنَاوُلَ مُنَبِّهَاتٍ مُحَرَّمَةٍ، وَلا غِشَّ وَلا خِدَاعَ، وَلا شِرَاءَ ذِمَمٍ ممَّن ضَعُفَت ذِمَمُهُم مِنَ المُعَلِّمِينَ، قَالَ-عَلَيهِ وآله الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-: "مَن غَشَّ فَلَيسَ مِنَّا". وَإِنَّهُ يَجِبُ أَن يَستَقِرَّ أَنَّ مَا بُنِيَ عَلَى بَاطِلٍ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَأَيُّ شَهَادَةٍ تُحَصَّلُ بِالغِشِّ، وَسُلُوكِ الطُّرُقِ المُلتَوِيَةِ فَهِيَ مُحَرَّمَةٌ، وَمَا نَتَجَ عَنهَا مِن تَوَظُّفٍ أَو عَمَلٍ أَو تَرقِيَةٍ فَلا خَيرَ فِيه وَلا بَرَكَةَ، بَل هُوَ نَوعٌ مِنَ السُّحتِ وَالغِشِّ لِلأُمَّةِ.
الوَقفَةُ الخَامِسَةُ: يَجِبُ أَن يَتَرَسَّخَ في القُلُوبِ أَنَّ هَذِهِ الامتِحَانَاتِ لَيسَت هِيَ النِّهَايَةَ الَّتي إِنْ رَبِحَهَا المَرءُ رَبِحَ كُلَّ شَيءٍ، وَإِنْ خَسِرَهَا خَسِرَ كُلَّ شَيءٍ، لا وَاللهِ، وَإِنَّمَا الخَسَارَةُ الحَقِيقِيَّةُ هِيَ خَسَارَةُ الآخِرَةِ، قَالَ سُبحَانَهُ: [قُلْ إِنَّ الخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم وَأَهلِيهِم يَومَ القِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الخُسرَانُ المُبِينُ]، فَاحرِصُوا عَلَى النَّجَاحِ في يَومٍ يُسأَلُ المَرءُ فِيهِ عَن عُمُرِهِ فِيمَ أَفنَاهُ، وَعَن شَبَابِهِ فِيم أَبلاهُ، وَعَن عِلمِهِ مَا عَمِلَ فِيهِ، وَعَن مَالِهِ مِن أَينَ اكتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنفَقَهُ، فَأَعِدُّوا لِلسُّؤَالِ جَوَابًا صَوَابًا، جَعَلَنَا اللهُ وَإِيَّاكُم مِنَ الفَائِزِينَ في يَومِ الامتِحَانِ الأَكبرِ، وَوَفَّقَ أَبنَاءَنَا وَيَسَّرَ أَمرَهُم وَسَهَّلَ عَلَيهِم مَا يَطلُبُونَ.
[/align]
أما بعد: فإنَّ نِعمَةَ الأَولادِ مِن أَجَلِّ النِّعَمِ وَأَعظَمِهَا؛ إِذْ هُمْ زِينَةُ الحَيَاةِ الدُّنيَا وَبَهجَتُهَا، وَهُم عُدَّةُ النَّوَائِبِ وَالذُّخرُ في الشَّدَائِدِ، يَبَرُّونَ الآبَاءَ، وَيَحمِلُونَ أَسمَاءَهُم، وَيَصِلُونَ أَرحَامَهُم، وَيَرفَعُونَ ذِكرَهُم، وَيَبَرُّونَ أَصدِقَاءَهُم وَيَدعُونَ لهم، عَلَى سَوَاعِدِهِم يُبنى المُستَقبَلُ، وَبِأَفكَارِهِم يَرتَقِي المُجتَمَعُ، وَبِهِمَمِهِم تَعلُو الأُمَّةُ، وَبِجِدِّهِم تُعمَرُ الدِّيَارُ، وَبِقُوَّتِهِم تُحفَظُ البِلادُ، لَكِنَّ هَذِهِ النِّعمَةَ في المُقَابِلِ أَمَانَةٌ ثَقِيلَةُ التَّبِعَاتِ، وَالعِنَايَةُ بها تَحتَاجُ إِلى بَذلِ جُهُودٍ وَصَرفِ أَوقَاتٍ، وَحِفظُهَا لا يَتِمُّ إِلاَّ بِتَكَاتُفِ الآبَاءِ وَالأُمَّهَاتِ، إِنَّهَا تُكَلِّفُ مَن تَحَمَّلَهَا مَالَهُ، وَتَستَهلِكُ صِحَّتَهُ، وَتَشغَلُ بَالَهُ.
وَإِنَّنَا فِيمَا سَيَأتي مِن أَيَّامٍ، مُقبِلُونَ عَلَى مَوسِمٍ مِن أَشَدِّ مَوَاسِمِ التَّربِيَةِ حَسَاسِيَةً، إِنَّهَا الامتِحَانَاتُ الدِّرَاسِيَّةُ، لشَرِيحَةٍ مِن أَغلَى شَرَائِحِ المُجتَمَعِ، هِيَ أَسرَعُهُم تَأَثُّرًا بما يَجرِي حَولَهَا، وَأَكثَرُهُم تَشَرُّبًا لِمَا يُلقَى عَلَيهَا، هُم طُلاَّبُ المَدَارِسِ المُتَوَسِّطَةِ وَالثَّانَوِيَّةِ مِنَ المُرَاهِقِينَ وَالشَّبَابِ، وَإِنَّهُ لَو كَانَتِ الامتِحَانَاتُ مَعلُومَاتٍ تُحفَظُ، ثم تُلقَى عَلَى أَورَاقِ الإِجَابَاتِ لَكَانَ أَمرُهَا سَهلاً مُيَسَّرًا؛ لأن الإِخفَاقَ يَعقُبُهُ نَجَاحٌ، وَضَعفَ الدَّرَجَةِ قَد يُستَدرَكُ، وَالقُصُورَ قَد يُتَلافى، لَكِنَّ القَضِيَّةَ أَنَّ الامتِحَانَ امتِحَانٌ لِلمُجتَمَعِ كُلِّهِ عَلَى مُختَلِفِ مُستَوَيَاتِهِ، وَاختِبَارٌ لأَولِيَاءِ الأُمُورِ، وَمِقيَاسٌ لِكَفَاءَةِ التَّربَوِيِّينَ وَالمَسؤُولِينَ.
وَلَقَد ثَبَتَ بِشَهَادَةِ الوَاقِعِ وَتَتَبُّعِ كَثِيرٍ مِن رِجَالِ التَّربِيَةِ وَالتَّعلِيمِ أَنَّ أَيَّامَ الامتِحَانِ مِن أَصعَبِ مَا يَمُرَّ بِالفَتى المُرَاهِقِ وَالشَّابِّ اليَافِعِ؛ إِذْ فِيهَا يُرخَى العِنَانُ وَيَنفَلِتُ الزِّمَامُ، وَيَختَلِفُ النِّظَامُ وَيَتَغَيَّرُ الدَّوَامُ، وَيَكثُرُ الفَرَاغُ وَتَزدَادُ أَوقَاتُهُ، وَيَجِدُ الطُّلاَّبُ مِنهُ فِيمَا بَينَ حصص الامتِحَانِ، وَفِيمَا بَينَ خُرُوجِهِم مِنهُ وَعَودَتِهِم إِلى البُيُوتِ مَا قَد يَتَعَلَّمُونَ فِيهِ مِنَ الفَسَادِ الشَّيءَ الكَثِيرَ، وَمَا قَد يُؤذُونَ فِيهِ أَنفُسَهُم، وَيَتَعَدَّونَ عَلى الآخَرِينَ، وَمَا قَد يَكتَسِبُونَ فِيهِ كَثِيرًا مِنَ العَادَاتِ السَّيِّئَةِ، وَيَقَعُونَ في عَدَدٍ مِنَ الآفَاتِ المُهلِكَةِ، ممَّا لَو جُمِعَ ثم وُزِنَ بما اكتَسَبُوهُ في أَيَّامِ دِرَاسَتِهِم كُلِّهَا لَسَاوَاهُ أَو زَادَ عَلَيهِ.
وَمِن هُنَا فَإِنَّهُ يَجدُرُ بِنَا أَن نَقِفَ وَقَفَاتٍ نُوصِي بها مَن وَهَبَهُمُ اللهُ هَذِهِ الزِّينَةَ؛ لِئَلاَّ تَكُونَ لهم في يَومٍ مِنَ الأَيَّامِ شَجًى في الحُلُوقِ، أَو قَذًى في العُيُونِ، فَيَعَضُّوا أَصَابِعَ النَّدَمِ عَلَى مَا فَرَّطُوا، وَلا ينفعُ الندمُ.
الوَقفَةُ الأُولى: إِنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مَن رَزَقَهُ اللهُ الأَولادَ، أَن يَعلَمَ قَدرَ هَذِهِ النِّعمَةِ فَيَشكُرَهَا لِيُبَارَكَ لَهُ فِيهَا، وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُم لَئِن شَكَرتم لأَزِيدَنَّكُمْ. وَإِنَّهُ لا شُكرَ لِهَذِهِ النِّعمَةِ مِثل حِفظِهَا وَالقِيَامِ بما يَجِبُ نَحوَهَا مِنَ التَّربِيَةِ الحَسَنَةِ وَالتَّنشِئَةِ الصَّالحةِ؛ إِذْ هِيَ أَمَانَةٌ وَأَيُّ أَمَانَةٍ، قَالَ : "كُلُّكُم رَاعٍ، وَمَسؤُولٌ عَن رَعِيَّتِهِ"، وَقالَ-عَلَيهِ وآله الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-: "إِنَّ اللهَ سَائِلٌ كُلَّ رَاعٍ عَمَّا استَرعَاهُ: حَفِظَ أَم ضَيَّعَ، حَتى يَسأَلَ الرَّجُلَ عَن أَهلِ بَيتِهِ"، وَقَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: "كَفَى بِالمَرءِ إِثمًا أَن يُضَيِّعَ مَن يَقُوت".
وَإِنَّكَ لَتَعجَبُ مِن بُيُوتٍ، لا يَتَجَاوَزُ دَورُ الأَبِ وَالأُمِّ فِيهَا الإِنتَاجَ، ثم تَرَاهُم بَعدَ أَن يَخطُوَ الوَلَدُ خُطُوَاتِهِ الأُولى يَفتَحُونَ لَهُ البَابَ عَلَى مِصرَاعَيهِ، لِيَخرُجَ إِلى أَيِّ مَكَانٍ شَاءَ، يُرَبِّيهِ غَيرُهُم، وَيُعَلِّمُهُ سِوَاهُم، وَلا يَبقَى في الخَارِجِ مِن كَلِمَةٍ سَاقِطَةٍ، أَو فَعلَةٍ قَبِيحَةٍ، أَو خُلُقٍ سَيِّئٍ إِلاَّ اكتَسَبَهُ وَتَشَرَّبَهُ، ثم هُم لا يَسأَلُونَ عَنهُ وَلا يَهتَمُّونَ بِهِ، وَلا يُوَجِّهُونَهُ وَلا يَنصَحُونَ لَهُ، وَلا يُبَيِّنُونَ لَهُ مَا يَنفَعُهُ ممَّا يَضُرُّهُ، ممَّا يَجعَلُ مِنهُ عُضوًا فَاسِدًا في المُجتَمَعِ، وَنَبتَةً لا تُثمِرُ لِلأُمَّةِ إِلاَّ الفَسَادَ وَالإِفسَادَ، وَلِهَذَا فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الوَالِدَينِ أَن يَتَّقِيَا اللهَ في أَولادِهِمَا مُنذُ الصِّغَرِ، فَيُنَشِّئَاهُم عَلَى الطَّاعَةِ، وَالصَّلاةِ، وَالصِّفَاتِ الطيبةِ، والعاداتِ الحسنةِ، وَيربوهم عَلَى أَنَّ مِنَ العَمَلِ ما هو صالحٌ وسيئ، وَمِنَ الأَخلاقِ ما هو حسنٌ وَقَبِيحٌ، ومِنَ التَّصَرُّفَاتِ ما هو مقبولٌ وَمَرفُوضٌ، وَأَنَّ الإِنسَانَ مُقَيَّدٌ بِدِينٍ وَخُلُقٍ، وَلَهُ حدودٌ يَجِبُ أَن يَقِفَ عِندَهَا ولا يتجاوزُها، وَأَنَّ للهِ عَمَلًا بِاللَّيلِ لا يَقبَلُهُ بِالنَّهَارِ، وَعَمَلًا بِالنَّهَارِ لا يَقبَلُهُ بِاللَّيلِ.
وَإِنَّ مِن رِعَايَةِ الأَمَانَةِ في أَيَّامِ الامتِحَانَاتِ أَن يَضبِطَ الأَبُ مَوعِدَ مَنَامِ أولادِه وَصَحوِهِم، وَيُرَاقِبَهُم في ذَهَابِهِم وَإِيَابِهِم، وَيُحَدِّدَ وَقتَ خُرُوجِهِم وَدُخُولِهِم، وَأَن يَحرِصَ عَلَى أَن يَكُونَ استِذكَارُهُم لدُرُوسِهم في البَيتِ لا خَارِجَهُ، وَأَلاَّ يَسمَحَ لَهُ بِالسَّهَرِ بِأَيِّ حَالٍ، فَإِنَّ مِنَ الشَّبَابِ مَن إِذَا عَادَ مِنِ امتِحَانِهِ قَبلَ الظُّهرِ رمى بِجِسمِهِ عَلَى فِرَاشِهِ، تَارِكًا صَلاةَ الظُّهرِ وَالعَصرِ، وَقَد يُلحِقُ بهما المَغرِبَ وَالعِشَاءَ، ثم لا يَبدأُ بِالاستِذكَارِ إِلاَّ بَعدَ العِشَاءِ، فَيَسهِرُ لَيلَهُ وَيُرهِقُ نَفسَهُ، حَتى إِذَا أَقبَلَ الفَجرُ نَامَ وَتَرَكَ الصَّلاةَ، وَلم يَصحُ إِلاَّ قُبَيلَ الامتِحَانِ، فَمِثلُ هَذَا كَيفَ يَنتَظِرُ تَوفِيقًا وَيَأمَلُ تَسدِيدًا؟! كَيفَ يَرجُو نَجَاحًا وَهُوَ قَد تَرَكَ فَرَائِضَ رَبِّهِ، وَخَالَفَ سُنَنَهُ، فَنَامَ في وَقتِ العَمَلِ، وَعَمِلَ في وَقتِ النَّومِ؟!
فَيَا إخواني الآباء الحِرصَ الحِرصَ عَلَى أَن تَضبِطُوا أَوقَاتَ أَبنَائِكُم في النَّومِ وَالصَّحوِ وَالذَّهَابِ وَالإِيَابِ، وَاهتَمُّوا بِعَودَتِهِم بَعدَ انتِهَاءِ الامتِحَانَاتِ مُبَاشَرَةً، فَإِنَّ في بَقَائِهِم بَعدَ الامتِحَانَاتِ في الشَّوَارِعِ أَوِ البَرَارِي أَو في المَطَاعِمِ أَوِ الأَسوَاقِ، إِنَّ فِيهِ ضَرَرًا كَبِيرًا عَلَى عُقُولِهِم وَأَخلاقِهِم، وَالحُرُّ تَكفِيهِ الإِشَارَةُ.
الوَقفَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّ الصَّاحِبَ سَاحِبٌ، وَالمَرءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، وَكُلُّ قَرِينٍ بِالمُقَارَنِ يَقتَدِي، وَمِن هُنَا فَإِنَّ عَلَى الأَبِ أَن يَحرِصَ عَلَى مَعرِفَةِ أَصدِقَاءِ أَبنَائِهِ، وَمَن يُصَاحِبُونَ، وَأَن يَكُونَ عَلَى دِرَايَةٍ بِمَكَانٍ تَجَمُّعِهِم، وَإِلى أَينَ يَذهَبُونَ، بَصِيرًا بما يَجرِي حَولَهُ، مُتَفَقِّهًا في الوَاقِعِ، عَارِفًا بِمُشكِلاتِ الشَّبَابِ وَقَضَايَاهُم، وَاعِيًا لما يَدُورُ في مُجتَمَعَاتِهِم، وَكَم كَانَ الأَصحَابُ سَبَبًا في صَلاحِ المَرءِ أَو فَسَادِهِ، فَجَدِيرٌ بِالأَبِ أَن يَحرِصَ عَلَى أَن يَصحَبَ ابنُهُ الصَّالِحِينَ، وَيُمَاشِيَ ذَوِي الأَخلاقِ الحَسَنَةِ، وَأَن يَبتَعِدَ عَن أَهلِ الشَّرِّ وَالفَسَادِ وَالفِتنَةِ، وَعَلَيهِ في هَذَا الشَّأنِ أَن يَتَعَاوَنَ مَعَ المَدرَسَةِ، وَيَبنِيَ جُسُورًا مِنَ الثِّقَةِ بَينَهُ وَبَينَ مُدِيرِهَا وَمُعَلِّمِيهَا، وَإِذَا عَرَفَ صَالِحًا حَثَّ ابنَهُ عَلَى مُصَاحَبَتِهِ، وَإِذَا اكتَشَفَ أَنَّهُ يُصَاحِبُ الأَشرَارَ سَعَى لِتَخلِيصِهِ مِنهُم، وَلا يَجُوزُ لَهُ أَن يَتَهَاوَنَ في هَذَا الأَمرِ بِحَالٍ، أَو يَسمَحَ بِهِ سَاعَةً مِن نهارٍ، فَكَم مِن تَهَاوُنِ سَاعَةٍ أَعقَبَ فَسَادَ أَيَّامٍ، وَتَهَاوُنِ أَيَّامٍ أَنتَجَ فَسَادَ أَعوَامٍ.
وَإِنَّ المُخَدِّرَاتِ مِنَ أعظمِ الأخَطَارِ الَّتي تدَاهِمُ الشَّبَابَ في هَذِهِ الأَيَّامِ، وَيُمَهِّدُ لَهُا وَيَنشُرُهُا رِفَاقُ السُّوءِ، فَاحذَرُوا وَحَذِّرُوا أَبنَاءَكُم وَانتَبِهُوا، فَإِنَّ أَيَّامَ الامتِحَانَاتِ سُوقٌ لِلمُرَوِّجِينَ رَائِجَةٌ، نَسأَلُ اللهَ أَن يَرُدَّ كَيدَهُم في نُحُورِهِم.
الوَقفَةُ الثَّالِثَةُ: إِنَّ ممَّا يُؤخَذُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الشَّبَابِ في أَيَّامِ الامتِحَانَاتِ إِيذَاءَهُمُ الآخَرِينَ وَتَسَلُّطَهُم عَلَيهِم، حَيثُ يَكثُرُ دَوَرَانُهُم في الشَّوَارِعِ، وَتُلحَظُ عَلَيهِمُ القِيَادَةُ الجُنُونِيَّةُ، وَالسُّرعَةُ الزَّائِدَةُ، والتفحيطُ، وَيَكثُرُ مِنهُمُ الوُقُوفُ المُخَالِفُ، وَسَدُّ الطُّرُقَاتِ في وُجُوهِ المَارَّةِ، وَرُبَّمَا صَادَفَ أَن يُؤذِيَ أَحَدُهُم شَيخًا كَبِيرًا، أَو يُضَايِقَ امرَأَةً ضَعِيفَةً، أَو عَامِلًا مِسكِينًا، أَو يُرَوِّعَ غَافِلًا، أَو يَعتَدِيَ عَلَى سَائِرٍ في طَرِيقِهِ، فَيَدعُوَ أَحَدُ هَؤُلاءِ عَلَيهِ دَعوَةَ مَظلُومٍ، مِن قَلبٍ مَكلُومٍ، فَتَكُونُ سَببًا لِعَدَمِ تَوَفُّقِ هَذَا الوَلَدِ في دُنيَاهُ أَو أُخرَاهُ، أَو حُصُولُ مَا يُؤذِيهِ مِن حَادِثٍ أَو نَحوِهِ، قَالَ-جَلَّ وَعَلا-: [وَالَّذِينَ يُؤذُونَ المُؤمِنِينَ وَالمُؤمِنَاتِ بِغَيرِ مَا اكتَسَبُوا فَقَدِ احتَمَلُوا بُهتَانًا وَإِثمًا مُّبِينًا]، وَقَالَ-عَلَيهِ وآله الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-: "مَن آذَى المُسلِمِينَ في طُرُقِهِم وَجَبَت عَلَيهِ لَعنَتُهُم"، وَقَالَ: "وَاتَّقِ دَعوَةَ المَظلُومِ؛ فَإِنَّهُ لَيسَ بَينَهَا وَبَينَ اللهِ حِجَابٌ"، وَقَالَ: "إِيَّاكُم وَالجُلُوسَ عَلَى الطُّرُقَاتِ، فَإِنْ أَبَيتُم إِلاَّ المَجَالِسَ فَأَعطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهَا: غَضَّ البَصَرِ وَكَفَّ الأَذَى وَرَدَّ السَّلامِ وَالأَمرَ بِالمَعرُوفِ وَالنَّهيَ عَنِ المُنكَرِ"، وَقَالَ : "لا يَحِلُّ لِمُسلِمٍ أَن يُرَوِّعَ-يُخَوِّفَ-مُسلِمًا".
فَلْيَحذَرِ الآبَاءُ مِن تَسلِيمِ السَّيَّارَاتِ لِلأَبنَاءِ دُونَ رَقَابَةٍ وَمُتَابَعَةٍ، فَإِنَّ المَسؤُولِيَّةَ كَبِيرَةٌ، وَالأَمَانَةَ عَظِيمَةٌ، وَإِيذَاءَ المُسلِمِينَ ذَنبٌ كَبِيرٌ وَجُرمٌ خَطِيرٌ، "وَالمُسلِمُ مَن سَلِمَ المُسلِمُونَ مِن لِسَانِهِ وَيَدِهِ".
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُم وَأَنتُم تَعلَمُونَ وَاعلَمُوا أَنَّمَا أَموَالُكُم وَأَولاَدُكُم فِتنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِندَهُ أَجرٌ عَظِيمٌ]، أستغفر الله لي ولكم وللمسلمين.
الخطبة الثانية
وَإِنَّهُ يَجِبُ أَن يُعلَمَ في هَذا الشَّأنِ أَن الأَسبَابَ الَّتي تُبذَلُ يَجِبُ أَن تَكُونَ جَائِزَةً غَيرَ مُحَرَّمَةٍ وَلا مَمنُوعَةٍ شَرعًا، فَلا تَنَاوُلَ مُنَبِّهَاتٍ مُحَرَّمَةٍ، وَلا غِشَّ وَلا خِدَاعَ، وَلا شِرَاءَ ذِمَمٍ ممَّن ضَعُفَت ذِمَمُهُم مِنَ المُعَلِّمِينَ، قَالَ-عَلَيهِ وآله الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-: "مَن غَشَّ فَلَيسَ مِنَّا". وَإِنَّهُ يَجِبُ أَن يَستَقِرَّ أَنَّ مَا بُنِيَ عَلَى بَاطِلٍ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَأَيُّ شَهَادَةٍ تُحَصَّلُ بِالغِشِّ، وَسُلُوكِ الطُّرُقِ المُلتَوِيَةِ فَهِيَ مُحَرَّمَةٌ، وَمَا نَتَجَ عَنهَا مِن تَوَظُّفٍ أَو عَمَلٍ أَو تَرقِيَةٍ فَلا خَيرَ فِيه وَلا بَرَكَةَ، بَل هُوَ نَوعٌ مِنَ السُّحتِ وَالغِشِّ لِلأُمَّةِ.
الوَقفَةُ الخَامِسَةُ: يَجِبُ أَن يَتَرَسَّخَ في القُلُوبِ أَنَّ هَذِهِ الامتِحَانَاتِ لَيسَت هِيَ النِّهَايَةَ الَّتي إِنْ رَبِحَهَا المَرءُ رَبِحَ كُلَّ شَيءٍ، وَإِنْ خَسِرَهَا خَسِرَ كُلَّ شَيءٍ، لا وَاللهِ، وَإِنَّمَا الخَسَارَةُ الحَقِيقِيَّةُ هِيَ خَسَارَةُ الآخِرَةِ، قَالَ سُبحَانَهُ: [قُلْ إِنَّ الخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم وَأَهلِيهِم يَومَ القِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الخُسرَانُ المُبِينُ]، فَاحرِصُوا عَلَى النَّجَاحِ في يَومٍ يُسأَلُ المَرءُ فِيهِ عَن عُمُرِهِ فِيمَ أَفنَاهُ، وَعَن شَبَابِهِ فِيم أَبلاهُ، وَعَن عِلمِهِ مَا عَمِلَ فِيهِ، وَعَن مَالِهِ مِن أَينَ اكتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنفَقَهُ، فَأَعِدُّوا لِلسُّؤَالِ جَوَابًا صَوَابًا، جَعَلَنَا اللهُ وَإِيَّاكُم مِنَ الفَائِزِينَ في يَومِ الامتِحَانِ الأَكبرِ، وَوَفَّقَ أَبنَاءَنَا وَيَسَّرَ أَمرَهُم وَسَهَّلَ عَلَيهِم مَا يَطلُبُونَ.
[/align]
المشاهدات 1022 | التعليقات 2
تم خطبتها لهذا اليوم
بارك الله فيما كتبت ونفع الله بهذه الخطبة وجعلها في ميزان حسناتك ،،
بارك الله فيما كتبت ونفع الله بهذه الخطبة وجعلها في ميزان حسناتك ،،
علي آل هيصم
جزيت خيراً على هذه الخطبة الطيبة
تعديل التعليق