وسطي !!

عبدالله اليابس
1439/06/27 - 2018/03/15 18:16PM
الوسطية                                  الجمعة 28/6/1439هـ  
الحمد للهِ ربِ الأرض السماء، خلق آدمَ وعلمه الأسماء, وأسجد له ملائكته، وأسكنه الجنة دار البقاء, وجعل الدنيا لذريته دار عمل لا دار جزاء، ونزل القرآن لما في الصدور شفاء، نحمده تبارك وتعالى على النعماء والسراء، ونستعينه على البأساء والضراء, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده ليس له أنداد ولا أشباه ولا شركاء, وأشهد أن سيدنا محمدًا خاتم الرسل والأنبياء, وإمام المجاهدين والأتقياء, دعا أصحابه إلى الهدى فلبَّوُا النداء, فاللهم صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وصحابته الأجلاء, وعلى السائرين على دربه والداعين بدعوته إلى يوم اللقاء.
أما بعد: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}.
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم .. مصطلح يشيع بين الناس, ويكثر تداوله في وسائل الإعلام, لا يكاد نقاش فكري يخلو من ذِكره, وهو شرف كل يدعيه, ومع ذلك فكل فريق يفسره بطريقته الخاصة.
   إنه مصطلح شرعي قبل أن يكون فكريًا, وشرف ديني قبل أن يكون وطنيًا, هو أمر من الله, وتكريم منه جل وعلا.
إنه مصطلح الوسطية ..
لو سألتُك أيها الأخ الكريم: هل أنت وسطي؟ أرجوك فكر الآن, وتأمل في نظرتك لنفسك .. واسألها: هل أنا وسطي فعلاً؟
وقبل أن تجيب على هذا السؤال .. هل تعرف ما معنى الوسطية؟
قد يجيب البعض بأن الوسطية تعني عدم التشدد ..
وقد يجيب آخرون بأن الوسطية هي التوسط بين شيئين .. وقد يستدلون بأن النبي صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أوسطهما.
واسمحوا لي أن نتناقش سويةً في معنى الوسطية.. وكيف نكون وسطيين حقًا كما جاء الأمر به من الله تعالى.
أيها الإخوة.. لقد أثنى الله تبارك وتعالى على هذه الأمة بأنها أمة وسط, {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}.
فهذه الأمة قدرها أن تكون وسطًا بين الأمم, قال الطبري رحمه الله:
"وأرى أن الله تعالى ذِكْرُه إنما وصفهم بأنهم "وسَط": لتوسطهم في الدين، فلا هُم أهلُ غُلوٍّ فيه، غلوَّ النصارى الذين غلوا بالتَرَهُّب، وقِيلهم في عيسى ما قالوا فيه، ولا هُم أهلُ تقصير فيه، تقصيرَ اليهود الذين بدَّلوا كتابَ الله، وقتلوا أنبياءَهم، وكذبوا على ربهم، وكفروا به، ولكنهم أهل توسط، واعتدال فيه، فوصفهم الله بذلك، إذ كانَ أحبَّ الأمور إلى الله أوْسطُها " ا.هـ.
فيفهم من هذه الآية كما فسرها شيخ المفسرين الإمام الطبري بأن معنى الوسط هو التوسط بين التشدد والغلو وبين التقصير والتفريط.
ولذلك أمرنا الله تعالى في كل صلاة أن نسأله سبحانه وتعالى الوسطية, وألا نسلكَ سبيل الغالين ولا الجافين, {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}.
إن الوسطية في الإسلام وسطيتان .. وسطية محمودة, ووسطية مذمومة.
فأما الوسطية المحمودة فهي التي جاءت الأوامر بها في عدة مواضع من كتاب الله تعالى ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
فمن ينفق على نفسه وولده ــ مثلاً ــ يقتصد في النفقة بلا إسراف ولا تقتير, {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}, ويقول الله تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا}.
قال ابن كثير رحمه الله: " أي: ليسوا بمبذرين في إنفاقهم فيصرفون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهْليهم فيقصرون في حقهم فلا يَكْفُونَهم، بل عَدْلا خياراً، وخير الأمور أوسطها". ا.هـ
وروى الإمام أحمد عن عبدالرحمن بن شبلٍ، قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((اقرَؤوا القرآنَ، ولا تَغْلوا فيه، ولا تَجْفوا عنه، ولا تأكلوا به، ولا تستكثروا به))
وقال عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها كما عند البخاري ومسلم: "ما خُيِّرَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بين أمرينِ، أحدهما أيسرُ من الآخرِ، إلا اختارَ أيسرَهما؛ ما لم يكن إثمًا. فإن كان إثمًا، كان أبعدَ الناسِ منهُ".
أيها المسلمون .. كل هذه الآيات والأحاديث تدل دلالة واضحة على الوسطية المحمودة التي يريدها الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.
نعم.. هي الوسطية التي تكون حقًا بين باطلين.. وسطًا حقًا بين طرفين باطلين ..
 كَانَتْ هِيَ الْوَسَطَ الْمَحْمِيَّ فَاكْتَنَفَتْ *بِهَا  الْحَوَادِثُ  حَتَّى  أَصْبَحَتْ  طَرَفَا
هذه الوسطية في الإسلام .. والتي ينبغي أن نكون جميعًا عليها, وإذا تبين ذلك فإن هذه هي الوسطيةُ المحمودة في الإسلام.. لكن هناك وسطية مذمومة .. فما هي؟
يظن كثير من الناس أن الوسطية هي أن يكون متوسطًا بين الأمور المختلف فيها.. وقد ذكر الله تعالى هذه الوسطية في كتابه.
ذكرها سبحانه في بيان صفة المنافقين.. فهم يتصفون بهذه الوسطية المذمومة.. {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ}, فالمنافقون وسط بين المؤمنين والكافرين .. لكن وسطيتهم ضلال بَيِّنٌ كما أخبر الله: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا}.
ووصف الله تعالى المنافقين بهذه الوسطية المذمومة في موضع آخر من كتابه الكريم: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا}, فهم لا يريدون أن يخسروا أحد الطرفين.. ولو على حساب الدين.. ويزعمون أنهم وسط بين الأمرين.. فأخبر الله تعالى عنهم أنهم  في فتنة كلما أرادوا أن يخرجوا منها سقطوا فيها.
 نعم .. هذه هي الوسطية المذمومة .. وهي ما كان وسطًا بين حق وباطل..
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم, ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, قد قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّـهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ وراقبوه في السر والنجوى, واعلموا أن أجسادنا على النار لا تقوى .
فيا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. وبعد أن عرفنا الفرق بين الوسطية المحمودة والوسطية المذمومة, فإنه ينبغي على الإنسان أن يسلك طريق الحق, وأن يتمسك بدينه, {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ}.
إن الوسطية الحقة هي وسطية محمد صلى الله عليه وسلم, الذي كانت لا تأخذه في الله تعالى لومة لائم, وكان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه, وكان يعفي لحيته حتى يتبين مَن خلفه قراءته في الصلاة من اضطرابها, وكان يصوم حتى يقال لا يفطر, وكان مقبلاً على الله تعالى في كل وقت وكل حين.
إن الوسطية التي تصورها كثير من وسائل الإعلام هي الوسطية المذمومة, الوسطية التي تعني الأخذَ ببعض الخير وبعض الشر, والوقوفَ وسطًا بين الطاعة والمعصية, فيفعل الوسطي ــ بنظرهم ــ بعض الواجبات والمستحبات, كما يفعل بعض المعاصي ولو جاهر فيها, لأنه وسطي لا متشدد.
إن كثيرًا من وسائل الإعلام اليوم تهاجم كثيرًا التشدد والتطرف, حتى تُدخل فيه ما ليس منه, بل تصورُ من يحافظ على تعاليم دينه, ويتمسك بها.. تصوره بأنه متطرف متشدد.. لا يعرف للحياة قيمة, ولو طَبَّقْتَ كثيرًا من أوصافهم الجائرة للمتشددين لرأيتها تنطبق على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابِه رضوان الله تعالى عليهم.
إن هناك طرفًا مهمًا قد أغفلت أكثر وسائل الإعلام الحديث عنه, ألا وهو التطرف في المعصية, والمجاهرة بها, ولذلك يندر أن تجد في وسائل الإعلام من يتحدث عن المجاهرة بالمعصية, أو عن الأفكار الهدامة التي تدعو لأن تَتْبَعَ الأمة سبيل المغضوب عليهم والضالين في كل شؤون حياتهم حتى فيما يخالف الدين, روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه قَالَ: «لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ»، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اليَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: «فَمَنْ».
لا بأس بالأخذ من صناعتهم وأنظمتهم وكلِّ أمر إيجابي عندهم لا يخالف شرع الله, لكن أن نأخذ من الغرب حتى ما يخالفُ ديننا بزعم التطور والوسطية فهذا المحزن والله.
إن الوسطي معتز بهويته, ملتزم بدينه, مستقيم السيرة, نقي السريرة.
هذه الوسطية الحقة .. وتلك الوسطية الزائفة .. وقد علم كل أناس مشربهم ..
عَلَيْكَ  بِأَوْسَاطِ   الْأُمُورِ   فَإِنَّها *** نَجَاةٌ وَلَا تَرْكَبْ ذَلُولاً وَلَا صَعْبَا
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. اعلموا أن الله تعالى قد أمرنا بالصلاة على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وجعل للصلاة عليه في هذا اليوم والإكثار منها مزية على غيره من الأيام, فللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله .. إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى, وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي, يعظكم لعلكم تذكرون, فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم, واشكروه على نعمه يزدكم, ولذكر الله أكبر, والله يعلم ما تصنعون.
المرفقات

28-6-1439

28-6-1439

المشاهدات 1529 | التعليقات 0