وزَهَق الباطل
عبدالعزيز بن محمد
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَمَّا بَعْدُ:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)
أَيُّها المُسْلِمُون: ثَلاثَةَ عَشَرَ عَاماً يُقاسُونَ الشَّدائِدَ ويُكابِدُونَ الكِيْد، ثَلاثَةَ عَشَرَ عَاماً وَصُنُوفُ مِن النَكالِ تُكالُ لَهُم، ثَلاثةَ عَشَرَ عَاماً مِنْهُم مَنْ قَضَى قَتْلاً، ومِنْهُم مَضَى قَهْراً، ومَنْهُم مَنْ بَقِيَ يُقَابِلُ الشَّدائِدَ ويُواجِهُ التَّعْذِيْبَ.
ثَلاثَة عَشَرَ عاماً ظَلَّ المُؤْمِنُونَ خِلالَها يُسِرُّونَ بإِيْمانِهِم، ويَتَخَفَّونَ في عِبادَتِهِم، ولا يُجاهِرُونَ بِمَظاهِرِ إِسْلامِهِم. ثَلاثَة عَشَرَ عاماً قَضَاها رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في مَكَةَ هُوَ ومَنْ آمَنَ مَعَه، يُلاقُونَ خِلالَها مِنْ الأذى ما يُلاقُون، ويُكابِدُونَ خِلالَها مِنْ الشَّدَائِدِ ما يُكابِدُون. وصَنادِيْدُ الكُفرِ مِنْ قُرَيْشٍ، قَدْ َتَوَاطَؤُوا وأَجْمَعُوا على مُحارَبَتِهِم الإِسْلامِ والقَضاءِ على مُعْتَنِقِيْه. كُفْرٌ وصَدٌّ عَنْ سَبِيْلِ اللهِ ومُحارَبَةٌ لِدِيْنِ اللهِ. حِقْدٌ وكِبْرٌ وغَطْرَسَةٌ وغُرُورٌ وأَمْنٌ مِنْ مَكْرِ الله.
قَالَ عَبدُ اللهِ بنِ مَسْعُوْد رضي الله عنه: (أَوْلُ مَنْ أَظْهَرَ إِسْلامَهُ سَبْعَةٌ: رَسْوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ وَعَمَّارٌ وَأُمُّهُ سُمَيَّةُ وَبِلالٌ وَصُهَيْبُ وَالمِقْدَادُ، فَأَمَّا رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَمَنَعَهُ عَمُّهُ ــ أَيْ وقَفَ مَعَهُ عَمُّهُ أَبَو طالِبٍ فَرَدَّ عَنْهُ كَثِيْراً مِنْ أَذَى الكَافِرِيْن ــ وَأَمَّا أَبُوْ بَكْرٍ فَمَنَعَهُ قَوْمُهُ. وَأُخِذَ الآخَرُوْنَ، فَأَلْبَسُوهُم أَدْرُاعَ الحَدِيْدِ، ثُمَّ صَهَرُوهُم في الشَّمْسِ حَتَّى بَلَغَ الجَهْدُ مِنْهُمْ كُلَّ مَبْلَغٍ..) ــ وكَانَ أَبو جَهْلٍ هُوَ مَنْ يُباشِرُ تَعْذِيْبَ سُمَيَّةَ رَضي الله عَنْها وهِيَ صابِرَةٌ على إِسْلامِها لا تُجِيبُهُم إِلى ما سَأَلُوا. وكَانَتْ امْرأَةٌ عَجُوزٌ ضَعِيْفَةٌ البَدَنِ، قَوِيَّةُ الإِيْمانِ. أَقْبَل عَلِيها أَبوجَهْلٍ يَوماً، فَشَتَمَها، وسَبَّها، ثُمَّ طَعَنَها بِحَرْبَتِهِ فَقَتَلَها، فَكانَتْ أَولُ شَهِيْدَةٍ في الإِسْلام رَضي الله عَنْها . كَانَت هِيَ وزَوجُهَا ياسِرُ بْنُ عامِرٍ العَنْسِيُ، وابْنُها عَمَّارُ بنُ ياسِرِ، مِمَّنْ ابْتُلُوا في دِيْنِهِم فَصَبَروا، وأُوذُوا في اللهِ فما انْحَرَفُوا. مَرَّ بِهِمْ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوماً وَهُمْ يُؤذَوْنَ، فَقَالَ لَهُمْ : (صَبْراً يا آلَ يَاسرَ، صَبْراً يَا آلَ يَاسِرَ، فَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الجَنَّةُ)
وبِلال بنُ رَباحٍ رَضْي الله عَنُه هانَتْ عَلِيْهِ نَفْسُهُ في اللهِ، فَما لَقِيَ أَحَدٌ مِنْ العذَابِ مِثَلَ ما لَقِي. كَانَ المُشْرِكُونَ يَساوِمُونَهُ على الإِيْمانِ لِيَرْتَدَّ، وَكَانَ عَبْداً مَمْلُوكاً للشَّقِيِّ لأُمَيَّةَ بنِ خَلَفٍ، فَكانَ يَخْرُجُ بِهِ إِذَا حَمِيَتِ الظَّهِيْرَةُ، فَيَطْرَحُهُ عَلَى ظَهْرِهِ في بَطْحَاءِ مَكَّةَ، ثُمَّ يَأَمْرُ بِالصَّخْرَةِ العَظِيْمَةِ عَلَى صَدْرِهِ، ثُمَ يَقُوْلُ: لا تَزَالُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى تَمُوْتَ أَوْ تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ»، فَيَأَبَى بِلالٌ أَنْ يُجِيْبَهُ لِمُرَادِهِ، ويُرَدِّدُ وهُوَ تَحْتَ وَطْأَتِ الأَلَم :(أَحَدٌ أَحَدٌ، أَحَدٌ أَحَدٌ) أَي: لا أَعْبُدُ إِلا اللهُ الواحِدُ الأَحد.
وخَبَّابُ بن الأَرَتِّ رَضي اللهُ عَنْهُ مِنَ السَّابِقِيْنَ إِلى الإِسْلام، ومِنْ الثُّلَةِ المُسْتَضْعَفِيْن، اشْتَدَّ بِهِ الأَذى في سَبِيْلِ اللهِ، وكَانَتْ تُعَذِّبُهُ مَولاتُهُ أُمُّ أَنْمارَ الخُزَاعِيَّة. كَانَتْ تُذيْقُهُ مِنْ صُنُوفِ العذابِ ما لا يُطِيْقُهُ بَشَر. قَالَ خَبَّابٌ رضي الله عنه: (شَكَوْنَا إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً في ظِلِّ الكَعْبَةِ، وَقَدْ لَقِيْنَا مِنَ المُشْرِكِيْنَ شِدَّةً، قُلْنَا له: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ أَلَا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟ قالَ: كانَ الرَّجُلُ فِيمَن قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ له في الأرْضِ، فيُجْعَلُ فِيهِ، فيُجَاءُ بالمِنْشَارِ فيُوضَعُ علَى رَأْسِهِ فيُشَقُّ باثْنَتَيْنِ، وما يَصُدُّهُ ذلكَ عن دِينِهِ، ويُمْشَطُ بأَمْشَاطِ الحَدِيدِ ما دُونَ لَحْمِهِ مِن عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وما يَصُدُّهُ ذلكَ عن دِينِهِ، واللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هذا الأمْرَ، حتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِن صَنْعَاءَ إلى حَضْرَمَوْتَ، لا يَخَافُ إلَّا اللَّهَ، أَوِ الذِّئْبَ علَى غَنَمِهِ، ولَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ) رواه البخاري
ثَلاثَ عَشَرَةَ سَنَةٍ في كُلِّ يَومٍ مِنْ أَيامِهَا يُلاقِيْ المُؤْمِنُونَ مِنَ الأَذى ما لا يُطَاق. ولَوْلا تَثْبِيْتُ اللهِ لَهُم لَما ثَبَتُوا، ولَولا لُطْفُ اللهِ بِهِم لَما صَمَدوا. ومَنْ لَمْ يَكُنِ لَهُ في الإِيْمانِ رُسُوخٌ ولَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ اللهِ مَدَدٌ، انْقَلَبَ أَمامَ أَولِ بَلاءٍ، وارْتَدَّ أَمامَ أَوَلِ كَبَد {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} ثلاثَ عَشَرَةَ سَنَةً أُذِنَ بَعْدَها للمُؤْمِنِيْنَ بالهْجْرَةِ إِلى المَدِيْنَةِ، أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِم وأَمْوالِهِم، هاجَرُوا إِلى دِيارٍ لَيْسَ لَهُم فيها دارٌ، ولَيْسَ لَهُم فيها ضَيْعَةٌ، وليسَ لَهُم فِيْها نَسَب. ولَكِنَّهُم آثَرُوا رِضا اللهِ على أَهوَائِهِم، وقَدَّمُوا دِيْنَ اللهِ على دُنْياهُم. {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ}
وخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلى الله عليه وسلم مِنْ مَكَةَ مُهاجِراً. خَرَجَ مِنْها مُتَسَلِّلاً مُطارَداً. وقَدْ مَكَرَ بِهِ الكُفَّارُ أَكْبَرَ مَكْرٍ، وكادُوا لَهُ أَعْظَمَ كَيْدٍ، وَتَمَالَؤُوا على قَتْلِه {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}
خَرَجَ مِنْ مَكَةَ، ومَا مِنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِهِا إِلا وقَدْ خَرَجَ يَطْلُبُ أَثَرَهُ لِيَظْفَرَ بِه، واخْتَفَى رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم مَعَ وأَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه في الغَارِ ثلاثَ لَيالٍ، وعِنايَةُ اللهُ تُحِيْطُ بِهم {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}
إِنَّها سُنَنُ اللهِ في ابْتِلاءِ المُؤْمِنِيْن، ماضِيَةٌ في السَّابِقِيْن، وتَتَجَدَّدُ في اللاحِقِيْن، والعَاقِبَةُ فيها لِلْمُتَّقِيْن، تُرْفَعُ فيها مَنازِلُ الأَوْلِياءِ، وتُعْظُمُ فِيْها حَسَراتُ الأَشْقِياءِ، واللهُ لا يُضِيْعُ أَجْرَ الصَّابِرِيْن {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} بارك الله لي ولكم..
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ رَبِّ العَالمين، وأَشْهَدُ أَن لا إله إلا اللهُ ولي الصالحين، وأَشْهَدُ أَنَّ محمداً رسول رب العالمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وسلم تسليماً أما بعد: فاتقوا الله عباد الله لعلكم ترحمون
أيها المسلمون: هاجَرَ رَسُولُ اللهِ صَلى الله عليه وسَلَّمَ مِنْ بَلَدِهُ مَكَةَ مُحارَباً مُتَتَبَّعاً مَقْصُوداً، خَرَجَ مُتَسَلِّلاً مَتَخَفِّياً وكَانَ بالنَّصْرِ مِنْ رَبِهِ مَوْعوُداً. خَرَجَ وخَرَجَ بِصُحْبَتِهِ الصِّدِّيْقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ صَاحِبُهُ الوَفِيُّ، ومُرافِقُهُ الأَبِيُّ. خَرَجا، فَما مِنْ خُطْوَةٍ يَخْطُوانِها إِلا وهِيْ بِعَيْنِ اللهِ تُرْعَى، ومَا مِنْ أَرْضِ يَطَآنِها إِلا وهِيْ بأَمْرِ اللهِ تَلِيْن. خَرَجاَ كَارِهَيْنِ وغَداً سَعُودا إِليها مُنْتَصِرَيْن، خَرَجَا :
وَمَشَى التَّارِيْخُ مِنْ خَلْفِهِمَا ** مُرْهَفَ الآذَانِ تَرْنو مُقْلَتَاه
في يَدَيْهِ لَوْحُةٌ، مَا همَسَا ** هَمْسَةٌ إِلا وَخَطَّتْهَا يَدَاه
إِنْ يَكُنْ هَاجَرَ مِنْهَا كَارِهًا ** فَغَدًا يَأَتِيْ عَلَى رَأَسِ الغُزَاة
وَغَدًا يُشْعِلُهَا بَيْضَاءَ في ** بَلَدٍ جَارَ عَلَيْهِ وَنَفَاه
وَغَدًا يَعْفُو، وَلَوْ شَاءَ غَدَا ** كُلُّ مَكِّيِّ غَرِيقًا في دِمَاه
وَغَدًا يَجْنِيْ رُؤُوْساً أَيْنَعَتْ ** فِيْ القِصَاصِ العَدْلِ للنَّاسِ حَيَاه
وَمِنَ العَفْوِ ضِرَارٌ وَأَذَى ** وَمِنَ العَفْوِ عِقَابٌ لِلجُنَاة
يَا طَرِيدًا، مَلأَ الدُّنْيَا اسمُه ** وَغَدَا لحنًا عَلَى كُلِّ الشِّفَاه
وَغَدَتْ سِيرتُه أُنْشُودَةٌ ** يَتَلَقَّاها رُواةٌ عَنْ رُوَاه
لَيْتَ شِعْرِيْ: هَلْ دَرَى مَنْ طَارَدُوْا ** عَابِدُو اللاتِ، وَأَتْبَاعُ مُنَاه؟
طارَدُوا فِيْ الغَارِ مَنْ بوَّأَهمْ ** مَقْصِدًا لا يَبْلُغُ النَّجْمُ مَدَاه
طارَدُوا رَسُولاً لَمْ يَخْلُقِ اللهُ في العِبادِ أَكْرَمَ مِنْه. طَارَدُوهُ وأَخْرَجُوه. فأَخْرَجُوا مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِم عِزَّ الحَياةِ وعِزَّ المَماتِ {ومَنْ يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِم}
وتَوَالَتِ السِّنِيْنُ تِباعاً، وتَقَلَّبَتْ الأَيامُ بالمؤْمِنِيْنَ بِسَرَّائِها وضَرَّائِها، وبِعُسْرِها ورَخائِها، وفي شَهْرِ رَمَضَانَ من السَّنَةِ الثَّامِنَةِ مِنْ الهِجْرَةِ. دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَكَةَ التي أُخْرِجَ مِنْها. دَخَلَها ومَعَهُ أَصْحابُهُ فاتِحِيْن. دَخَلُوها بِخُشوعٍ شاكِرِيْن، دَخَلُوها بِشُمُوخٍ قَاهِرِيْن، وصَنادِيْدُ الكُفْرِ جَاؤوا صَاغِرِيْن. نُكِّسَتْ أَصْنَامُهُم، كُسِّرَتْ أَوثَانهُم، ورَسولُ اللهِ يَتْلُوا قَولَ رَبِّ العَالَمِيْن {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}
(إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) فَما يَعْلُوا في الفَضاءِ صَوتٌ فَوقَ صَوتِكَ يا بِلال.
قُمْ فأَذِنْ بالصَلَاةِ، اعْتَلى الكَعْبَةَ نادَى: (اللهُ أَكْبَر، اللهُ أَكْبَر) جَلْجَلَتْ في الأُفْقِ أَلْحانُ صَداه. إِنَّهُ الفَتْحُ المُبِيْن، إِنَّهُ الوَعْدُ المُحَقَّق، قَالَ رَبُّ العَالَمِيْن {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا}
إِنَّ وعَدَ اللهِ آتٍ، طَابَ سَعْيُ الصَّابِرِيْن. كَمْ فُتُوحٍ قَدْ تَوَالَتْ، قَدْ تَلَتْ تِلْكَ الفُتُوح؟! كَمْ بِشاراتٍ قَدْ تَجَلَّتْ، بَرِأَتْ فِيْها الجُرُوح. كَمْ رأَيْنا مِنْ عَطاءٍ، أَبْهَجَ مَنْ كَانَ يَنُوح. أَضْحَكَ مَنْ كَانَ يَبْكِيْ، جَاءَ بالوَجِهِ الصَّبُوح. تِلْكَ شامٌ قَدْ كَساها فَرَحٌ تُذْكِيْهِ رُوح. أَبِشِرِيْ يا قُدْسُ هذا، فَرجٌ بالأُفْقِ يَلُوح. (نَتَنٌ) أَطْغَاهُ كِبْرٌ، جُنُدُهُ تَعْلُو السُّفُوح، وغَداً يُرْمَى بِذُلٍّ، لا يُلَبَّى للنُّزُوح. يُؤَخَذُ الثأَرُ وَفِياً، دِيْنُنا عَالِ الصُرُوح. إِنَّ وعَدَ اللهِ آتٍ، طَابَ سَعْيُ الصَّابِرِيْن.
اللهمَّ إنه لا حول لنا ولا قوة إِلا بك.. كُن لنا ولياً ونصيراً..
المرفقات
1734607912_وزهق الباطل 19ـ 6 ـ1446هـ.docx
منصور بن هادي
عضو نشطجزاك الله خير الجزاء
تعديل التعليق