ورجل قلبه معلق بالمساجد
عبدالرحمن عبدالعزيز القنوت
أيها المؤمنون: جاء عند مسلم في صحيحه، قال ﷺ: "تُدْنَى الشَّمْسُ يَومَ القِيامَةِ مِنَ الخَلْقِ، حتَّى تَكُونَ منهمْ كَمِقْدارِ مِيلٍ. قالَ سُلَيْمُ بنُ عامِرٍ: فَو اللَّهِ ما أدْرِي ما يَعْنِي بالمِيلِ؟ أمَسافَةَ الأرْضِ، أمِ المِيلَ الذي تُكْتَحَلُ به العَيْنُ. قالَ: فَيَكونُ النَّاسُ علَى قَدْرِ أعْمالِهِمْ في العَرَقِ، فَمِنْهُمْ مَن يَكونُ إلى كَعْبَيْهِ، ومِنْهُمْ مَن يَكونُ إلى رُكْبَتَيْهِ، ومِنْهُمْ مَن يَكونُ إلى حَقْوَيْهِ، ومِنْهُمْ مَن يُلْجِمُهُ العَرَقُ إلْجامًا. قالَ: وأَشارَ رَسولُ اللهِ ﷺ بيَدِهِ إلى فِيهِ.
وقال ﷺ: " يَعْرَقُ النَّاسُ يَومَ القِيامَةِ حتَّى يَذْهَبَ عَرَقُهُمْ في الأرْضِ سَبْعِينَ ذِراعًا، ويُلْجِمُهُمْ حتَّى يَبْلُغَ آذانَهُمْ" رواه البخاري.
أيها الأحبة.. فمن شدَّة الكرب في المحشر، ودنوِّ الشَّمس من الرُّؤوس؛ وشدة حرارتها، وازدحام الناس، يذهَب عرقُهم في الأرض سبعين ذراعًا، ويغمرهم حتى يبلُغَ آذانَهم، وبينما الناس في عرقهم، في ذلك اليوم العصيب؛ ينعم الله برحمته على أصناف من الناس بأن يظلهم بظله، تحت ظل عرش الرحمن تبارك وتعالى، في ذلك اليوم الذي يكون جميع الخلق فيه أحوج إلى الظل البارد، ذلك اليوم الذي تدنو فيه الشمس الحارة الملتهبة من الخلائق.
يا عباد الرحمن: وتعلق القلب بالمساجد ممن يستظل بظل الرحمن، ويرتفع إلى ذلك المقام الرفيع، في رحمة الله ورعايته.
في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: " سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ: إِمامٌ عادِلٌ، وشابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّه تَعالى، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ في المَسَاجِدِ، وَرَجُلانِ تَحَابَّا في اللَّه: اجتَمَعا عَلَيهِ، وتَفَرَّقَا عَلَيهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ، وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخافُ اللَّه، ورَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فأَخْفَاها، حتَّى لا تَعْلَمَ شِمالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينهُ، ورَجُلٌ ذَكَرَ اللَّه خالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ".
أيها المسلمون: إن مدار العبادة على القلب، فالدين يعتنى بالقلب عناية فائقة، ويقصد صلاح القلب من كل جانب؛ لأن القلب إذا صلح صلح كيان الإنسان كله، صلحت أقواله، وأفعاله، وصلحت أخلاقه وقيمه ومبادئه، قال ﷺ: " ألا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً، إذا صَلَحَتْ، صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذا فَسَدَتْ، فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وهي القَلْبُ". ولذلك كان نور الله وهدايته في قلب المؤمن، قال أبي بن كعب -رضي الله عنه-: "فهو يتقلب في خمسة من النور، فكلامه نور، وعمله نور، ومدخله نور، ومخرجه نور، ومصيره إلى النور يوم القيامة، في الجنة".
فهذا الرجل الذي ورد في الحديث له مع المسجد علاقة فريدة، ليست لغيره من المصلين، فغالب المصلين يأتون إلى المسجد لأداء الصلاة فحسب، وهذا خير، ولا تكاد قلوبهم تكون معهم في المسجد أثناء أداء تلك الصلاة، وقد تكون خارج المسجد، فالذي يحملهم إلى المجيء إلى المسجد إنما أداء التكليف، وإبراء الذمة بإقامة الصلاة، لكن هذا الرجل له مع المسجد شأن آخر، له مع المسجد علاقة تجاوزت حدود حركة الجسد، تجاوزت حدود أداء الفرائض، إنها علاقة حميمة، علاقة أنس قلبي، وانشراح وسرور يجده في بيت الله، ولا يجد مثيله في غيره من الأماكن.
وهذه اللذة التي يجدها في المسجد جعلت قلبه معلقا فيه باستمرار، وقد جاء في الحديث في صحيح مسلم: " ورجلٌ قلبُهُ مُعَلَّقٌ بِالمسجدِ إذا خرجَ مِنْهُ حتى يَعُودَ إليهِ".
هل لكم أن تتصوروا قلبا كهذا القلب، يظل معلقا بالمسجد، حتى يعود إليه.
أيها الإخوة: لولا قرب هذا الرجل من ربه تبارك -تعالى-، لولا حبه لله، لولا شعوره وإحساسه العميق بأنه وهو في المسجد إنما في بيت محبوبه الأعظم -تبارك وتعالى-، ومن خرج من بيت محبوبه تاق إلى العودة إليه، منذ اللحظة التي يخرج فيها منه، فلا يكاد قلبه يهدأ ويطمئن ويسكن حتى يدخل ذلك البيت مرة أخرى.
فهناك يجد سروره وأنسه وسعادته، ولذلك كان النبي ﷺ؛ كما أخبرت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد، فصلى فيه" دليل على تعلق قلبه صلى الله عليه وسلم بالمسجد.
صح في مسلم من حديث أبي هريرة عن رسول الله ﷺ: أنه قال: "أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها".
من الناس من يجد سروره في الأسواق، فقلبه معلق بها حتى يعود إليها، ومن الناس من يجد سروره في المسارح، فقلبه معلق بها، ومن يجد سروره على المدرجات، فقلبه معلق بها، ومنهم من يجد سروره في السفر. فقلوب العباد تتعلق بالأماكن بحسب ما فيها، ما في تلك القلوب من خير وشر، إيمان وكفر، وقرب من الله وبعد عنه.
إن قيمة الأشياء تختلف بين إنسان وآخر، فبينما تجد أحد المسلمين ينتهز أقرب فرصة كي يزور بيت الله الحرام، تجد مسلما آخر لا يعيره ذلك الأمر أدنى اهتمام، ولا حتى مجرد التفكير فيه، ولا حتى على سبيل التمني، ولو طال مكثه عند البيت الحرام سنوات وسنوات؛ لأن قلبه معلق بأماكن أخرى أكبر قيمة عنده، ليس منها بيت الله الحرام.
الخطبة الثانية
أيها المؤمنون: فتعلق القلب بالمسجد يعني تعلق القلب بالله -تعالى-، والمحب يستأنس بذكر محبوبه، وكونه في قلبه لا يفارقه، فهو أنيسه وجليسه، لا يستأنس بسواه.
وتعلق القلب بالمسجد لا يستلزم منه دوام المكث فيه. وليس ذلك بالضرورة؛ لأن المعلق بالمسجد إنما هو القلب لا الجسد، وإن كان طول المكث في المسجد مندوبا إليه، لكن الحديث نص على القلب، بمعنى أن هذا العبد كغيره من الناس، يسعى في طلب رزقه، ويشتغل ليسد حاجته، وحاجة عياله، ويغدو ويروح، ويعالج الحوائج، لكن قلبه دائم الشوق للمسجد، ينتظر الأذان بحرارة المتلهف، ولن يكون آخر الناس دخولا.
وقال رسول الله ﷺ كما في الحديث الصحيح: "ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط" رواه مسلم
فالذي ينتظر الصلاة، يتعلق بها، بأن يجلس في المسجد ينتظرها، أو يكون في بيته، أو يشتغل بكسبه وقلبه متعلق بها ينتظر حضورها، كما قال رسول الله ﷺ: "ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه".
كلنا يرجو أن يظله الله تعالى بظله يوم لا ظل إلا ظله، لكن الأماني لا تصنع شيئا.
يجب أن يكون القلب محل عناية كل مسلم، ولن يرتقي القلب إلى تلك العلاقة الحميمة بينه وبين المسجد، حتى يحرص صاحبه على تزكيته وتطهيره من أدران الذنوب، صغيرها وكبيرها، وحينها سيكون قلبه دائم الشوق لبيت الله: (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)