وذكرهم بأيام الله

عبدالرحمن اللهيبي
1445/01/09 - 2023/07/27 22:26PM

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَخُذُوا مِنْ مُرُورِ الْأَيَّامِ عِظَاتٍ وَعِبَرًا، وَمِمَّا بَقِيَ مِنْ أَعْمَارِكُمْ زَادًا يكون لكم عند الله نجاة وذُخْرًا.. (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون)

أَيُّهَا المسلمون: التَّذْكِيرُ بِأَيَّامِ اللَّـهِ تَعَالَى تَذْكِيرٌ بِمَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ، وَأَيَّامُ اللَّـهِ تَعَالَى هي أيامُ نصرِه لأوليائه، وَعَذَابِه لِأَعْدَائِه، فَإن التذكير بالنِّعَمِ يُؤَدِّي إِلَى شكرها، والتذكير بانْتِقَامِ اللَّـهِ تَعَالَى مِنَ الْكُفَّارِ وَالْفُجَّارِ يُؤَدِّي إِلَى الْخَوْفِ وَالْحَذَرِ وَالتَّوْبَةِ وَالْإِنْابَةِ. (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ )

وَمَنْ قَرَأَ قَصَصَ المُرْسَلِينَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ؛ وَجَدَ فِيهَا تَذْكِيرًا كثيرا بِأَيَّامِ اللَّـهِ تَعَالَى، فَكُلُّ نَبِيٍّ يُذَكِّرُ بِهَا قَوْمَهُ؛ لِئَلَّا يُصِيبَهُمْ مَا أَصَابَ مَنْ كَان قَبْلَهُمْ.

﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّـهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾

ولقد كان يوم نجاة موسى وقومِه من فرعون وجنده في اليوم العاشر من شهر الله المحرم ..

فها أنتم أيها المسلمون في هذا اليومِ العظيم من أيام الله، وإنه ليوم نصومه لله شكرا ، فهو يوم أعز اللهُ فيه رسولا من رسل الله ، وأذلَ فيه جبارا من جبابرة الأرض، إنه اليومُ الذي نجى الله فيه موسى عليه السلام ، وأهلكَ فرعونَ الذي علا وتجبر بالكفر والطغيان، فأذاقَ بني إسرائيل ألواناً من العذابِ وصنوفاً من الاضطهاد، حتى بلغَ به العدوان منتهاه، ووصلَ به الظلمُ مداه إلى أن يقتلَ أطفالَ بني إسرائيل الأبرياء، يفعلُ ذلك خوفاً من الغلامِ المنتظر، الذي سيكونُ على يديه تقويضُ ملكه، وإسقاطُ عرشه،  كما ابلغه بذلك كهنتُه.

وبينما هو كذلك يقتل أبناءهم ويستحي نسائهم، إذ به وملئِه يشعرونَ بتناقصِ رجال بني إسرائيل الذين سُخروا لقضاءِ حوائِجِئهم، وخدمةِ مصالحهم، فاتخذوا قراراً بأن يقتلَ الأطفال الصغار عاماً دون عام ، وذلك من أجلِ الإبقاءِ على بعضهم، وعدم قطعِ دابرهم.     

فيا لله العجب ! هكذا صنع الفراعنةُ القرار، لقد بلغَ بهم الغرور والجبروت مبلغه، ووصلَ بهم الكبرياءُ والطغيان ذروته، حتى ظنوا أن مقادير الخلق بأيديهم، متناسينَ تماماً مَن بيده ملكوت كل شيء وبيده الأمر كله ، يقضي ما يشاء ويفعل ما يريد فقال تعالى : (( وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ))

إن الله أراد أن يجعلَ هؤلاء المستضعفين أئمةً بعد أن كانوا عبيدا ، وسادة بعد أن كانوا أرقاءَ، يريدُ سبحانه أن يقلبَ الضعيف قوياً، والمقهور قاهراً، والذليل عزيزا ..

وها هو أمر الله الذي لا مرد له يتجلى، فقد قضى الله أن يولد موسى عليه السلام في السنة التي يُقتل في الأطفال! فيا لله العجب ألم يكن الله قادر على أن يجعل ولادة موسى في السنة التي لا يقتل فيه أبناء بني إسرائيل؟ بلى فهو سبحانه الذي {إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ولكن ليعلم فرعون وملؤه أنهم أمام قدرة الله عاجزون ، فولد موسى والقتَلة من حوله يتربصون به ، وأمهُ حائرة به وخائفة عليه، تنتظر متى يصل إليها جنود فرعون ، عاجزة عن حمايتِه، عاجزةٌ حتى عن إخفائِه،

والله يدبر الأمر كله من فوق سبع سموات: ( وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ)).

يا أمَّ موسى أرضعيه، فإذا خِفْتِ عليه وهو في حُضُنِك، فإذا خِفْتِ عليه وهو في رعايتك، ] فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ [

فيا عجبا! كيف يمكنُ لقلبٍ يكادُ يتفطرُ خوفاً وإشفاقاً على فلذةِ كبدِها، وهو بين أحضانهِا، كيف لها وهي في هذه الحال أن تلقيَه في البحر .. نعم هذا أمر الله وتدبيره، ألقيه في اليم : (( وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي )) فإن رعايته ليست موكولة إليك، إنه في رعايةٍ لا أمن إلا في جوارها، أليس هو الله الذي جعل النار على إبراهيم برداً وسلاماً، وجعل البحر لموسى ملجأً ومناماً

إنها رعاية الله التي لا يجرؤ فرعونُ أن يدنوا من حماها..

ثم يبشر اللهُ أمَ موسى بقوله (( إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ )) , إذن فلا خوفَ على حياته، ولا حزنَ على بُعده، فبشرها بعودة طفلها إليها ، وعد الله الذي لا يخلف وعده ، ولكن ثمة بشارة أخرى من الله هي أجل وأعظم (وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) .

فما الذي جرى لموسى بعد أن ألقته أمه في اليم؟ (( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ))  سبحان الله! وهل كانتْ أمه المسكينةُ تخشى عليه إلا من آلِ فرعون ؟ الذين كانوا يبعثون العيون على قوم موسى، كي لا يُفلت منهم طفلٌ ذكر، فإذا بالطفل ذاتِه، الطفلِ الذي يكون على يديهِ زوالُ ملكِهم ونهايةُ سلطانِهم، يأتى إليهم بلا بحثٍ ولا عناء، يأتي إليهم مجرداً من كل قوة بشرية، عاجزاً عن كل شيء حتى أن يستنجد بغيره، نعم، إنه الله العليم الحكيم ، فقد قضى بحكمته أن يأتي إليهم الطفل (( لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً )). ليكون لهم عدواً يتحداهم، وحزناً يُدخل الهم على قلوبهم..

(( وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ )).

ثم تأتي البشارة الأول من الله بإعادته إلى أمه : ((وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ )) فيعود الطفلُ الغائبُ إلى أمه الملهوفة، معافىً في بدنه، مرموقاً في مكانته، يُقتل الأطفال من حولـه، وهو آمنُ قرير،  (( فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ )).

ثم أصبح موسى عليه السلام شابا جلدا قويا متألما لما يجري لبني قومه من الإذلال والقتل والمهانة والاستعباد فرأى موسى في ليلة من الليالي رجلا من بني إسرائيل يستنجد به على رجل يعتدي عليه من آل فرعون فوكزه موسى فقتله.. فغضب عليه الفراعنة ، وفر موسى إلى أرض مدين، والقصةُ فيها العديدُ من الأحداث والتفاصيل.. ولكن يكفينا هنا أن نعرفَ كيف عاد موسى إلى أرضِ مصر بعد عشرِ سنين رسولاً مبلِغاً، ونبياً مكلَّما  (( فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآياتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ ))  هكذا كان جواب فرعون لدعوة موسى له (( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي)) إنها كلمةٌ فاجرةٌ كافرةٌ، تكاد تخر لها الجبال هدا، فيُقذف ذلك المتأله الدجال في اليم كما تقذف الحصاة الصغيرة فيه، ((فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ )).

وذلك حين أمر الله موسى أن يسري بقومه إلى جهة البحر ، فوقف موسى وقومُه على شاطئ البحر، وفرعون وجنوده مقبلون عليهم، فالبحر أمامهم وفرعون من ورائهم، فتأمّل هذا السياق العجيب، من كلام ربنا الجليل حيث يصف لنا هذا المشهد العظيم، بقوله تعالى : (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ )

فتأمل –يا رعاك الله- عظيم قدرة الله -جل في علاه-: البحر العظيم السيال يجتمع بعضه على بعض ثم يجمد ليكون كالجبل العظيم، ويفتح لموسى وقومِه طريقا يابسا كأنه لم يكن به ماء من قبل ، فيا عجبا! كيف لبحر أن يكون هكذا، لكنه أمر الله النافذ الذي لا مرد له ..

ولما وصل فرعون وجنوده إلى البحر وخرج موسى ومن معه إلى الطرف الآخر.. أراد موسى -عليه السلام- أن يضرب بعصاه البحر؛ حتى لا يدخل فرعون فيصل إليهم، لكن التدبير هنا ليس لموسى بل هو لله فقال الله -عز وجل-: (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ)

فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ * وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى))
فدخل البحر وتبعه قومه معه؛ فلما تكاملوا دخولا من أولهم إلى آخرهم , ارتطم عليهم الماء فغرقوا أجمعين.

إنه اليمُّ ذاته الذي أُلقى فيه موسى طفلا رضعياً، فكان ملجأً ومناماً, وهو اليم ذاته يُنبذ فيه فرعونُ وجنوده، فكان عليهم عذابا وهلاكا

فالأمنُ يا عباد الله إنما يكون في جنابِ الله ، والمخاوف والمهالك إنما تكون في الإعراض عن الله ..

أقول قولي هذا ...

 

:أما بعد : أيها المسلمون

وهكذا طويتُ صفحةُ ذلك الطاغيةِ العنيد، وأصبح أثراً بعد عين، وعبرةً تتناقلها الأمم والأجيالُ

في رسالة قرآنية واضحةٌ المعالم، بينة الألفاظ ، قد تكررت في القرآن كثيرا لتؤكد: أن التدبير كله لله، وأن الخلق كلَّهم ضعفاء محاويج لا يقدرون مطلقا على الخروج عن قضاء الله ، وأن الباطل مهما انتفخ وانتفش وعظم فإن له يوما يدمغه فيه الحق فإذا هو زاهق ، وأن الصراع بين الحق والباطل مهما امتد أجله، فإن العاقبة للمتقين.. وأن للمستضعفين يوما ينصرهم الله ، متى ما حققوا أسباب النصر والفرج والتمكين.

وأنَّ لِلطُّغَاةِ المُجْرِمِينَ فِي أنحاء الْأَرْضِ الَّذِينَ أَنْزَلُوا بِالمُسْلِمِينَ الْخُطُوبَ، وَاسْتَبَاحُوا الْحُرُمَاتِ، وَتَحَالَفُوا عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ لِإِفْنَائِهِمْ والقضاء عليهم... أَنَّ لَهُمْ يوما مِنْ أَيَّامِ اللَّـهِ تَعَالَى يكْتَبُ الله فِيه ذُلّهمْ، وَتَهْوِي فِيه عُرُوشُهُمْ، وَتَتَمَزَّقُ فيه دُوَلُهُمْ، ولن ينفعهم فيه قُوَّتُهُمْ وَجَمْعُهُمْ

ألا فاتقوا الله عِبَادَ اللَّـهِ- واعلموا أنَّنَا نَرْفُلُ فِي نِعَمٍ تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى، وقد أخبرنا الله تَعَالَى في كتابه عن أَيَّامه فِيمَنْ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّـهِ كُفْرًا، فَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ، وَإِنَّنَا بِشُكْرِ النِّعَمِ بالطاعات نحفظُها، وَبِكُفْرِهَا بالمعاصي نَمْحَقُهَا  فقَدْ قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ فِي مَعْرِضِ تَذْكِيرِهِم بِأَيَّامِ اللَّـهِ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾

نَعُوذُ بِاللَّـهِ تَعَالَى مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِهِ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِهِ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِهِ، وَجَمِيعِ سَخَطِهِ

فنسأل الله تَعَالَى أَنْ لَا يُؤَاخِذَنَا بِذُنُوبِنَا وَلَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا، وَأَنْ يُعِينَنَا عَلَى مَا يُرْضِيهِ، وَأن يُجَنِّبَنَا مَا يُسْخِطُهُ.

اللهم أصلح أحوالنا وأحوال المسلمين في كل مكان

اللهم اغفر ذنوبنا ، واستر عيوبنا ، واقض ديوننا ، واشف مرضانا ، وعاف مبتلانا ، وفرج همومنا ، ونفس كروبنا.. وأصلح ولاة أمورنا ..

المشاهدات 1509 | التعليقات 0