وخالق الناس بخلق حسن

وليد الشهري
1445/05/29 - 2023/12/13 21:51PM

وخالق الناس بخلق حسن

     الحمد للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدِ اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يُضللْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، صلى الله وسلَّمَ عليه وعلى آله وصحبِه، ومن اهتدى بهديِهِ،  واستنَّ بسنتِه إلى يومِ الدين .

     ( يا أيُّها الناسُ اتقوا ربَّكمُ الذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ وخلقَ منها زوجَها وبثَّ منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلونَ به والأرحامَ إنَّ اللهَ كان عليكم رقيبا )، ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللهَ حقَّ تقاتِه ولا تموتنَّ إلا وأنتم مسلمون )، ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً ، يُصلحْ لكُم أعمالَكم ويغفرْ لكم ذنوبَكُم ومن يطع اللهَ ورسولَه فقد فازَ فوزاً عظيماً ).

أمـــا بعـــــد ،،

     فعن أبي هريرةَ – رضي الله عنهما – قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( من نفَّسَ عن مؤمنٍ كربةً من كُربِ الدنيا، نفَّسَ الله عنه كربةً من كُربِ يومِ القيامة، ومن يسَّرَ على معسرٍ يسَّرَ الله عليه في الدُّنيا والآخرة، ومن سترَ مسلماً سترهُ اللهُ في الدنيا والآخرة، والله في عونِ العبد ما كان العبدُ في عونِ أخيه ) [مسلم] .

     إخوةَ الإيمان .. من تأملَ النصوصَ الواردةَ في حُسنِ الخلقِ فإنَّه يَعْجَبُ من عِظَمِ شَأنِه وعُلوِّ مكانتِه، فقد قَرَنَ اللهُ حقَّ الخَلقِ بحقِّه وأمرَ بالإحسانِ إليهم فقال : ( واعبدوا اللهَ ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدينِ إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكينِ والجارِ ذي القربى والجارِ الجُنُبِ والصاحبِ بالجنبِ وابنِ السبيلِ وما ملكت أيمانكم ) [النساء:36]، وأمَرَ بالإحسانِ للناسِ جميعاً فقال تعالى : ( وأحسنوا إنَّ اللهَ يُحبُّ المحسنين ) [البقرة:195] .

     الخُلُقُ عبادةٌ يُتقرَّبُ بها إلى اللهِ تعالى كسائرِ القُرب، بل هو من أجلِّها وأعظمِها، وإنَّه من الغريبِ أن تجدَ بعضَ الناسِ يَحرصونَ على أداءِ الواجباتِ ويكثرونَ من النوافلِ والمندوباتِ لكن لا يهتمَّونَ كثيراً بجانبِ التعاملِ مع الخَلْق، فرُبَّما تجدُ الحسدَ والحِقدَ والكراهيةَ والتهاجرَ وإخلافَ الوعدِ، وتجدُ القطيعةَ والتقصيرَ في حقِّ الوالدين، وكأنَّ معاملةَ الخلقِ ليستْ عبادةً أو ليستْ من الدِّين .

    الخُلُقُ - يا عبادَ الله - أن يكونَ الإنسانُ كثيرَ الحياءِ، صدوقَ اللسانِ، قليلَ الكلامِ في غيرِ فائدةٍ، كثيرَ العملِ ومُتفاني في خدمةِ إخوانِه، قليلَ الفضولِ، بَرَّاً وصولاً وَقُوراً راضياً حليماً عفيفاً شفيقاً، لا لعَّاناً ولا سبَّاباً ولا نمَّاماً أو مغتاباً، ولا بخيلاً ولا حسوداً، بل كريماً مُبتسماً في وجوهِ إخوانِه، في الحديث الصحيح : ( إنَّ اللهَ أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخرَ أحدٌ على أحد، ولا يبغيَ أحدٌ على أحد ) [صحيح ابن ماجه] .

    يقول النبيُّ - عليه الصلاة والسلام - : ( اتق اللهَ حيثُما كنت، وأتْبِعِ السيئةَ الحسنةَ تَمحُها، وخالقِ الناسَ بخلقٍ حسن ) [صحيح الترغيب]، وقال - عليه الصلاة والسلام - : ( إن المؤمنَ ليدركُ بحسنِ خُلُقِه درجةَ الصائمِ القائم ) [صحيح أبي داود] ، رُبَّما حُرِمَ بعضُ الناسِ قيامَ الليلِ بسببِ تقصيرِه، ولا يقوى على الصيامِ، لكنَّهُ قد سبَقَ كثيراً مِن أهلِ هاتينِ العبادتينِ بحسنِ خلقِهِ ولِينِ معاملتِهِ مع الناسِ، ففي الحديث : ( ما من شيءٍ أثقلُ في ميزانِ العبدِ المؤمنِ يومَ القيامةِ من خُلُقٍ حَسَن وإنَّ اللهَ ليُبغضُ الفاحشَ البذيء ) [صحيح الترمذي] ، وسُئل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن أكثرِ ما يُدخلُ الناسَ الجنةَ فقال : ( تقوى اللِه وحسنُ الخلق ) [صحيح الترغيب]، وهو - عليه الصلاة والسلام - زعيمٌ ببيتٍ في أعلى الجنةِ لمن حَسُنَ خُلُقه، وإنَّ من أحبِّ الناسِ إليه وأقربِهم مجلساً أحاسِنُهم أخلاقا، فماذا سَتُقَدِّمُ من أجل أن يحبك الله؟

     إنه صبرٌ مع الخُلُقِ لتنلْ محبةَ ربِّ الخَلْق، وإن كان الخُلُقُ مع البهائمِ لك فيه أجرٌ كالمرأةِ البغيِّ التي أحسنت إلى الكلبِ وسقتْهُ من ظمأٍ كان لها بذلكَ الجنة، فما بالك بالإحسانِ إلى إخوانِك المسلمين؟ وما الأجرُ المترتبُ على ذلك؟ إنه توجيهٌ نبويٌّ كريم : ( وخالقِ الناس بخلقٍ حسن ) [صحيح الترمذي]، وكذلك الحـذرُ من مصائدِ الشيطان والوقوعِ في شَرَكِه، تأملوا في قوله تعالى : ( وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسنُ إنَّ الشيطانَ ينزغُ بينهم إن الشيطانَ كان للإنسانِ عدواً مبيناً ) [الإسراء:53] ما أجملَ الكلمةَ الطيبة، وما أحسنَ الابتسامةَ المشرقةَ، وما أروعَ التعاملَ الجميل، لَمَّا يحتاجُ أخوكَ المسلمُ أن تفسحَ له في الطريقِ إذا التقيتُما وأنتما في سيارتَيكُما فلا يُكلِّفُكَ هذا العملَ سوى ثانيتينِ أو ثلاث، ولكنِ انظرْ ماذا تركتَ من أثرٍ بالغٍ في قلبِ أخيك المسلم، أَمَا قال نبيُّك عليه الصلاة والسلام : (لا تحقرنَّ من المعروفِ شيئاً ولو أن تَلقى أخاك بوجهٍ طَلْق ) [مسلم]، ليكن على مُحَياكَ البشاشةَ والرأفة، أَلِنْ جانبَك، انْشُرْ ابتسامتَك، اخفِضْ جناحَك،  طيِّبْ كلامَك، لا تُسمِعِ الناسَ إلا خيراً، ولا يرونَ منكَ ما يكرهون، في الصحيح عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – كانت الأمةُ من إماءِ المدينة لتأخذُ بيدِ رسولِ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلمَ - فتنطلقُ به حيثُ شاءت!! يا للطافة، ويا للسماحة، يا للخلق العظيم، أيُّ نبيٍّ هذا؟ وأيُّ قائدٍ هذا - عليه الصلاة والسلام - ؟ إنهُ مشغولٌ بأمورِ الأمّةِ، وبهمومِ الأمةِ، وبجيشِ الإسلام ولم يمنعْه مِنْ أنْ يلاطفَ الصِّغارَ ويؤانسَهم، لأنَّه رحمةٌ للعالمين .

     يقول أنس – رضي الله عنه - : خدمتُ النبيَّ  - صلى الله عليه وسلم - عشرَ سنينَ بالمدينةِ وأنا غلامٌ ليسَ كلُّ أمرِي كما يشتَهِي صاحبي أنْ أكونَ عليه، ما قال لي فيها أفٌّ قطْ، ولا قال لشيءٍ فعلتُه لم فعلتَه؟ ولا لشيء لمْ أفعلْه ألا فعلتَ كذا، سبحان الله ! عشرُ سنين تخللها الخطأُ والنسيانُ والتقصيرُ والغفلةُ ولا تصدرُ منهُ كلمةُ أفّ! صدقَ اللهُ إذ يقول : ( وإنكَ لعلى خُلُقٍ عظيم ) [القلم:4]، بل كان يعفو ويصفحُ لمنْ تعمَّدَ الخطأَ عليه، فهؤلاء أهلُ مكةَ قاتلوهُ وآذوهُ وشَرَّدُوه وحاربُوهُ في غزواتٍ متعددةٍ، وحاولوا قتلَه واستئصالَ أصحابٍه، فماذا قالَ لهم حين تمكَّنَ منهم يومَ الفتحِ؟ قال كلمةً شهدَ لها التاريخُ، وأبقاها الدهرُ، وحفظها الزمنُ، قال بلا انتقامٍ ولا عِتابٍ : ( اذهبوا فأنت الطلقاء ) [سيرة ابن هشام]، وتعاملَ معَهُم كما تعامل يوسفُ – عليه السلام – مع إخوته : ( لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ) [يوسف: ]، تقول عائشةُ – رضي الله عنها – ( وما نِيلَ منه شيءٌ قطُّ فينتقمَ من صاحبِه إلا أن يُنْتَهَكَ شيءٌ من محارمِ الله فينتقمَ للهِ - عز وجل – ) [مسلم]، أينَ الناسُ من هذا الخُلُق؟ بل حتى في التماسِ العذرِ لأخيكَ المُسلمِ إذا لم يردَّ على رسالةٍ أو اتصالٍ – مثلاً – تجدُ بعضَهم يسيءُ الظنَّ بأخيه، أو ربَّما كلمةٌ بدرت منه غيرُ مقصودةٍ فيُفَسِّرُها الآخرُ على الاحتمالِ السَّيء، والله – عز وجل يقول - : ( يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ) [الحجرات:12]، قال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه - : " ولا تظننَّ بكلمةٍ خرجتْ من أخيكَ المؤمنِ إلا خيراً وأنتَ تجدُ لها في الخيرِ محملا "، كلُّ هذا من أجلِ سلامةِ الصدرِ منَ المسلمِ لأخيهِ المسلم، وما الذي يجنيه الشخصُ إذا ملأَ قلبَه من هذهِ الضغائنِ والأحقادِ في قلبِه على إخوانِه، وجُلُّ هذه الضغائنِ من أجلِ حظوظِ الدنيا وحطامِها، أو أسوأُ من ذلك بأن ينعمُ اللهُ على عبدٍ بنعمةٍ من زينةِ الدنيا، فيدبُّ الحسدُ في قلبِه والكرهُ لما أعطاهُ اللهُ وبما حباه، وكأنَّهُ يعترضُ على قسمةِ الخالقِ على خلقِه - والعياذ بالله - وكأنه هو المستحقُّ لهذا، فيتمنى أن تزولَ النعمةُ عن أخيه، فلا يهدأُ لهُ بالٌ ولا يهنأُ له حالٌ حتى يرى في أخيه قضاءَ شرٍّ يُسرُّ به، وصدق القائل :

ألا قُلْ لِمَن كان لي حاسداً         أتـدري لمن أســـأتَ الأدبْ

أســأتَ إلى اللهِ في فــعـلِه         لأنكَ لم ترضَ لي ما وهبْ

     صاحبُ الخلقِ الرفيعِ لا يعرفُ شيئاً من هذه التفاهاتِ، ولا تشغلُه الضغائنُ وهذه التصرفات، لأن له سموٌّ في الهدفِ، وعلوٌّ في الهمةِ، يرجو ما عند اللهِ فلا ينظرْ إلى سفسافِ الأمور

     عبادَ الله .. إنَّ لمن تأملَ سنتَه - عليه الصلاة والسلام - ليجدُ أنَّهُ لمْ يهمِّشْ أحداً من أصحابِه لا سيما الضعفاءُ، ويهتمُّ بجميعِ مَنْ حَولَه، بل ويحسنُ للكافرِ إذا جاورَه أو تعاملَ معه ولم يكن محارباً، وكان – صلى الله عليه وسلم - نِعْمَ التعاملِ مع زوجاتِه ولم ينسَ حظَّهُنَّ من العطفِ والوُدِّ والرحمةِ وسُموِّ الأخلاقِ معهنَّ، فهو القائل : ( خيرُكم خيرُكم لأهلِه وأنا خيرُكم لأهلي ) [صحيح الترمذي] ،فأينَ من يحتسبُ الوُدَّ والمحبةَ والجلساتِ مع الأصدقاء، ويبخلُ أو يقلِّلُ منها مع أهلِه، أو ربَّما تجدُ كثرةَ الاختلافاتِ والمشاكلِ في البيت، وتجدُ الصَّفاءَ منه والراحةَ خارجَه، وهذا إن حصلَ من بعضِ الناسِ فهو لبُعدِه من هديِ نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - والذي لم يخلُ بيتُه من الخلافِ، ومع ذلك عاشَ الحياةَ السعيدةَ التي مِلؤُها الوُدُّ مع أزواجِه، واستطاعَ أن يتعاملَ معهُنَّ بالحكمةِ واللينِ وبعقلِ المُدركِ أنَّ المرأةَ ليستْ كالرجلِ في التعاملِ والنقاشِ، ولن يسعدَ إنسانٌ في حياتِه دوماً إلا باتباعِ هديِ نبيِّه – صلى الله عليه وسلم - والنظرِ في سنتِهِ وسيرتِه، فهو الذي كان خلقه القرآن .

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم .....

الخطـبة الثانية

     الحمد لله على إحسانِه، والشكر لهُ على توفيقِه وامتنانِه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً .

أما بعد ،،

     فقد قيل للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عن امرأةٍ تقومُ الليلَ وتصومُ النهار وتفعلُ وتَصَدَّقُ وتؤذي جيرانها بلسانها، قال : ( لا خيرَ فيها هي مِنْ أهلِ النار ) [صحيح الأدب المفرد]، ماذا تنفعُ الطاعةُ إذا لم تُهذِّبِ الشخصَ وتزكّي النفس؟!  الطاعةُ للهِ تحملُ المسلمَ مِنْ طاعةٍ إلى طاعة، ومن حسنةٍ إلى حسنة، هذا الدينُ كاملٌ لمْ يهتمَّ بجانبٍ دونَ جانب، بل رسمَ للحياةِ سعادةً، وللعيشِ هناءً، وللقلبِ طُمأنينةً، وللنفسِ راحةً، إنَّ مِن اهتمامِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بجانبِ الأخلاقِ والتعاملِ ما أُثِرَ عنه من أدعيةٍ مضافةً إلى سيرتِه العطرة، فمن الأدعية المأثورة : ( اهدني لأحسنِ الأخلاقِ لا يهدي لأحسنِها إلا أنت، واصرف عني سيئَها لا يصرف عني سيئها إلا أنت ) [مسلم]، ومما ورد :  ( اللهم إني أعوذ بكَ من منكراتِ الأخلاقِ والأعمالِ والأهواءِ والأدواء ) [صحيح الترمذي]، وقد كانَ يدعو فيقول : ( اللهم كما حسَّنتَ خَلْقي فأحسن خُلُقي ) [صحيح: إرواء الغليل]، فإذا عَرفَ العبدُ عيوبَ نفسِه أمكنَه العلاج، ولكنْ هناك مِنَ الخلقِ جاهلٌ بعيبِ نفسِه يرى أحدُهم القذى في عينِ أخيه ولا يرى الجذعَ في عينِه، فمن جُبِلَ على الخلق الحسن فليحمدِ الله وليحتسب الأجر، ومن لم يُجبلْ على الأخلاقِ الحسنةِ فليجاهدْ نفسَه وليقرأْ في سيرةِ المصطفى - عليه الصلاة والسلام - وفي سيرِ الأعلامِ كيفَ كان تعاملُهم مع النَّاس، وإلا فليكفَّ شرَّهُ عن الناسِ فإنَّها صدقةٌ يتصدقُ بها المرءُ على نفسِه، فإن كفَّ الأذى من المسلمِ يحمي عرضَه ونفسَه من الوقوعِ في الإثمِ قال – جل وعلا - : ( وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسنُ إنَّ الشيطانَ ينزغُ بينهم إن الشيطانَ كان للإنسانِ عدواً مبيناً ) [الإسراء:53] .

      عبادَ الله .. صلوا وسلموا على من أُمِرْتُم بالصلاةِ والسلامِ عليه .

المرفقات

1702493462_وخالق الناس بخلق حسن.docx

المشاهدات 1061 | التعليقات 0