وحل المخدرات
عبدالله محمد الطوالة
الحمدُ للهِ، الحمدُ للهِ تفرَّدَ عزًّا ومجداً وجلالاً، وتقدَّسَ بهاءً وسنَاءً وجمالاً، وتوحَّدَ عظمةً وكبرياءً وكمالاً، تباركَ ربُنَا سبحانهُ وتعالى ..
وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدهُ لا شريك لهُ، {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}، {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّار} ..
وأشهدُ أن محمداً عبدُهُ ورسولهُ، النبي المصطفى المختار، صلِّ اللهُ وسلَّمَ وباركَ وأنْعِمْ عليهِ، وعلى آله الأطهار، وصحابتهِ الأخيار، والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ، ما تعاقب الليل والنهار، وسلم تسليماً كثيرا ..
أمّا بعد: فإنّ خير ما أوصيكم به ونفسي هي التقوى، فاتقوا الله يا عباد الله، {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18] ..
معاشر المؤمنين الكرام: قصةٌ حقيقية، وليست من نسج الخيال، قصةٌ مؤلمةٌ مأساوية، وهي عينةٌ من آلاف القصص, والتي تفوقها الماً ومأساوية .. فقد وقفت سيدةٌ عجوز وبجوارها ابنتها وحفيدتها أمام القاضي، فسألها القاضي: كيف لأمٍ أن تقتل ولدها .. فقالت الأم بعد تردد طويل: دخلت عليه ذات يوم غرفته، فوجدته يحقن نفسه بالهيروين، فثرت عليه وصرخت في وجهه، ولكنه قام وصفعني على وجهي، ثم أخذ بالقوة كل المال والذهب الذي كان معي، ثم خرج ليعود في الساعة الثالثة صباحاً، وكان منظره بشعاً، يثير الغثيان، ثقيلُ اللسان، أصفر الوجه، يهذي بكلامٍ لا يفهم، فدخل علي غرفتي، ثم أقترب مني بلا وعي، وأخذا يمزق ثيابي، وحاول الاعتداء علي وأنا أمه، ولكني تمكنت من الإفلات منه ولله الحمد، وخرجت من البيت مذعورة، واسرعت وأنا بتلك الحال حتى وصلت إلى بيت ابنتي، ولم يشاهدني أحدٌ ولله الحمد، وبعد قرابة الشهر عدت أنا وابنتي وحفيدتي هذه إلى البيت، ونحن نقول: لعله مات من جراء المخدرات، لكني وجدته قد باع أغلب الأثاث، وفي الساعة الثالثة صباحاً عاد إلى البيت، فلما عرف بوجودنا انقض على حفيدتي بوحشية، فحاولنا تخليصها منه فلم نتمكن، فذهبت مسرعة إلى المطبخ، وجئت بالسكين فغرستها في ظهره مراراً حتى مات ..
إنها المخدرات يا عباد الله .. ألا لعنة الله على المخدرات ..
فلقد كرّم الله الإنسان وفضله على كثير ممن خلق تفضيلاً، وميزه بالعقل، فبه يرقى ويتعلم، وبه يتبينُ ويفهم، وبه يميّز بين الخير والشرّ، والنفع والضرّ، والصالح والطالح .. فإذا أزال الإنسان عقله ضلَّ وغوى، وانحط إلى درجة الحيوان أو أدنى، يقول الحق جل وعلا عن أمثال هؤلاء: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:44] .. فما الإنسان بعد زوال عقله إلا مجنونٌ صائل، أو أرعن جاهل، قريبٌ شرّه، بعيد خيره .. ولقد أبى بعض التائهين المخذولين إلاّ الانحطاط إلى درَكات الذلِّ والهوان .. والانحدارَ إلى درجةٍ أقل من الحيوان .. فمن أجل حقنةِ مخدرٍ تعمى بصيرته، وينسلخ من إنسانية، وتظلم نفسه، وينسى ربه، ويفقدُ عقله، ويتحول إلى شيطانٍ في صورة انسان، لا يردعه دينٌ ولا عقلٌ ولا ضمير، يمزق عرضه ورجولته، ويخسر ماله وصحته، ويشرد أطفاله وأسرته، ويدمر مستقبله وآخرته .. يخسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين ..
في صحيح الامام مسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلُّ مسكرٍ خمرٌ، وكلّ خمرٍ حرامٌ"، وفي الصحيحين أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "كلُّ شرابٍ أسكر فهو حرامٌ"، وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أسكرَ كثيرُهُ فقليلُهُ حرامٌ"، وعن ام سلمة رضي الله عنها قالت: نَهى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ عن كلِّ مُسكِرٍ ومفتِّر، وعن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كلُّ مسكرٍ حرام، إنّ على الله عزّ وجلّ عهدًا لمن يشرب المسكر أن يسقيَه من طينةِ الخبال"، قالوا: يا رسول الله، وما طينةُ الخبال؟ قال: "عرقُ أهل النار أو عصارة أهل النار" والحديث في مسلم، وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "كلُّ مسكرٍ خمرٌ، وكلّ مسكرٍ حرامٌ، ومن شرب الخمر في الدنيا فمات وهو يُدمنها لم يتُب لم يشربها في الآخرة" رواه مسلمُ، وفي الحديث الصحيح أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "مُدمن الخمر إن مات لقِيَ الله كعابدِ وثنٍ" .. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: "أتاني جِبريلُ، فقال: يا محمدُ، إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ لعَنَ الخَمرَ، وعاصِرَها، ومُعتَصِرَها، وشارِبَها، وحامِلَها، والمَحمولَةَ إليه، وبائِعَها، ومُبتاعَها، وساقيَها، ومُستَقيَها"، وفي الحديث الصحيح: "لعَنَ اللهُ الخَمْرَ، ولَعَنَ شارِبَها، وساقيَها، وعاصِرَها، ومُعتَصِرَها، وبائِعَها، ومُبتاعَها، وحامِلَها، والمَحمولةَ إليه، وآكِلَ ثَمَنِها" ...
ولاشك يا عبادَ الله، أن المخدّرات بأنواعها شرٌّ من الخمر، فهي تفسد العقل، وتدمّر الجسد، وتُذهب المالَ، وتقتُل الغيرةَ، فهي تشارك الخمر في الإسكار وتزيد عليها في كثرة الأضرار، وقد أجمع الناس كلّهم من المسلمين والكفّار على ضررِ المخدّرات، وتنادت لحربها جميع الدول والهيئات، حتى قال المنظرون: إنّ المخدّرات أشدُّ فتكًا وأعظم تدميرا من الحروب والأمراض ..
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "هذه الحشيشة الملعونة هي وآكلوها، ومستحلوها الموجبة لسخط الله تعالى وسخط رسوله وسخط عباده المؤمنين، المعرّضة صاحبها لعقوبة الله، تشتمل على ضرر في دين الإنسان وعقله، وخلقه وطبعه وتغيب الأمزجة، حتى جعلت خلقاً كثيراً مجانين، وتورث مهانة آكلها ودناءة نفسه وغير ذلك ما لا تورث الخمر، ففيها من المفاسد، ما ليس في الخمر، فهي بالتحريم أولى ..
ومما تجدُرُ الإشارةُ إليه أن انتشارَ الحبوب المنبهة بين شبابنا أمرٌ مخططٌ له .. فقد صرَّحَ مديرُ عامِ مكافحةِ الجريمةِ بالمملكةِ بأن هناك أطرافًا دوليةً تعملُ بشكلٍ مكثفٍ على غزوِ المملكةِ بالمخدراتِ والحبوب الممنوعة، وإن المملكةَ كغيرِها من البلادِ العربيةِ والإسلاميةِ مستهدفة بتلك المواد الممنوعة لتدميرِ أفراده واتلاف مقوماتِه .. وإن مما يزيد من خطورة الأمر، أن هذه الحبوب والمخدرات غالباً ما تحتوي على شوائبَ وإضافاتٍ خطيرةِ السُّميةِ، تضافُ إما بقصدِ الغشِ، أو لتقويةِ مفعولِها، أو للفتكِ بشبابِ المسلمينَ كما يخططُ لذلك أعداءِ الإسلامِ، والضحيةُ في النهاية هو هذا المتعاطي المسكينُ الذي يفرّط في عقلِه وصحته .. ويفرِّطُ في دينِه وعرضه وأعز ما يملكه ..
اعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 90-91] ..
أقول ما تسمعون ..
.
الحمد لله وكفى، وصلاة وسلاماً على عباده الذين اصطفى ..
أما بعد فاتقوا الله عباد الله وكونوا مع الصادقين، وكونوا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك ....
معاشر المؤمنين الكرام: إن من مكر الأعداء بأمّةِ الإسلام وحرصهم على إفسادها والقضاء عليها، أن وجهوا أشدَّ سِهامهم إلى أغلى مقدرات الأمَّةِ ومقوماتها وهم الشباب .. فغزوهم بالمخدرات التي تفننوا في إيصالها إلى كافة المجتمعات الإسلامية بشتى الصور والاساليب .. حتى أضحت حرب المخدّرات من أخطر أنواع الحروب المعاصرة، إن لم تكن أخطرها .. وكل من وقف على شيءٍ من وقائع هذه الحرب، يدرك مدى ضراوتها، وشدة فتكها وشراستها، وكثرة ضحاياها وقسوتها، ورغم وجود القوانين القوية، والتشريعات الصارمة، فلا يزالُ طوفان المخدّرات ينخرُ في صفوف شبابنا وفتياتنا بصورة عميقة مؤلمة، يصل صداها إلى مكاتب الأمن، وأروقةُ المحاكم، وأسِّرة المستشفيات، وجدرانُ السجون والمعتقلات؛ مما يشعرك بضخامة المشكلة، وفداحة الضرر، وعمق المأساة .. فكم مزَّقت المخدرات من صِلات وعلاقات، وكم فرقت من أُخُوَّةٍ وصداقات، وكم شتَّتت من أسرٍ وجماعات، وكم أشعلت من أحقادًا وعداوات .. وكم أرهقت كاهل الأمة بما تجلبه عليها من المآسي والنكبات، وبما يُهدر في سبيل مكافحتها من أموالٍ ومقدرات ..
ولا يخفى على أحدٍ, أن كل من يقع أسيراً في أوحال المخدرات فلن يكون في حسه شيءٌ أهم من الحصول عليها، ولذا يسهل عليه أن يبذل من أجلها كل غالٍ ونفيس، وأن يضحي بكل عزيزٍ ومقدس من أجل أن لا تفوته الجرعة التي أدمنها، ولو أن يسلك من أجلها طريق الإجرام، أو أن يرتكب في سبيلها كل حرام، أو يتخلى عن عرضه وقيمه وأخلاقه ومبادئه .. ويظل ينحدر في هذا المسلك الوعر، والمنحدر الخطر، إلى أن تضعف قواه الجسدية والعقلية، وإلى أن يفقد كل مقوماته الاجتماعية، ومكتسباته الشخصية، ودوره الفعال في المجتمع، ويصبح عاطلا غير قادر على العمل، عالةً على أسرته ومجتمعه، بل ويفقدُ أهله وعشيرته وأصدقاءه، ولا يبقى له إلا الضياع والهلاك والنهاية البئيسة ..
ومن ناحية أخرى، فإن تَهريب المخدرات وترويجها وتعاطيها يؤدي إلى سلسلة من الجرائم المتتابعة، ففي سبيل تحقيق أهدافهم الخبيثة، وتحصيل المكاسب القذرة، فإن المهرب لن يتورع عن ارتكاب أبشع الجرائم في سبيل تجنيد أكبر عدد من المروجين لبضاعته .. والمروج بدوره سيسلك أسوأ الطرق والوسائل للإيقاع بفرائسه المتعاطين، وكلاهما لن يتردد في أن يتعاون حتى مع الشيطان، فضلاً عن الأعداء وكل من يحرص على فساد شباب الأمة والإضرار بهم .. وفي المقابل فإن المتعاطي لن يردعه شيء عن توفير ثمن الجرعة .. ولو كان ذلك على حساب دينه أو عرضه أو قوت أهله وعياله .. إلى غير ذلك من الجرائم المتتابعة .. حمانا الله وأياكم ومجتمعاتنا من كل شر وبلاء ..
ألا وإن غرس الإيمان ومراقبة الله جلَّ وعلا في نفوس النشء هو أساسُ الصلاح والوقاية من كل فسادٍ وخطرٍ يهدد أفراد المجتمع .. إذا علم هذا فيجب على كل فردٍ مسلم، أيًا كان عمله وعلمه، أن يساهم بما يستطيع في تعميق روح الإيمان في النفس، وتقوية الاستجابة لأوامر الله تعالى واجتناب نواهيه، والبعد عن مواطن الريبة ومسالك السوء، فالسلامة لا يعدلها شيء، وأن يأخذ المسلم نفسه بالآداب الإسلامية الفاضلة، ويزكي نفسه ويحليها بالأخلاق الحسنة، وأن يجاهدها في السير على منهج السلف الصالح، والاتصاف بصفات أهل الإيمان .. لأن ذلك بإذن الله هو الذي يحفظ المرء المسلم، ويجنبه الوقوع في أوحال المسكرات والمخدرات، ويحميه بحول الله من الانحدار في طريقها، ويمنعه من الاستجابة لدعوات أصحابها، ويكفل له بكرم الله سعادة الدنيا والآخرة، فالحق جل وعلا هو الذي يقول: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل : 97] .. وهو سبحانه الذي وعد عباده المؤمنين المستقيمين بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} ..
فيا ابن آدم عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يبلى والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان ..
اللهم صل على محمد ..