وحدة وطن*

هلال الهاجري
1446/03/15 - 2024/09/18 07:00AM

الحَمْدُ للهِ الَّذِي جَعَلَ الأَوْطَانَ مُستَقَرًّا لِبَنِي الإِنْسَانِ، وَوَهَبَهُمْ فِيهَا الأَمْنَ وَالاطْمِئْنَانَ، وجَعلَ الأمنَ مقرونًا بالإيمانِ، فقَالَ سُبحانَه وتَعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)، وأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه الصادقُ المأمونُ، صَلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلِه وأصحابِه الذين قضوا بالحقِّ، وبهِ كَانوا يَعدلونَ، وسلمَ تَسليمًا كَثيراً، أما بَعدُ:

فَأُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللَّهِ:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ).

أيُّها الأحبَّةُ: هل الدُّنيا إلا أمنٌ في الوَطنِ، وعَافيةٌ في الجَسدِ، وكِفَايةٌ في الرِّزقِ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلمَ: (مَنْ أَصبَحَ مِنكُم آمنًا في سِربِهِ، مُعافًى في جَسَدِهِ، عِندَهُ قُوتُ يَومِهِ، فَكَأنَّما حِيزتْ لَهُ الدُّنيا)، واسألوا الذينَ فَقَدوا الأوطانَ، وكَثُرتْ عَليهم الأحزانُ، فَهَا هُمْ يَتَحسَسونَ الأَخبارَ، وقَدْ طَالَ عَليهم الانتظارُ، فَالصَّغيرُ مُشتاقٌ إلى بُيوتِها وشِعابِها، والكَبيرُ يَتمَنى أن يُدفنَ في تُرابِها، فَالقُلوبُ تَتَقطَّعُ، والنَّفوسُ تَتَطَلَّعُ.

وتَأملوا تِلكَ اللحظَّةَ التي فَارقَ فِيها خَيرُ إنسانٍ، أَفضلَ البُلدانِ، يَقولُ عبدُ اللهِ بنُ عَدِّي رَضِيَ اللهُ عَنهُ: رَأيتُ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ وَاقِفَاً عَلى الحَزْوَرَةِ، فَقَالَ: (واللهِ إنَّكِ لخيرُ أَرضِ اللهِ، وأَحبُ أَرضِ اللهِ إلى اللهِ، مَا أَطيبَكِ مِنْ بَلدٍ، وأَحبَّكِ إليَّ، ولَولا أَنَّ قَومِي أَخرجوني مِنكِ مَا سَكَنْتُ غَيرَكِ).

وحَيثُ أنَّ مُفَارقةَ الوَطَنِ قِطعَةٌ مِن العَذابِ، يُمرِضُ الأجسادَ ويُشغِلُ الأَلبَابَ، فَقَد دَعَا النَّبيُ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسلَّمَ رَبَّهُ أن يُحَبِّبَ المَدينةَ لَهم، لِتَملأَ الفَجوةَ التي سَبَبَّها فِراقُ الوطَنِ في القُلوبِ، فَقَالَ: (اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ)، فَأَصبَحَتْ وَطَناً لَهُ ولأصحَابِهِ، حتى كَانَ عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إذا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فَنَظَرَ إلى جُدُرَاتِ المَدينةِ، أَوضَعَ رَاحِلتَهُ -يَعني: أَسرعَ-، وَإنْ كَانَ عَلَى دَابَّةٍ حَرَّكَهَا مِنْ حُبِّهِ لِلمَدينةِ.

حبُّ الوطنِ .. شيءٌ قد جَبلَ اللهُ تعالى عليهِ كلَّ المخلوقاتِ، فانظروا إلى الطُّيورِ والأسماكِ تقطعُ آلافَ الأميالِ ثُمَّ تَحِنُّ إلى أوطانِها فَترجعَ إليها، والحيواناتُ تشتاقُ إلى مَسَاكنِها وتُدافعُ عَنها، وهَكَذا الشُّعوبُ تَفتخرُ بأَوطَانِها، وتُنَاضلُ عَن بُلدانِها، يَقولُ الجَاحظُ في كِتَابِه (الحنينُ إلى الأوطانِ): (وكَانتِ العَربُ إذا غَزَتْ وَسَافَرَتْ حَمَلَتْ مَعَها من تُربةِ بِلادِها رَملاً وعَفْراً، تَستَنشِقُهُ عِندَ نَزلةٍ أَو زُكَامٍ أَو صُداعٍ).

الوطن هو المَاضي والذِّكرياتُ، وَهو الحَاضِرُ والتَّضحياتُ، وَهو المَستَقبلُ والأمنياتُ، فِيهِ يُبذلُ الجُودُ والفَيضُ والعَطاءُ، وعلى أرضِه تطيبُ المبادرةُ التَّضحيةُ والنَّماءُ، وله يحلو التَّعبُ والرِّفعةُ والبناءُ، بَلْ هو الشيءُ الذي يُؤلف ويُحبُّ ولو لم يكن فيه شيءٌ من الجَمالِ، كما يصفُ ذلكَ الشَّاعرُ:

بلادٌ أَلِفنَاها على كُلِّ حَالةٍ *** وقد يُؤْلَفُ الشَّيءُ الذي لَيسَ بالحَسنْ

وتُسْتعذبُ الأرضُ التي لا هَواءَ بها *** ولا ماؤها عَذبٌ، ولكنَّها وَطَنْ

فكيفَ إذا كانَ هذا الوطنُ، فيه بقعةٌ قد دعا لها الخليلُ الأول عليه السلامُ: (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً)، وفِيهِ بُقعةٌ يَشتاقُ لها الإيمانُ، ويَرجعُ إليها في آخرِ الزَّمانِ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ: (إنَّ الإيمَانَ لَيَأْرِزُ إلى المَدِينَةِ -أي: يَرجعُ إلى المدينةِ- كما تَأْرِزُ الحَيَّةُ إلى جُحْرِهَا).

فمن يلومُ المسلمينَ في حبِّ هذا الوطنِ، وقد أخَذَتْ مُقدساتُه بفؤادِ كلِّ مسلمٍ على وجهِ الأرضِ، يحبُّها، ويَغارُ لها، ويُدافعُ عنها، ويحزنُ لها، ويتمنى أن يراها في أمنٍ واستقرارٍ، عامرةً بالحُجَّاجِ والمعتمرينَ والزُّوَّارِ.

إنَّا لنَرفعُ دَعوةً لِبِلادِنا *** مَرفُوعَةً للخَالقِ المَعبودِ

شُلتْ يدٌ تَسعى إلى تَمزيقِها *** وتَحطمتْ نَظراتُ كُلِّ حَسودِ

لكِ يا بلادَ الخيرِ رَأسٌ شَامخٌ *** فخُذي زِمامَ المَكْرُمَاتِ وَقُودي

أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم من كلِ ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ هو الغنيُّ وعبادُه الفقراءُ، وهو القويُّ وخلقُه هم الضُّعفاءُ، وصلى اللهُ وسلَّمَ وباركَ على نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِه وأصحابِه، والتَّابعينَ ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ، وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا، أما بعد:

فيا أيُّها الأحبَّةُ .. وِحدةُ الوطنِ لَيسَتْ كلماتٍ بليغةً يتغنى بها الشُّعراءُ والأدباءُ، ولَيسَتْ بِشِعَاراتٍ رنَّانةٍ يردُّدها النَّاسُ في كلِّ لِقاءٍ، بل هو صدقٌ وأمانةٌ ووفاءٌ، وحبُّ وشفقةٌ وولاءٌ، فاعتَصِموا بِحَبلِ اللهِ جَميعاً ولا تَفَرَّقوا، وانصَحوا لِمَنْ وَلاهُ اللهُ أَمرَكم، وعَليكُم بِالجَمَاعةِ فَإنَّ يَدَ اللهِ مَعَ الجَماعةِ، وتَعوذوا مِنَ الفِتَنِ مَا ظَهرَ مِنها وَمَا بَطَنَ، واشكُروا اللهَ تَعَالى عَلى نِعَمِهِ التي لا تُحصى، فَها أنتم تَستيقظونَ كُلَّ صَبَاحٍ في أَمنٍ وَخَيراتٍ، والعَالمُ مِن حَولِكم في انقِلاباتٍ واضطراباتٍ، وزلازلَ وأَعَاصيرَ وفَيَضاناتٍ، (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ).

فَنريدُ شُكراً ودُعاءً صَادِقاً، دعوةً مِنَ الكبيرِ والصَّغيرِ، ودعوةً مِنَ المسكينِ والفقيرِ، ونريدُ دعوةَ العجائزِ بصَلاحِ البلادِ وأمنِها وعِزِّها، وأن يوفِّقَ اللهُ قادتَها للهُدى، ويُصلحَ رجالَها ونساءَها، ويهديَ شبابَها وفتياتِها لكلِّ خيرٍ، كما جاءَ في الحديثِ: (إِنَّمَا يَنْصُرُ اللَّهُ هَذِهِ الأُمَّةَ بِضَعِيفِهَا بِدَعْوَتِهِمْ وَصَلاتِهِمْ وَإِخْلاصِهِمْ).

اللهمَّ أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ وأذلَّ الشركَ والمشركينَ ودمرْ أعداءَ الدينِ، واجعل هذا البلدَ آمنًا مطمئنًا وسائرَ بلادِ المسلمينَ، اللهمَّ آمنا في أوطانِنا وأصلح أئمتَنا وولاةَ أمورِنا، ووفِّقْ رِجَالَ وَطَنِنا، وأَبطالِ أَمنِنا، اللهم من أرادنا وأرادَ بلادَنا بسوءٍ فأشغله بنفسِه وردَّ كيدَه في نحرِه، اللهم ادفع عنا الغَلا والوَبا والربا والزنا والزلازلَ والمحنَ وسوءَ الفتنِ ما ظَهرَ منها وما بَطنَ، اللهم وفق وليَ أمرِنا لهُداكَ واجعل عملَه في رِضاكَ، اللهم انصر به دينَك وأعلِ به كلمتَك، اللهم أصلح بطانَته واصرف عنه بطانةَ السوءِ ياربَّ العالمينَ، اللهمَّ الطُفْ بإخوانِنا المستضعفينَ في كُلِّ مَكانٍ، اللهمَّ كُنْ لَهم مُؤيدًا ونَصيرًا ومُعينًا وظَهيرًا، اللهمَّ اجعلْ لهم مِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرجًا، ومِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخرجًا، ومِنْ كُلِّ بَلاءٍ عَافيةً، اللهمَّ انصر دينَك وكتابَك وسنةَ نبيك وعبادَك المؤمنين، اللهم انصر من نصرَ الدينِ واخذل الطغاةَ والمفسدينَ، اللهم اغفر ذنوبَنا واستر عيوبَنا ويسِّرْ أمورَنا وبلغنا فيما يُرضيكَ آمالَنا، ربنا تقبل منا إنك أنت السميعُ العليمُ، وتب علينا إنك أنت التوابُ الرحيمُ، سبحانَ ربِّك ربِّ العزةِ عما يَصفونَ، وسلامٌ على المرسلينَ، والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.

المرفقات

1726632018_وحدة وطن.docx

1726632035_وحدة وطن.pdf

المشاهدات 1653 | التعليقات 0