وجيئ بها ..... (النار)
سامي بن محمد العمر
أما بعد:
فَإِذا اشْتَدَّ الخوف والْفَرَق، وطال الوقوف وسال العرق...
جيئ بها...
جيئ بما أقظّ المضاجع، وفلَّذ الأكباد.
جيئ يومئذٍ بجهنم... حين جَثتِ الأممُ على الركب، وتبيّنَ للظالمين سوءُ المنقلب، وانطلق المكذبون إلى ظلٍ ذي ثلاثِ شُعب، لا ظليلٍ ولا يُغني من اللّهب، ونادتهم الزبانية:
{فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبّرِينَ}
{يوم يُدعَّون إلى نار جهنم دعّا} فهُم في مضايقها يتجلجلون، وفي دركاتها يتحطمون.
جيئ بها... تتغيظُ وتتسعرُ، عَلَيْهَا سَبْعُونَ ألف زِمَام من حَدِيد قد تعلق بِكُل زِمَامٍ سَبْعُونَ ألفَ ملكٍ من مَلَائِكَة النَّار يحبِسونها وَهِي تُرِيدُ أَن تَنْفَلِت على أهل الْموقف!
جيئ بالدار التي طالما أُنذِرتُموها... جيئ بالدار التي طالما حُذِّرتموها ...
النار.... التي عظّم الله شأنها فقال {فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظّىَ} وقال سبحانه: {إِنّهَا لإِحْدَى الْكُبَرِ نَذِيراً لّلْبَشَرِ}
النار.... التي خافها علينا سيدُ البشر حتى خطبَ وحذّر، ونادى بأعلى صوتِه وتأثَّر... فقال صلى الله عليه وسلم: ((أنذرتكم النار، أنذرتكم النار، أنذرتكم النار)) قال النعمان بن بشير ـ رضي الله عنه ـ وهو راوي الحديث: فما زال يقولها حتى لو أن رجلا كان بالسوق لسمِعَه من مقامي هذا، وحتى سقطت خميصةٌ كانت على عاتقِه عندَ رجليه)) رواه احمد وغيره.
عباد الله:
لما كانت القلوبُ تجوبُ في هذه الدنيا، تقطعُ فيافيها، وتضِلُّ في أوديتها، وتغرَقُ في ملذاتها، وتُبحرُ في شهواتها، قد أعجبها من الدنيا زُخرفها، وَلَهوها وَلَعِبها، وَغرَّها منها جمالُها وبريقُها... حتى ظنت أن لا جمالَ بعد جمالِها ولا لَذةَ بعد لذَّاتِها، وَحقَّتْ عليها الغِوايةُ وَعلا عليها الرَّانُ، وتمنتْ فيها طولَ المُقام، لأنها أعمرتْهَا بخرابِ الآخرة، وشيَّدتْهَا بفسادِ الآجلة ،،
فهي لا تريد الانتقالَ من دارِ العمارِ إلى دارِ الخرابِ..
ولذا كان حديثُ الوعظِ والتخويفِ، غريبًا على الآذان، عجيبًا في الأذهان، قلَّ ما تُنصت إليه وقلَّ ما تَسمعه.
ووالله لن يجد العبد موعظةً ولا ترقيقًا كمواعظِ القرانِ والسنة .
ووالله ما عُولجت قلوبُ العباد، ولا أُنذروا وخُوفوا ، بشيء قطُّ هو أشدَّ وأدهى من النار، دارِ الخزيِ والبوار.
فليستمعْ كلٌ منا وصفهَا بقلبٍ حاضر، وليتخيل... كأنما أُقيم على شفيرها فهو يراها يَحطِم بعضها بعضًا، ويرى أهلها يتقلبون في دَرَكاتها، ويُجرجرون في أوديتها.
عباد الله:
ستُبْرَزُ النار لأهلِ الموقفِ كما قَالَ الله تَعَالَى:
{وبُرِّزت الْجَحِيم لمن يرى}
{ لاَ تُبْقِى وَلاَ تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ}
{لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ}
{تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ}
{إِنَّهَا تَرْمِى بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ}
وفي الصحيح أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «يُؤتى بالنارِ يومَ القيامةِ لها سبعون ألفَ زمامٍ مع كلِّ زمامٍ سبعون ألفَ ملَكٍ يجرُّونَها»، رواه مسلم.
وهذه النار واسعة عظيمة: يقول أبو هريرة رضي الله عنه: كنَّا عندَ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم فسَمِعنَا وَجبَةً ( أي صوتا عظيما)، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: «أَتَدْرُونَ ما هَذَا؟ قلْنَا: الله ورسولُه أعلمُ. قال: هذا حجرٌ أرْسَلَه الله في جهنَّمَ مُنْذُ سبعينَ خَريفاً (يَعْنِي سبعينَ سنةً) فالان حينَ انتَهَى إلى قعْرها»، رواه مسلم.
ومع سعتها وعظمتها ... والله لتُمْلأنَّ... والله لتُمْلأنَّ.
{ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين}
وتظلُّ تطلبُ المزيدَ كما قال الله { يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ }.
يساق أهلها إليها كما وصف الله:
{وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِى الأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ}
{إِذِ الأَغْلَالُ فِى أَعْنَاقِهِمْ والسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِى الْحَمِيمِ ثُمَّ فِى النَّارِ يُسْجَرُونَ}
{ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ}
ويعذبون فيها بألوان العذاب كما أخبر الله:
{فَالَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارِ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِى بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ}
{يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [العنكبوت: 55]،
{لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ}
{كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ}
ولهم فيها طعام وشراب كما بيّن الله:
{إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِى فِى الْبُطُونِ * كَغَلْىِ الْحَمِيمِ}
{إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ
{لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ}
{وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِى الْوجُوهَ}
{وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ}
{وَيُسْقَى مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ}
وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «لَوْ أنَّ قطْرةً من الزَّقُّومِ قَطَرَتْ في دار الدُّنْيَا لأفْسَدَتْ على أهلِ الدنيا مَعَايِشَهُمْ»، رواه النسائيُّ والترمذيُّ وابنُ ماجة.
بارك الله لي ولكم ..
الخطبة الثانية
أما بعد:
عباد الله:
ما ظنكم بدار ... أماني أهلها فيها الهلاك ومالهم من أسرها فكاك
ينادُون من أكنافها ويصيحون: يا مالك قد أثقلنا الحديد، يا مالك قد حق علينا الوعيد، يا مالك قد نضجت منا الجلود، يا مالك قد تفتت من الكبود، يا مالك العدم خير من هذا الوجود.
فيجيبهم بأشد وأقسى خطاب وأغلظ جواب:
{قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ}
فينادُون ربهم وقد أشتد بكاؤهم وعلا صياحهم وارتفع صراخهم:
{قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ}
فلا يجيبهم الجبار جل جلاله إلا بعد سنين، بتوبيخ أشد عليهم من العذاب
{قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ}
فعند ذلك أُطبقت عليهم النار وغُلقت فيئس القوم بعد تلك الكلمة أيما إِياس، فتزداد حسراتُهم وتنقطع أصواتُهم فلا يُسمع إلا الأنين والزفير والشهيق والبكاء
يبكون على تضييع أوقات الشباب، ويتأسفون أسفًا أعظم من المصاب، ولكن هيهات هيهات، ذهب العمل وجاء العقاب.
فلا يرحم باكِيهم، ولا يجاب داعِيهم ، ولا يزالون في أملٍ أن يخرجوا منها ، حتى يسمعوا نداء المنادي يــــا أهلَ الجنة خلودٌ فلا موت ، ويا أهل النار خلودٌ فلا موت ...
حينئذٍ {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُور}
تلكم هي النار التي خوّف الله منها ملائكته المقربين {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنّي إِلَهٌ مّن دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ}
وخوّف منها أصفياءه المرسلين {وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا}
فوا أسفى على قلوبٍ بعد ذلك لا تتأثر، ونفوسٍ لا تتقدم بل تتأخر
ورحم الله الحسن البصري إذْ يقول: "والله ما صدّق عبدٌ بالنار إلا ضاقت عليه الأرض بما رَحُبت، وإنّ المنافق لو كانت النارُ خلفَ ظهرِهِ ما صدّق بها حتى يَتَجَهّم في دَرَكِها، والله ما أُنذِر العبادُ بشيءٍ أدهى من النار".
اللهم إنا نسألك العفو والعافية.....