وجوب تهيئة النفس قبل رمضان
خالد الشايع
الخطبة الأولى ( تهيئة النفس لشهر رمضان ) 11/8/1439
أما بعد فيا أيها الناس : اتقوا الله الذي يردف عليكم النعم ، ويدفع عنكم النقم ، فكم من جميل اسداه إلينا ، وكم من قبيح صرفه عنا ، ينزل علينا من بركات السماء ويخرج لنا من بركات الأرض ، ونحن مقصرون في شكر النعمة ، فاستغفروه جل في علاه ، فهو الغفور الرحيم .
معاشر المؤمنين : سيطل علينا شهر الخير والرحمات بعد بضعة عشر يوما ، ولا يخفى عليكم ما أودع الله فيه من الخيرات العظيمة والهبات الجسيمة ، ومثل هذا الموسم يحتاج استعدادا وتهيئة ، حتى لا يمر علينا مرور الكرام ، فلقد كان سلف الأمة يستقبلون مواسم الخير بما يستطيعون من تهيئة النفس للعبادة ، فنحن منذ ما يزيد على عشرة أشهر ، ونحن نخالط الذنوب ونبتعد عن الطاعة ، وها قد أقبلت أيام المصالحة والتوبة ، فإن هذا القلب الضعيف ، تغطيه الذنوب والسيئات ، ويعلوه الران ، ويثقل عن الطاعة ، وينغمس في الدنيا وشهواتها ، فمثل هذا القلب يحتاج إلى تطهير ، وتزكية ، وتمرين على الطاعة ، ليدخل موسم الخير وهو مشتاق للعبادة معتاد عليها .
عباد الله : وقفات نمر عليها سريعا ، نحتاج لها قبل شهر رمضان :
الأولى : النية الصالحة وإخلاص العمل لله ، فكل عمل تريد عمله فلا بد من استحضار النية الطيبة ، وذلك أن يكون العمل خالصا لله تعالى ، فكل عمل يراد به غير وجه الله فهو حابط يعاقب عليه العبد ولا يؤجر كما قال سبحانه ( فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ) وأخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة قال صلى الله عليه وسلم قال تبارك وتعالى ( أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه ) فلنستحضر النية الطيبة من الآن ، فرب نية خير من عمل .
الثانية : أن يكثر الإنسان من الدعاء أن يبلغه الله شهر الخير وهو صحيح نقي من الذنوب ، فلا يخفى عليكم أن سلف الأمة كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم الله رمضان ، وذلك لما يعلمون فيه من الخير والفلاح .
الثالثة: تقدير قدر نعمة بلوغ رمضان التي هي بحد ذاتها مؤشر خير ، يدل على محبة الله للعبد أن بلغه شهر الخير ، وتذكر من حرم بلوغ موسم الخير ، إما لمرض أو موت أو انحراف ، فكم في المقابر من كان يؤمل آمالا عظيمة منها صوم رمضان ، اخترمته المنية قبل تحقيق مراده ، وأنت قد مد الله في عمرك لبلوغ هذا الموسم العظيم .
الرابعة : تهيئة النفس قبل دخول الشهر أمر مهم لمن أراد الراحة والطمأنينة والمسارعة في الخيرات ، إذا رمضان أتى مقبلا *** فـأقبل فبالخيـر يُسْـَتقبَل
لعلك تخطئـه قابــلا *** وتأتي بعـذر فـلا يُقْبَـل
ومن تهيئة النفس ، تدريبها على الصيام والقيام وقراءة القرآن ، فلتعود نفسك الصيام كل اثنين وخميس ، وما شاء الله ، فلقد كان الحبيب صلى الله عليه وسلم يصوم في شعبان مالا يصوم في غيره كان يصوم أغلب شعبان بل كان يصومه كله ، كما صح الخبر في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها ، وكذلك قيام الليل فمن الآن زد في ركعات الوتر قليلا قليلا ، لتعتاد النفس على القيام ، وزد في وردك من القرآن استعدادا لكثرة القراءة في رمضان ، وهكذا في كل طاعة تزود منها لتعتاد نفسك عليها ، وترتاض للعبادة .
الخامسة : الفرح والسرور بقدوم رمضان ، كما قال سبحانه ( قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ) ، وإذا لم يفرح المؤمن بقدوم شهر المغفرة والعتق من النار فبماذا يفرح .
فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يبشر أصحابه بقدوم رمضان ويبين لهم مافيه من الفضائل والأحكام .
اللهم بلغنا شهر رمضان في صحة وإيمان أقول قولي هذا ....
الخطبة الثانية
أما بعد فيا أيها الناس : إن من أهم الوقفات التي يقفها المسلم مع نفسه قبل رمضان ، وقفة المحاسبة والتوبة والانخلاع من الذنوب وترك الإصرار عليها ، ليستنير القلب ويقبل على ربه .
عباد الله : إن التوبة إلى الله جل وعلا من جميع الذنوب صغيرها وكبيرها ، ظاهرها وباطنها ، واجبة على كل مسلم في كل حين كما قال سبحانه ( وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون ) ولكن تجديدها قبل مواسم الخير له أهمية خاصة ، إذ التوبة من أسباب تهيئة القلب ، كما قيل ( التخلية قبل التحلية ) ، فتخلية القلب وتطهيرُه من ذنوب الشهوات والشبهات ، تجعل القلب مستعدا ومهيئا للقيام في تلك المواسم بما أوجب الله ، وبالتزود من الخير ، والمسابقةِ مع المتسابقين ، بل وتجده مقبلا على ربه جل وعلا ، وذلك لزوال حجب الذنوب عنه ، كما يقول ابن قدامة رحمه الله في كتابه ( منهاج القاصدين ) : إن الذنوب حجاب عن المحبوب ، والانصراف عما يبعد عن المحبوب واجب . أهـ
ومن تأمل حال التائب قبل موسم الخير تجده إذا دخل الموسم له قلب مستعد ومهيأ لما يوضع فيه من التحلية والخير ، قال ابن القيم رحمه الله في كتابه (الفوائد) : قبول المحل لما يوضع فيه مشروط بتفريغه من ضده ، وهذا كما أنه يكون في الذوات والأعيان ، فكذلك هو في الاعتقادات والإرادات ...فلذلك القلب المشغول بمحبة غير الله وإرادته والشوق إليه والأنس به ، لا يمكن شغله بمحبة الله وإرادته وحبه والشوق إلى لقائه ، إلا بتفريغه من تعلقه بغيره . أهـ
ولهذا كانت التوبة والتخلي من كل ما يصد القلب عن الطاعة مطلب مهم لكل لبيب يريد النجاة لنفسه ، لينعم بالذكر والصلاة ، ويعيش مع النفحات الربانية والمعاني الإيمانية .
أيها المؤمنون : إن التوبة النصوح قبل مواسم الخير ، من أسباب تطهير القلب من أدران الذنوب والمعاصي ، وتهيئتِه للسير في مدارج السالكين ، والرقي في درجات المقربين ، إذ المعاصي والذنوب حجب وأقفال على القلب تمنعه وتثبطه عن السير إلى الله جل وعلا ،ومتى ما تخفف العبد من أثقاله ، وزالت الحجب عن قلبه ، سمت روحه وعلت نفسه ، فحينها يجد نشاطا وإقبالا على الطاعة في رمضان ، فتجده يسابق في الخيرات بنفس مقبلة تواقة للخير ، شعارها ( وعجلت إليك رب لترضى )
وأما من لم يتخلص من ذنوبه ، فإنه يكون أسيرا لها ، فتكون حجبا على قلبه أو تقصر به عن القيام بالخير في رمضان ، ولهذا تجد أمثال هؤلاء عافانا الله وإياكم من حالهم لديهم ضعف في الشعور بلذة العبادة والأنس بالطاعة والراحة في القلب .
اللهم وفقنا للتوبة النصوح قبل رمضان ، واجعلنا من عبادك المقبولين المقربين ...