وجوب تحكيم الشريعة

محمد المطري
1446/04/22 - 2024/10/25 14:30PM

وجوب تحكيم شريعة الإسلام وبيان أنها صالحة لكل زمان ومكان

الحمد لله الذي أنزل القرآنَ المبين، على رسولِه محمدٍ خاتَمِ النبيين، هدىً وتذكرةً للمتقين، ورحمةً وموعظةً للمؤمنين، أرسل الله رسوله رحمةً للعالمين، بشيرًا ونذيرًا ولكن أكثر الناس لا يعلمون، وللحق كارهون.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أُقرُّ له بالربوبية والألوهية، وبأنه يحكم بين عباده في الدنيا والآخرة، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، من اتَّبعَ شريعته اهتدى، ومن أعرض عنها ضلَّ وغوى، أما بعد:

فالله وحده يُحِلُّ ما يشاء، ويُحرِّم ما يشاء؛ بعلمٍ وحكمة، وليس لأحدٍ أن يُحلِّل أو يُحرِّم أو يُشَرِّع غير الله وحده، حتى الأنبياء فإنهم مبلِّغون عن الله، واجتهادُ فقهاءِ الصحابةِ والعلماءِ من بعدهم ليس تشريعًا، بل هو فهمٌ للقرآن والسنة، وتطبيقٌ لمبادئ الدين، فقد انتهى التشريع بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم ابتدأ الفقهُ يستمدُّ مضمونه من نصوص القرآن والسنة، بما يُصلحُ الناس في دينهم ودنياهم، يقول الله تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ﴾ [النحل:116].

أيها المسلمون، الشريعة الإسلامية وافيةٌ بجميع الأحكام التي تحتاج إليها البشرية في تدبيرِ شئونها، وتنظيمِ حياتِها، صالحةٌ لمسايرةِ الحياة في جميع تطوراتها، ومراحلِ تقدُّمِها ورُقِيِّها، تُزوِّدُها في كل عصرٍ وكلِ جيلٍ بما يكفَلُ لها السعادة، ويُسبِغُ عليها السلامُ والأمنُ والعدل.

وشرعُ الله لا يُنسَخ إلا بأمر الله وإذنه، كما نُسِخَتِ الشرائعُ السابقة كشريعة موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام، حيث أنزلها الله خاصةً مؤقتةً، ولم يجعلها عامةً مؤبدةً، وشريعةُ خاتمِ النبيين محمدٍ صلى الله عليه وسلم عامةٌ مؤبدةٌ إلى يوم القيامة، قال الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [سبأ:28]، وقال سبحانه: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ [الفرقان: 1]، وقال عز وجل: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء:107].

أيها المسلمون، شرع الله لهذه الأمةِ تشريعَه الحكيم، وهو يعلمُ السر وأخفى، ويعلم ما يُصلِح خلقه وما يفسدهم، ويعلم ما يأتي من أحوال في آخر الزمان، فهي شريعةٌ كاملةٌ شاملة، وما مات النبي عيه الصلاة والسلام إلا وقد أكملها الله كما قال سبحانه: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة:3].

والشريعةُ الإسلاميةُ لم تأتِ لقومٍ دون قوم، أو لدولةٍ دون دولة، وإنما جاءت للناس كافةً من عربٍ وعجم، على اختلافِ مشارِبهم، وتباينِ عاداتهم وتقاليدهم وتاريخهم، فهي شريعةٌ صالحةٌ لكلِّ إنسانٍ، ولكلِّ أسرة، ولكل قبيلة، ولكل شعب، ولكل دولة.

الشريعةُ الإسلاميةُ جامعةٌ تحكمُ كلَّ حالة، مانعةٌ لا تخرج عن حكمها حالة، شاملةٌ لأمور الأفراد والجماعات والدول، تُنظِّمُ بمرونتها وسعتها وحِكمتها الأحوالَ الشخصية، والمعاملاتِ المالية، وتُنظِّمُ شئون الحُكمِ والإدارةِ والسياسةِ، كما تُنظِّم علاقاتِ الدولِ بعضِها ببعض.

أيها المسلمون، من زعم أنَّ حكمَ اللهِ صالحٌ للزمن الذي نزل فيه في عهد النبي وأصحابه فقط، وأنَّ للناس بعدهم أن يُشرِّعوا ما يرونه صالحًا ولو كان مخالفًا لحكم الله؛ فقد كفر كفرًا بواحًا؛ لأنَّه يعتقدُ نقصَ الشريعة الربانية، ويظنُّ أنَّ عِلمَ الله سبحانه يختلف بين علمِ المشاهَد والغائب، ويرى أن يُقدِّم الإنسانُ علمَه لحاضره على عِلمِ الله للغائب عند إنزال وحيه على نبيه، وهذا كفرٌ وسوءُ ظنٍّ بالله، فإنَّ الله يستوي علمه بالأشياء غيبًا وشهادة، وحكمُ الله في الشهادة كحكمِه في الغيب.

قال العلماء: من حلَّل الحرامَ المجمعَ عليه أو حرَّم الحلالَ المجمعَ عليه أو بدَّل الشرع المجمعَ عليه كان كافرًا مرتدًا باتفاق الفقهاء.

فيجب أن نعلمَ أن الشريعةَ الإسلاميةَ لم تأتِ لعصرٍ دون عصر، أو لزمنٍ دون زمن، وإنما هي شريعةُ كلِّ وقت، وشريعةُ الزمنِ كلِّه حتى يرث اللهُ الأرض ومن عليها، لا يؤثِّر عليها مرورُ الزمن، وتتابعُ القرون، ففي نصوصِها من العمومِ والمرونةِ ما يجعلُها تحكمُ كلَّ حادثةٍ جديدةٍ، ونصوصُ الشريعةِ ثابتةٌ غيرُ قابلةٍ للتغيير والتبديل كما تتغيرُ نصوصُ القوانين الوضعية وتتبدل، وأساسُ الفرقِ بين الشريعةِ والقانونِ أن الشريعةَ من عندِ اللهِ، وهو عالمُ الغيبِ الذي وضع للناس تشريعًا صالحًا لكل زمان ومكان، أما القوانينُ فوضعها البشر بقدر حاجتِهم الوقتية، وما يظنونه مناسبًا في زمانهم، فيحصل في قوانينهم المخالفةِ للشريعة ظلمٌ ونقصٌ وخللٌ من جهاتٍ متعددة؛ ولذلك يضطرون كثيرًا لتغيير نصوص القوانين، أما أحكامُ الشريعةِ المنزَّلةِ من عند الله سبحانه فهي ثابتةٌ لا تتغير بتغير الأزمان، ولا تتبدل بتبدل البلدان والأشخاص، ولا تقبل الاجتهاد، كأركانِ الإسلام والإيمان، وأمورِ العقيدة، وجميع الأحكام الفقهية التي لا مجال للاجتهاد فيها كالصلاة والزكاة والصيام والحج وأحكامِ النكاحِ والمواريثِ والقصاصِ والحدودِ ونحو ذلك، وتحريمِ الظلمِ والزنا والربا والخمر والسرقة، فهذه الأحكام لا تتبدل بتبدل الزمان، وأما الأحكام الاجتهادية التي بُنِيت على العرفِ ودواعي المصلحة فيجوز في الشريعةِ أن تتبدل بتبدل الزمان وأخلاق الناس، فمثلًا القضاء كان يقوم به قاض واحد في الزمن الماضي، فيجوز الآن أن يكون القضاء من جماعةِ قضاةٍ لا من قاضٍ واحد، وكذلك لا بأس بإنشاء المجامع الفقهية ولجان الفتوى الجماعية، وهكذا يجوز في الشريعة إنشاءُ الجامعات العلمية، ونحو ذلك مما لم يكن في الزمن الماضي، فهذا تغييرٌ في الوسائل للوصول إلى تحقيق المصالح العامة، وكذلك يتغيرُ الحكمُ المبنيُّ على العرف بتغير أعراف الناس المختلفة؛ ولذلك قال الفقهاء: العادة مُحكَّمة، فإن اختلف مثلًا مستأجِرُ بيتٍ مع مالك البيت في شيءٍ ليس مكتوبًا في عقد الإيجار فيُرجع في ذلك إلى العرف في ذلك الزمان والمكان، وإن اختلف مستأجرُ سيارة مع صاحب السيارة في قدر الأجرة فيُرجع في تقدير الأجرة إلى العرف الذي يختلف باختلاف الزمان والمكان والحال.

أيها المسلمون، الإسلام جاء لإصلاح الناس في دينهم ودنياهم، وفيه حلُّ جميعِ مشاكلهم، وهو شاملٌ كاملٌ في جميع نواحي الحياة، ومن جعل لله الحكم في الأمور الدينية، وللبشر الحكمَ في الأمور الدنيوية فقد كفر؛ لأنَّ الشرع كله لله وحده لا شريك له، ومن جعله حقًا لغير الله فهو كمن جعل السجود لغير الله، والله يقول: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [يوسف:40]، فخلاصة الدين شيئان: أن يكون الحكمُ لله وحده، وأن تكون العبادةُ لله وحده، وقد كفر أهلُ الكتاب من اليهود والنصارى حين جعلوا الحكم لغير الله، فعن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم وسمعته يقرأ قول الله: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [التوبة: 31]، قلت: يا رسول الله إنهم لم يكونوا يعبدونهم! قال: ((كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ، وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ، فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ لَهُمْ)).

أيها المسلمون، الشريعة الإسلامية جاءت لتنظيم أمور الدين والدنيا، وتحقق المصالحِ الدينية والدنيوية لجميع الناس، تكمل لهم المصالح وتنميها، وتدفع عنهم المفاسد وتقللها إن وجدت، وتخفف آثارها بعد وقوعها كالطلاق والقصاص، والشريعة الإسلامية تُقدِّم مصلحةَ الجماعةِ على مصلحةِ الفرد إذا تعارضتِ المصلحتان، وتُقدِّم دفعَ الضررِ العامِ على دفعِ الضررِ الخاصِ إذا لم يُمكن دفعُهما معًا.

أيها المسلمون، الإسلام جاء ليحكم بين الناس في جميع أمورهم، وينظم حياتهم، وأطولُ آية في كتاب الله هي آية المداينة في سورة البقرة، نزلت لتنظيم أمور الدين في المعاملات المالية، حتى لا تضيعُ أموالُهم فيندموا على تفريطِهم، فالله لم يأمرنا في شريعته إلا بما ينفعنا في ديننا ودنيانا، ولم ينهنا إلا عما يضرنا في ديننا ودنيانا، والشريعةُ الإسلامية سهلةٌ سمحة، ليس فيها ضِيقٌ على العباد ولا حرج، فالأصل في المعاملات والعقود والسياسات أنها جائزة ما لم تخالفِ الشريعة بسبب ظلمٍ أو نحو ذلك، وكلُّ ما ينفع الناسَ ويدفعُ الضررَ عنهم جائزٌ في الإسلام وإن لم تنصُّ الشريعةُ على جوازه خصوصًا، وكلُّ ما يضر الناسَ في دينهم أو دنياهم محرمٌ في الإسلام وإن لم تنصُّ الشريعةُ على تحريمه خصوصًا، وفي القرآن والسنة أدلةٌ عامة تدخل فيها كثيرٌ من الأمور المستجدة، كقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل:90] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ))، قال العلماء: السياسة ما كان فعلًا يكون معه الناسُ أقربَ إلى الصلاح، وأبعدَ عن الفساد، وإن لم ينزل به وحيٌ، ما لم يخالفْ نصًا شرعيًّا، وقال العلماء: لا يَحرُم على الناس من المعاملات التي يحتاجون إليها إلا ما دل الكتابُ والسنة على تحريمه، كما لا يُشرَع لهم من العبادات التي يتقربون بها إلى الله إلا ما دل الكتاب والسنة على شرعه؛ إذ الدين ما شرعه الله، والحرام ما حرمه الله.

أيها المسلمون، الإسلام جاء لإصلاح الناس في دينهم ودنياهم، فالدين الإسلامي شامل كامل في جميع نواحي الحياة، وكل ما يصدر من المكلفين من اعتقادٍ أو قولٍ أو عملٍ فله حكمٌ في الشريعة، فإما أن يكون واجبًا أو مندوبًا أو محرَّمًا أو مكروهًا أو مباحًا، وكلُّ تصرف كائنًا ما كان يصدر من فرد أو جماعة أو دولة فإما أن يكون في الشريعة صحيحًا أو فاسدًا.

أيها المسلمون، في نصوص القرآن والسنة ما يغنينا عن كل ما سواهما، فتأملوا مثلًا قولَه تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾ [النساء: 58]، ففي هذه الآية الأمرُ بأداء الأمانات، وتركِ الخيانة، والحكمِ بين الناس بالعدل، فما أعظمها من آيةٍ لإصلاح البشرية في جميع معاملاتهم المالية، وفيها الطريق العادل لحل جميع مشاكلهم!

وتأملوا قول الله سبحانه: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ [الشورى: 38]، ففي هذه الآيةِ مشروعيةُ التشاورِ بين المسلمين في المسائلِ الاجتهادية التي ليس فيها نصٌ ولا إجماع، فيجب على المسلمين أن يتشاوروا فيما ينفعهم، ويشاوروا المتخصصين في كل علمٍ للنظر في المصالح والمفاسد وتقييمها؛ ليعرفوا ما يقدِّمونه عند التعارض والاختلاف، وما يعتمدونه في النوازل المستجَدَّة.

وتأملوا قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجَزْ))، فهذا الحديث يدل على أنَّ كل ما ينفع المسلم في أمورِ الدين أو الدنيا فعلى الفرد والأسرة والشعب والدولة أن يحرصوا عليه، ومفهومُ الحديثِ أنَّ كل ما يضر المسلم في دينه أو دنياه فالمسلم مأمورٌ باجتنابه، فما أعظم هذا الحديثَ الذي هو من جوامعِ الكلم التي أوتيها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم! فهذا الحديث وحده منهجُ حياةٍ يغني عن كلِّ دساتير الدنيا، فالحمد لله على نعمة الإسلام والقرآن والسنة.

أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم.


 

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون، والصلاة والسلام على رسوله محمدٍ خاتمِ النبيين، الذي أوجب الله طاعَتَه واتِّباعه على الناس أجمعين، وبعد:

ففي التمسك بشريعة الله كلُّ خيرٍ وبركة في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ [الأعراف: 96]، وقال سبحانه: ﴿وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا﴾ [الجن:16].

أيها المسلمون، تمتاز الشريعة الإسلامية على القوانين الوضعية بالكمال، فقد استكملت كل ما تحتاجه الشريعة الكاملة من قواعد ومبادئ تكفَل سدَّ حاجات الشعوب في الحاضر القريب والمستقبل البعيد.

وتمتاز الشريعة الإسلامية على القوانين الوضعية بالدوام والثبات والاستقرار، فنصوصها لا تقبل التعديل والتبديل مهما مرت الأعوام وتبدلت الأزمان، فهي صالحةٌ لكل زمان ومكان.

وتمتاز الشريعة الإسلامية باليسر والسهولة، ومراعاة حاجة الناس وضعفهم، فلا واجب مع العجز، ولا محرم مع الضرورة، قال الله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: 16]، وقال سبحانه: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 78]. 

أيها المسلمون، الإنسان عبدٌ لله، خلقه الله لعبادته، وأمره بالتمسك بشريعته، ومن الخطأ والضلال أن تُفهَمُ الحرية بأنها الخروجُ عن شريعة الله، ومخالفةُ أمره ونهيه، فهذا تقديسٌ للنفس وما تهواه، وتقديمٌ لشهواتها على مراد الله، وعبوديةٌ للنفس وجعلها شريكًا لله سبحانه، قال الله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ [الجاثية: 23].

فمن سوَّغ لنفسه أو لغيره أن يقول أو يفعل ما يشاء فقد أقر بعبوديته لهواه وشيطانه، وهو أضل الناس كما قال سبحانه: ﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [القصص: 55].

والحرية في الإسلام مقيدة بأن تفعل ما تشاء مما أباحه الله للعباد، وبهذا تنضبط الحياة، فلا يظلمُ أحدٌ أحدًا، ويأخذ كلُّ إنسانٍ حقه من المباحات من غيرِ أن يُدخِل الضرر على غيره لمصلحته الخاصة، فلا يجوز في الإسلام أن يضر الإنسانُ نفسه أو غيره، فالضرر يُزال شرعًا.

فليس من الحرية أن يُشَوِّه الإنسان صورته أو يقطع  بعض أعضائه، وليس من الحرية أن ينتحر الإنسان أو يقتل أولاده أو يُجهض الجنين الذي في بطن أمه، وليس من الحرية أن يسرق وينهب ويظلم، فيعيش الناس فوضى في خوف وقلق، وليس من الحرية أن يُسرِف ويُبذِّر الأموال التي جعلها الله قيامًا لمصالح العباد، وليس من الحرية أن يزني الرجال والنساء فتفسد الأخلاق، وتختلط الأنساب، ولا يأمن أحدٌ على عرضه، ولا يتيقن مِن ولده، وتُنزع الرحمة والشفقة بين الآباء والأولاد، وتتفكك الأسر، ويعيش المجتمع في فتن الشهوات والأمراض الجنسية والنفسية والمشاكل الاجتماعية، وليس من الحرية التعامل بالربا فيزداد الغني غنًى بلا عمل، ويزداد الفقير فقرًا بلا أمل، ويبقى المال دُولةً بين كبار الأغنياء يبتزون جهود المساكين ويستغلون حاجتهم، ويأكلون أموالهم بالباطل ظلمًا وبغيًا.

وقد ظهر بين المسلمين منافقون يدْعُون إلى الحرية الباطلة المخالفة لشريعة الله سبحانه، ويسعون إلى فصل حكم الدين عن حكم الدنيا، ويزعمون أنَّ الله يُشرِّع للدين، والإنسان يُشرِّع للدنيا، وهذا كفرٌ بواحٌ، حيث جعلوا هناك مشرِّعين متعددين، والتشريع حقٌ لله وحده، قال الله تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [الشورى: 21].

وظهرت العديد من التيارات الفكرية التي تدعو لفهم النصوص الشرعية من غير رجوعٍ إلى العلماء المتخصصين في علوم الشريعة، ويتلاعبون بنصوص القرآن والسنة، ويحرفون معانيهما بما يوافق أهواءهم، ويدْعُون إلى الفوضى الفكرية التي يسمونها حرية الأفراد في الرأي والتعبير، ويخوضون في غير تخصصهم، ويدْعُون إلى حرية الاعتقاد ولو برفض أحكام الشريعة، وظهر لهؤلاء المتلاعبين بنصوص الشريعة أقوالٌ شاذةٌ، وضلالاتٌ شنيعة، ووصل الحالُ ببعضهم إلى الزندقة، والخروجِ من الإسلام بدعوى الحرية!  

أيها المسلمون، لا يجوز الجلوس مع المستهزئين بآيات الله، ولا متابعتهم، قال الله تعالى: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾ [النساء: 140].

أيها المسلمون، مَنْ كفَرَ ببعضِ القرآن فقد كفَرَ به كلِّه، قال الله عز وجل: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾ [البقرة: 85، 86]، وقد حذَّر الله سُبْحانَه من الخروج عَنْ حُكْمِهِ، وجعل ذلك فتنة فقال: ﴿وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ [المائدة: 49]، ومما يسبب الفتنة مخالفة الشريعة كما قال الله عز وجل: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور: 63].

أيها المسلمون، لا يَجوزُ أَنْ يُقدَّمُ حكمُ الناسِ واختيارُهُمُ المُناقِضُ لحكمِ اللهِ، ولا عبرةَ بالأغلبية إذا اختارتِ الباطل، قال الله سبحانه: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ﴾ [الأنعام:116]، فالحكم في الإسلام لله العلي الكبير، ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ﴾ [الأنعام: 57]، وليس للأغلبية، ولا يجوز أن يُعطى حقُّ التشريع لأحدٍ من البشر كائنًا من كان، وواجبٌ علينا أن نرد جميع خلافاتنا إلى كتاب الله وسنة رسوله، قال الله تعالى: ﴿فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ [النساء: 59]، وقال سبحانه: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء: 65]. 

اللهم فقِّهنا في دينك، ووفقنا للعملِ بشريعتك، وتحكيمِ كتابِك وسنةِ نبيك، اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم يا رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطرَ السماوات والأرض، عالمَ الغيب والشهادة، أنت تحكمُ بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختُلِف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم، اللهم اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين، آمين.

 

المرفقات

1729855848_وجوب تحكيم شريعة الإسلام وبيان أنها صالحة لكل زمان ومكان.docx

1729855849_وجوب تحكيم شريعة الإسلام وبيان أنها صالحة لكل زمان ومكان.pdf

المشاهدات 29 | التعليقات 0