وجوب بر الأم.. ضمن حملة الخطباء لرفع الظلم عن المرأة
الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل
الْحَمْدُ لله الْخَلَّاقِ الْعَلِيْمِ الْرَّءُوْفِ الْرَّحِيْمِ؛ قَذَفَ الْرَّحْمَةَ فِيْ قُلُوْبِ الْأُمَّهَاتِ، حَتَّى إِنَّ الْدَّابَّةَ الْعَجْمَاءَ لَتَرْفَعُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تَطَأَهُ رَحْمَةً بِهِ، نَحْمَدُهُ عَلَى هِدَايَتِهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى رِعَايَتِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ؛ شَرَعَ الْدِّيْنَ لِعِبَادِهِ، وَقَسَمَ الْحُقُوْقَ بَيْنَهُمْ، فَأَعْطَى كُلَّ ذِيْ حَقٍّ حَقَّهُ [يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوْا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيِّمٌ] {الْنِّسَاءِ:176} وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ؛ زَارَ قَبْرَ أُمِّهِ فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ فَقَالَ:«اسْتَأَذَنْتُ رَبِّي فِيْ أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي وَاسْتَأْذَنْتُهُ فِيْ أَنْ أَزُوْرَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي» وَمَا فَعَلَ ذَلِكَ إِلَّا قِيَامَاً بِحَقِّهَا، وَبِرَّاً بِهَا، وَحُسْنَ صُحْبَةٍ لَهَا، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الْدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيْعُوْهُ، وَاعْرِفُوَا مَا عَلَيْكُمْ مِنَ الْحُقُوْقِ لِأَدَائِهَا؛ فَإِنَّ لله تَعَالَى حُقُوْقَاً مَحْضَةً كَالْعِبَادَاتِ، وَحُقُوْقَاً مُتَعَلِّقَةً بِوَالِدِيْنَا وَقَرَابَتِنَا وَجِيْرَانِنَا وَعُمُوْمِ مَنْ نَتَعَامَلُ مَعَهُ مِنَ الْنَّاسِ، أَوْجَبَهَا عَلَيْنَا، فَكَانَتْ مِنْ دِيْنِهِ الَّذِيْ شَرَعَهُ لَنَّا، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُحَاسِبُنَا عَلَىْهَا [يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آَمَنُوْا أَطِيْعُوْا اللهَ وَرَسُوْلَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُوْنَ] {الْأَنْفَالِ:20}.
أَيُّهَا الْنَّاسُ: لَا حَقَّ عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْظَمُ وَأَكْبَرُ -بَعْدَ حَقِّ الله تَعَالَىْ وَحَقَّ رَسُوْلِهِ ^- مِنْ حُقُوْقِ الْوَالِدَيْنِ، تَظْاهَرَتْ بِذَلِكَ نُصُوْصُ الْكِتَابِ وَالْسُّنَّةِ، وَأَخَذَ اللهُ تَعَالَىْ مِيْثَاقَ مَنْ كَانُوْا قَبْلِنَا عَلَيْهِ [وَإِذْ أَخَذْنَا مِيْثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيْلَ لَا تَعْبُدُوْنَ إِلَّا اللهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانَاً] {الْبَقَرَةِ:83} وَأَوْجَبَهُ سُبْحَانَهُ فِيْ شَرْعِنَا بِأَقْوَى صِيْغَةٍ، وَأَبْلَغِ عِبَارَةٍ، وَقَرَنَهُ بِتَوْحِيْدِهِ وَالْنَّهْيِّ عَنِ الْشِّرْكِ بِهِ [وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئَاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانَاً] {الْنِّسَاءِ:36} [وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانَاً] {الْإِسْرَاءِ:23} فَعَبَّرَ عَنْهُ بِصِيغَةِ الْقَضَاءِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَقْوَى صِيَغِ الْأَمْرِ وَالْإِلْزَامِ؛ فَإِنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي نَافِذٌ، وَاللهُ تَعَالَى أَحْكَمُ الْحَاكِمِيْنَ وَأَعْدَلُهُمْ وَأَقْوَاهُمْ، بَلْ جَعَلَ سُبْحَانَهُ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ مِنَ وَصَايَاهُ الَّتِيْ وَصَّى بِهَا عِبَادَهُ [قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوْا بِهِ شَيْئَاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانَاً] ثُمَّ خَتَمَهَا سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ [ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُوْنَ] {الْأَنْعَامِ:151}.
وَالْأُمُّ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْأَبِ فِيْ الْبَرِّ، وَلَهَا مِنَ الْحُقُوْقِ عَلَى الْابْنِ أَكْثَرَ مِنْ حُقُوْقِ أَبِيْهِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْشَّرْعَ المُطَهَّرَ جَاءَ بِذَلِكَ؛ وَلِأَنَّهَا أَضْعَفُ الْوَالِدَيْنِ؛ وَلِأَنَّهَا الْحَامِلُ وَالْوَالِدَةُ وَالمُرْضِعُ.. [حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنَاً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِيْ عَامَيْنِ] {لُقْمَانَ:14} وَفِيْ آَيَةٍ أُخْرَى [حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهَاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهَاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُوْنَ شَهْرَاً] {الْأَحْقَافِ:15}. وَفِيْ المَحْرَمِيَّةِ قُدِّمَتِ الْأُمُ عَلَى سَائِرِ مَحَارِمِ الْرَّجُلِ [حُرِّمَّتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ... الْآَيَة] {الْنِّسَاءِ:23}.
وَلَا أَحَدَ مِنَ الْنَّاسِ أَشَدُّ رَحْمَةً وَلَا أَكْثَرُ خَوْفَاً مِنَ الْأَمِّ عَلَى وَلَدِهَا.. وَفِيْ قِصَّةِ إِسْمَاعِيْلَ وَأُمِّهِ عَلَيْهِمَا الْسَّلَامُ تَظْهَرُ رَحْمَةُ الْأُمِّ وَشَفَقَتُهَا حِيْنَ نَفَدَ مَاؤُهَا، وَجَفَّ لَبَنُهَا، وَخَشِيَتْ عَلَى رَضِيْعِهَا، وَلَمْ تُطِقْ الْنَظَرَ إِلَيْهِ وَهُوَ يَتَأَلَّمُ مِنَ الْجُوْعِ، فَهَامَتْ فِيْ جِبَالِ مَكَّةَ تَبْحَثُ عَنِ المَاءِ، وَكَانَتْ فِيْ كُلِّ صُعُوْدٍ وَهُبُوطٍ عَلَى الْصَّفَا وَالمَرْوَةِ تَعُوْدُ لِرَضَيعِهَا لِتَطْمَئِنَّ عَلَيْهِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَحْكِي قِصَّتَهَا:«فَجَعَلَتْ تَشْرَبُ مِنَ الْشَّنَّةِ وَيَدِرُّ لَبَنُهَا عَلَى صَبِيِّهَا حَتَّى لمَّا فَنِيَ المَاءُ قَالَتْ: لَوْ ذَهَبْتُ فَنَظَرْتُ لَعَلِّي أُحِسُّ أَحَدَاً، فَذَهَبَتْ فَصَعِدتُ الْصَّفَا فَنَظَرَتْ وَنَظَرَتْ هَلْ تُحِسُّ أَحَدَاً فَلَمْ تُحِسَّ أَحَدَاً، فَلَمَّا بَلَغَتِ الْوَادِي سَعَتْ وَأَتَتْ المَرْوَةَ فَفَعَلَتْ ذَلِكَ أَشْوَاطَاً ثُمَّ قَالَتْ: لَوْ ذَهَبْتُ فَنَظَرْتُ مَا فَعَلَ –تَعْنِي الْصَّبِيَّ- فَذَهَبَتْ فَنَظَرَتْ فَإِذَا هُوَ عَلَى حَالِهِ كَأَنَّهُ يَنْشَغُ لِلْمَوْتِ، فَلَمْ تُقِرَّهَا نَفْسُهَا فَقَالَتْ: لَوْ ذَهَبْتُ فَنَظَرْتُ لَعَلِّي أُحِسُّ أَحَدَاً فَذَهَبَتْ فَصَعِدَتْ الْصَّفَا فَنَظَرَتْ وَنَظَرَتْ فَلَمْ تُحِسَّ أَحَدَاً حَتَّى أَتَمَّتْ سَبْعَاً... قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: قَالَ الْنَّبِيُّ ^: فَذَلِكَ سَعْيُ الْنَّاسِ بَيْنَهُمَا»رُوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَتَظْهَرُ رَحْمَةُ الْأُمِّ وَشَفَقَتُهَا فِيْ قِصَّةِ أُمِّ مُوْسَى عَلَيْهِ الْسَّلَامُ مَعَ ابْنِهَا- حِيْنَ وَضَعَتْهُ فِي الْتَّابُوْتِ وَأَلْقَتْهُ فِي الْيَمِّ- إِذْ أَمَرَتْ أُخْتَهُ بِتَتَبُّعِ خَبَرِهِ، وَالْسُّؤَالِ عَنْهُ [وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ] {الْقَصَصَ:11} وَقَدْ أَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى عَنْ حُزْنِ الْأُمِّ بِفَقْدِ وَلَدِهَا فَقَالَ سُبْحَانَهُ [فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ] {الْقَصَصَ:13} وَذَكَّرَ اللهُ تَعَالَىْ مُوْسَى عَلَيْهِ الْسَّلَامُ بِهَذِهِ الْنِّعْمَةِ الْعَظِيْمَةِ حِيْنَ جَمَعَ شَمْلَهُ بِأُمِّهِ وَهُوَ رَضِيْعٌ [فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ] {طَهَ:40} فَهَذَا هُوَ قَلْبُ الْأُمِّ..
فَوَيْلٌ ثُمَّ وَيْلٌ لِمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ أُمٍّ وَوَلَدِهَا بِسَبَبِ خِلَافٍ بَيْنَ الْزَّوْجَيْنِ، وَكَثِيْرٌ مِنَ الْأَزْوَاجِ يَفْعَلُوْنَ ذَلِكَ، وَيَفْعَلُهُ آبَاءُ الْأَزْوَاجِ وَآبَاءُ الْزَّوْجَاتِ وَقَرَابَتُهُمْ؛ بِدَعْوَى حِفْظِ كَرَامَةٍ مُتَوَهَّمَةٍ، أَوْ للحُصُوْلِ عَلَى مَالٍ، أَوِ المُطَالَبَةِ بِإِسْقَاطِ نَفَقَةِ الْأَوْلَادِ مَا دَامُوا عِنْدَ أُمِّهِمْ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.. فَتَكُوْنُ الْأُمُّ وَأَطْفَالُهَا ضَحَايَا هَذِهِ الْتَّصَرُّفَاتِ الْرَّعْنَاءِ، وَتُحْرَمُ الْأُمُّ مِنْهُمْ وَيُحْرَمُوْنَ مِنْهَا وَلَا سِيَّمَا الْأَطْفَالِ وَالرُّضَّعِ، وَيَلْتَاعُ قَلْبُهَا عَلَيْهِمْ، فَلَا تَهْنَأُ بِنَوْمٍ، وَلَا تَتَلَذَّذُ بِطَعَامٍ.. نَعُوْذُ بِالله تَعَالَى مِنْ قُلُوْبٍ نُزِعَتْ مِنْهَا الْرَّحْمَةُ، فَاسْوَدَّتْ بِالْأَحْقَادِ، وَكَانَتْ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً.. وَلَا رَحِمَ اللهُ تَعَالَى أَزْوَاجَاً لَا يَرْحَمُونَ أُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِمْ، وَلَا يَرْحَمُونَ أَطْفَالَهُمْ حِيْنَ فَرَّقُوْا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أُمَّهَاتِهِمْ.. وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَسْعُوْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:«كُنَّا مَعَ رَسُوْلِ الله ^ فِيْ سَفَرٍ فَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ فَرَأَيْنَا حُمَّرَةً مَعَهَا فَرْخَانِ فَأَخَذْنَا فَرْخَيْهَا فَجَاءَتِ الْحُمَّرَةُ فَجَعَلَتْ تَفْرِشُ فَجَاءَ الْنَّبِيُّ ^ فَقَالَ: مَنْ فَجَعَ هَذِهِ بِوَلَدِهَا؟ رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْهَا»رَوَاهُ أَبُوْ دَاوُدَ. وَكَمْ فُجِعَتْ أَمٌ مُسْلِمَةٌ بِأَوْلَادِهَا حِيْنَ حِيْلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُمْ؛ لِأَنَّ أَبَاهُمْ طَلَّقَهَا أَوْ هَجَرَهَا!!
وَحِيْنَ غَضِبَ مُوْسَى عَلَى هَارُوْنَ عَلَيْهِمَا الْسَّلَامُ لمَّا عَبَدَتْ بَنُوْ إِسْرَائِيْلَ الْعِجْلَ، وَجَرَّهُ بِشَعْرِهِ ذَكَّرَهُ هَارُوْنُ بِأُخُوَّةِ الْأُمِّ مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ انْتِسَابُ الْوَلَدِ لِأَبِيْهِ لَا لِأُمِّهِ [قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُوْنِيْ وَكَادُوْا يَقْتُلُوُنَنِي] {الْأَعْرَافِ:150} وَفِيْ آيَةٍ أُخْرَى [قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِيَ] {طَهَ:94} وَمَا ذَاكَ إِلَّا اسْتِعْطَافَاً لَهُ؛ لِأَنَّ الْأُمَّ أَشَدُّ عَطْفَاً وَأَكْثَرُ رَحْمَةً بِالْأَولُادِ مِنَ الْأَبِ.
وَتَكَلَّمَ عِيْسَى فِي المَهْدِ مُخْبِرَاً أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَوْصَاهُ بِبِرِّ أُمُّهُ مَعَ فَرِيْضَتِي الصَّلَاةِ وَالْزَّكَاةِ فَقَالَ عَلَيْهِ الْسَّلَامُ [وَأَوْصَانِيْ بِالصَّلَاةِ وَالْزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيَّاً * وَبَرَّاً بِوَالِدَتِي] {مَرْيَمَ:31-32}.
وَالْأُمُّ أَوْلَى مِنَ الْأَبِ فِيْ الْبَرِّ وَحُسْنِ الصُّحْبَةِ، دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ أَحَادِيْثُ عِدَّةٌ؛ فَرَوَى أَبُوْ هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:«قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُوْلَ الله، مَنْ أَحَقُّ الْنَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: أُمُّكَ ثُمَّ أُمُّكَ ثُمَّ أُمُّكَ ثُمَّ أَبُوْكَ»رَوَاهُ الشيخان.
وَفِيْ حَدِيْثٍ آَخَرَ:«إِنَّ اللهَ يُوْصِيْكُمْ بِأُمَّهَاتِكُمْ ثَلَاثَاً إِنَّ اللهَ يُوْصِيْكُمْ بِآبَائِكُمْ...»رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.
وَفِيْ حَدِيْثٍ ثَالِثٍ:«أُوْصِيْ امْرَأً بِأُمِّهِ، أُوْصِيْ امْرَأً بِأُمِّهِ، أُوْصِيْ امْرَأً بِأُمِّهِ، أُوْصِيْ امْرَأً بِأَبِيِهِ ...»رَوَاهُ أَحْمَدُ.
وَقَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ حَيْدَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: قُلْتُ:«يَا رَسُوْلَ الله، مَنْ أَبَرُّ؟ قَالَ أُمَّكَ، قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمَّكَ، قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمَّكَ؟ قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أَبَاكَ...»رَوَاهُ أَحْمَدُ.
وَبِنَاءً عَلَى هَذِهِ الْأَحَادِيْثِ المُثْبِتَةِ لِلْأُمِّ ثَلَاثَةَ حُقُوْقٍ، وَلِلْأَبِ حَقَاً وَاحِدَاً؛ فَإِنَّهُ يَنْبَغِيْ لِلْوَلَدِ أَنْ يَصْرِفَ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ بِرِّهِ لِأُمِّهِ، وَرُبْعَهُ لِأَبِيْهِ، وَكَثِيْرٌ مِنَ الْنَّاسِ يَضْعُفُ فِقْهُهُمْ عَن ذَلِكَ.
وَعُقُوْقُ الْأُمِّ أَشَدُّ جُرْمَاً مِنْ عُقُوْقِ الْأَبِ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ الْعُقُوقِ جَرِيْمَةً، وَقَدْ نَصَّ الْنَّبِيُّ ^ عَلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَيْنَا عُقُوْقَ الْأُمَّهَاتِ.
وَتَجِبُ صِلَةُ الْأُمِّ وَبِرُّهَا وَحُسْنُ صُحْبَتِهَا وَلَوْ كَانَتْ كَافِرَةً، مَعَ عَدَمِ طَاعَتِهَا فِي المَعْصِيَةِ [وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِيَ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِيْ الْدُّنْيَا مَعْرُوْفَاً] {لُقْمَانَ:15} وَقَالَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِيْ بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:«قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فِيْ عَهْدِ رَسُوْلِ الله ^ فَاسْتَفْتَيْتُ رَسُوْلَ الله ^ قُلْتُ: إِنَّ أُمِّي قَدِمَتْ وَهِيَ رَاغِبَةٌ أَفَأَصِلُ أُمِّي؟ قَالَ: نَعَمْ صِلِي أُمَّكِ»رَوَاهُ الْشَّيْخَانِ.
نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يُعَلِّمَنَا الْفِقْهَ فِي الْدِّيْنِ، وَأَنْ يَرْزُقَنَا الْعَمَلَ بِهِ، وَأَنْ يُعِيْنَنَا عَلَى بِرِّ وَالِدِيْنَا وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ وَقَدْ قَالَ الْخَلِيْلُ عَلَيْهِ الْسَّلَامُ [رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِيْنَ يَوْمَ يَقُوْمُ الْحِسَابُ] {إِبْرَاهِيْمَ:41}.
بَارَكَ اللهُ لِيْ وَلَكُمْ...
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَىْ وَأَطِيْعُوْهُ [وَاتَّقُوا الْنَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِيْنَ * وَأَطِيْعُوْا اللهَ وَالْرَّسُوْلَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُوْنَ] {آَلِ عِمْرَانَ:131-132}.
أَيُّهَا الْنَّاسُ: مَنْ أَرَادَ عَظِيْمَ الْأَجْرِ وَالْثَّوَابِ فَلْيَعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ عَرِيضٌ، لَا يُفَرِّطُ فِيْهِ إِلَّا مَنْ حَرَمَ نَفْسَهُ، وَبَخَسَ مِنَ الْخَيْرِ حَظَّهُ، وَقَدْ تَرَدَّدَ مُعَاوِيَةُ بْنُ جَاهِمَةَ السُّلَمِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَلَى الْنَّبِيِّ ^ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ يَسْأَلُهُ الْجِهَادَ، وَفِيْ كُلِّ مَرَّةٍ يَقُوْلُ لَهُ:«وَيْحَكَ! أَحَيَّةٌ أُمُّكَ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا رَسُوْلَ الله، قَالَ: وَيْحَكَ الْزَمْ رِجْلَهَا فَثَمَّ الْجَنَّةُ»رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَفِيْ رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ قَالَ: الْزَمْهَا فَإِنَّ الْجَنَّةَ عِنْدَ رِجْلِهَا».
وَأَخَذَ مِنْهُ بَعْضُ الْصَّالِحِيْنَ تَقْبِيْلَ رِجْلِ الْأُمِّ، فَكَانَ يُقَبِّلُ قَدَمَ أُمِّهِ كُلَّ يَوْمٍ، فَأَبْطَأَ عَلَى إِخْوَانِهِ يَوْمَاً، فَسَأَلُوْهُ فَقَالَ:«كُنْتُ أَتَمَرَّغُ فِيْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، فَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ أَقْدَامِ الْأُمَّهَاتِ».
وَلَّما مَاتَتْ أَمُّ الْقَاضِيْ إِيَاسٍ بَكَى فَقِيْلَ:«مَا يُبْكِيْكَ يَا أَبَا وَاثِلَةَ؟ قَالَ: كَانَ لِي بَابَانِ مَفْتُوْحَانِ مِنَ الْجَنَّةِ فَأُغْلِقَ أَحَدُهُمَا».
وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:«أَتَى رَجُلٌ الْنَّبِيَّ ^ فَقَالَ: إِنِّي أَشْتَهِي الْجِهَادَ وَإِنِّي لَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ، قَالَ: هَلْ بَقِيَ أَحَدٌ مِنَ وَالِدَيْكَ؟ قَالَ: أُمِّي، قَالَ فَأَبْلِ اللهَ عُذْرَاً فِيْ بِرِّهَا فَإِنَّكِ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ فَأَنْتَ حَاجٌّ وَمُعْتَمِرٌ وَمُجَاهِدٌ إِذَا رَضِيْتَ عَنْكَ أُمُّكَ فَاتَّقِ اللهَ فِيْ بِرِّهَا»رواه الطبرانيُ وحُسَّنَهُ الْعِرَاقِي.
وَكَانَ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ بِرَّ الْأُمِّ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ وَقَالَ:«أَنِّيْ لَا أَعْلَمُ عَمَلَاً أَقْرَبُ إِلَى الله عَزَّ وَجَلَّ مِنْ بِرِّ الْوَالِدَةِ»، وَهُوَ مَذْهَبُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْسَّلَفِ.
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا لِرَجُلٍ عِنْدَهُ أُمُّهُ:«وَالله لَوْ أَلَّفْتَ لَهَا الْكَلَامَ، وَأَطْعَمْتَهَا الْطَّعَامَ، لَتَدْخُلُنَّ الْجَنَّةَ مَا اجْتَنَبْتَ الْكَبَائِرَ».
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ المُنْكَدِرِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:«بَاتَ أَخِي عُمَرُ يُصَلِّي وَبِتُّ أَغْمِزُ رِجَلَ أُمِّي وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لَيْلَتِيْ بِلَيْلَتِهِ».
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ:«قُلْتُ لِلْحَسَنِ: إِنِّي أَتَعَلَّمُ الْقُرْآنَ، وَإِنَّ أُمِّي تَنْتَظِرُنِي بِالْعِشَاءِ، قَالَ الْحَسَنُ: تَعَشَ الْعَشَاءَ مَعَ أُمِّكَ تُقَرَّ بِهِ عَيْنُهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ حَجَّةٍ تُحُجُّهَا تَطَوُّعَاً».
وَقَالَ بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَىْ:«الْوَلَدُ بِالْقُرْبِ مِنْ أُمِّهِ حَيْثُ تَسْمَعُ أَفْضَلُ مِنْ الَّذِي يَضْرِبُ بِسَيْفِهِ فِيْ سَبِيِلِ الله عَزَّ وَجَلَّ، وَالْنَّظَرُ إِلَيْهَا أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ».
فَأَيْنَ الْنَّاسُ فِيْ بَرِّ أُمَّهَاتِهِمْ، وَالْعِنَايَةِ بِهِنَّ، وَالْقِيَامِ عَلَى خِدْمَتِهِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيْثِ وَالْآثَارِ الْعَظِيْمَةِ فِيْ حَقِّ الْأُمِّ، وَفَضِيْلَةِ بَرِّهَا؟!
إِنَّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهَا لَبَوْنَاً شَاسِعَاً، وَمَفَازَاً عَظِيماً.. يَسْتَثْقِلُونَ خِدْمَةَ أُمَّهَاتِهِمْ، وَالْقِيَامَ عَلَيْهِنَّ، وَتَلْبِيَةَ رَغَبَاتِهِنَّ، وَالْأُنْسَ بِهِنَّ، وَالْجُلُوْسَ مَعَهُنَّ، وَيَمَلُّونَ حَدِيْثَهُنَّ، وَيُقَدِّمُوْنَ تَرْفِيهَ أَزْوَاجِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ عَلَى بِرِّ أُمَّهَاتِهِمْ إِلَّا مَا رَحِمَ اللهُ تَعَالَىْ، وَقَلِيْلٌ مَّا هُمْ.. تَرَى الْوَاحِدَ مِنْهُمْ يَأْنَسُ بِصَحْبِهِ وَيُضَاحِكُهُمْ وَيُطِيْلُ المُكْثَ مَعَهُمْ، وَإِذَا كَانَ فِيْ مَجْلِسِ أُمِّهِ كَشَّرَ وَتَقَبَّضَ وَثَقُلَ كَلَامُهُ، وَاشْتَغَلَ فِيْ مَجْلِسِهَا بِغَيْرِ حَدِيْثِهَا كَهَاتِفٍ أَوْ صَحِيْفَةٍ أَوْ غَيرِ ذَلِكَ، وَهَذَا مِمَّا يُحْزِنُهَا وَيَكْسِرُ قَلْبَهَا أَنْ لَا يَأْبَهَ وَلَدُهَا بِهَا، وَلَا يُنْصِتُ لِحَدِيْثِهَا، وَلَا يُوَقِّرُ مَجْلِسَهَا..
وَمَنْ فَتَّشَ فِيْ حَالِهِ مَعَ أُمِّهِ وَجَدَ كَثِيْرَاً مِنَ الْعُقُوقِ لَا يَفْطِنُ إِلَيْهِ، وَتَصَرُّفَاتٍ لَا يُلْقِي لَهَا بِالَاً وَهِيَ مِنَ الْعُقُوقِ..
فَحَذَارِ حَذَارِ -عِبَادَ الله- فَإِنَّ حُقُوْقَ أُمَّهَاتِنَا عَلَيْنَا كَثِيْرَةٌ، وَإِنَّ بِرَّهُنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْوَاجِبَاتِ، وَالْنُّصُوصُ فِيْهِ كَثِيْرَةٌ، يَكْفِي مِنْهَا وَصِيَّةُ الله تَعَالَى لِلْمَسِيْحِ عَلَيْهِ الْسَّلَامُ الَّتِي نَطَقَ بِهَا وَهُوَ فِيْ المَهْدِ [وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالْزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيَّاً * وَبَرَّاً بِوَالِدَتِيْ وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارَاً شَقِيَّاً] {مَرْيَمَ:31-32}..
وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
المشاهدات 3517 | التعليقات 4
حياك الله تعالى وبياك شيخ علي وشكر لك مرورك وتعليقك..
وكون بعض المقصرين في الهدي الظاهر أبر بأمهاتهم من المحافظين على الهدي الظاهر صحيح، وهذا مرده إلى ما في النفوس من أخلاق وطبائع، وإلى تأثير الصحبة والقدوة في الإنسان، والطاعات فرضا ونفلا كثيرة، كما أن المحرمات كثيرة، وقد يوفق الإنسان لبعضها ويحرم بعضها.. والموفق من أعانه الله تعالى على نفسه، ودحر شيطانه، وحافظ على الواجبات كلها، ولم يجزئها فيأخذ بعضا ويترك بعضا.. والله المستعان على ذلك (إياك نعبد وإياك نستعين)
تعليقات الأخوات على خطبتك حفظك الله في الموقع
https://khutabaa.com/khutabaa-section/corncr-speeches/173533
جزاك الله تعالى خيرا شيخ مازن على اهتمامك ونفع بك، وهي تعليقات مؤلمة أن توجد امرأة واحدة تحرم من أولادها فكيف إذا كثر ذلك، ولا منصف لهن من الناس؟؟
فالله المستعان على كل ظالم وجبر سبحانه قلب كل أم حيل بينها وبين أولادها، ..
علي القرعاني
الغريب في أمر برّ الوالدين أنه قد يوفّق اليه بعض المقصرين في جوانب كثيرة من الدين، ويحرم منه بعض المنتسبين الى الاستقامة والصلاح...
فليس كل البارين بوالديهم هم من ذوي اللحى الطويلة والثياب القصيرة, بل كثير من أولئك العصاة (الدشير) إن راق لي التعبير بهذا الاصطلاح العامي- وفّقوا في بر والديهم، بل تجد في البيت الواحد هذا التميّز واضحا..
والحلّ هو اللجوء الى الله تعالى في طلب التوفيق لبر الوالدين, فنسألك اللهمّ أن توفّقنا لبر والدينا أحيانا وأمواتا..
تعديل التعليق