وُجُوبُ الـمُبَادَرَةِ لِلحَجِ 1440/10/25هـ
عبد الله بن علي الطريف
1440/10/22 - 2019/06/25 22:48PM
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ الملكِ العلامِ، الذي فرضَ علينا الحجَ إلى بيتِه الحرامِ، وجعلَه مرةً في العُمرِ لا كلَ عامٍ، وجعلَ ذلك ركناً من أركانِ الإسلامِ، أحمدُه سبحانَه على الرخاءِ والنعماءِ، وأشكرُه في السراءِ والضراءِ، وأشهدُ ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن نبينا محمداً عبدُه ورسولُه، أرسلهُ اللهُ رحمةً للعالمين. اللهم صلّى وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: أيها الإخوة: انقضى رمضانُ وهاهي أشهرُ الحجِ إلى بيتِ اللهِ الحرامِ قد بدأت في شوالَ ومن المناسبِ الحثُ على الحجِ الآنَ ليتمكنَ مريدُه من إتمامِ إجراءاتِ الحجِ، فأداءُ ما فرضَ اللهُ من الحجِ إلى بيتِه الحرامِ واجبٌ على الفورِ متى استطعتُم إليه سبيلاً، فقد قال اللهُ تعالى موجباً للحج: (وَلِلهِ عَلَى الناسِ حِجُ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَ اللهَ غَنِيٌ عَنِ الْعَالَمِينَ) [آل عمران:97].
قال المفسرون: في قوله: (عَلَى الناسِ) دليلُ الوجوبِ، خصوصًا إذا ذُكر المستحِقُ. ثم أتْبَعَه بقوله: (وَمَنْ كَفَرَ فَإِن اللهَ غَنِي عَنِ الْعَالَمِينَ) ليبينَ أن مَن لم يعتقدْ وجوبَه فهو كافرٌ، وأنه إنما وَضعَ البيتَ وأوجبَ حَجَه ليشهدوا منافعَ لهم لا لحاجتِه إلى الحجاجِ كما يحتاجُ المخلوقُ لمن يقصدُه ويُعظمُه؛ لأن اللهَ غنيٌ عن العالمين.
وقال سبحانه: (وَأَتِموا الْحَج وَالْعُمْرَةَ لِلهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) [البقرة:196] قال: الشيخ السعدي: يُستدلُ بقوله تعالى: (وَأَتِموا الْحَج وَالْعُمْرَةَ) على أمورٍ، أحدُها: وجوبُ الحجِ والعمرةِ، وفرضيتُهما. الثاني: وجوبُ إتمامِهما بأركانِهما، وواجباتِهما، التي قد دل عليها فعلُ النبي صلى الله عليه وسلم، وقولُه: "خذوا عني مناسككم".
وقال سبحانه: (وَأَذِنْ فِي الناسِ بِالْحَج يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُل ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُل فَج عَمِيقٍ) [الحج:27]. قال سعيد بن جبير رحمه الله: "فأذن فيهم: إن لربكم بيتًا فحجوا". وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ، فَحُجُّوا»، فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللهِ.؟ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ لَوَجَبَتْ، وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ» ثُمَّ قَالَ: «ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ» رواه مسلم
وَعَنْ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَابِ: "لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَبْعَثَ رِجَالاً إلَى هَذِهِ الأَمْصَارِ فَيَنْظُرُوا كُلَ مَنْ كَانَ لَهُ جدةٌ (أي غِنى) ولم يحُج فيضربوا عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةَ، مَا هُمْ بِمُسْلِمِينَ، مَا هُمْ بِمُسْلِمِينَ" رواه السيوطي في الدر المنثور 3/693 وإسناده صحيح قالَ شيخُ الإسلامِ رحمَه اللهُ في شرحِ العمدةِ: وهذا قولُ عمرُ ولم يخالفْه مخالفٌ من الصحابةِ، وقد حَكى رحمَهُ اللهُ اتفاقُ الصحابةِ والسلفِ أن الحجَ يجبُ على الفورِ. أي إذا توفرت شروطُه وجبَ وعلى المسلمِ المبادرةُ به وعدمُ تأخيرِه.. وشروطُ وجوبِ الحجِ: البلوغُ، والعقلُ، والحريةُ، والاستطاعةُ بالبدنِ والمالِ، ويشترطُ للمرأةِ زيادةً على ذلك وجودُ المحرمِ.
وقال رحمَهُ اللهُ: بعدما ساقَ الأحاديثَ التي تدلُ على التغليظِ في تأخيرِ الحجِ مع توفرِ شروطِه: "وَهَذَا التَّغْلِيظُ يَعُمُّ مَنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ الْفَوَاتُ، وَهُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ، وَمَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ فَفِي تَأْخِيرِهِ تَعَرُّضٌ لِمِثْلِ هَذَا الْوَعِيدِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَإِنَّمَا لَحِقَهُ هَذَا؛ لِأَنَّ سَائِرَ أَهْلِ الْمِلَلِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لَا يَحُجُّونَ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ يُصَلُّونَ، وَإِنَّمَا يَحُجُّ الْمُسْلِمُونَ خَاصَّةً".أهـ.
وقال شيخُنا محمدُ العثيمين رحمه الله بعدما ذكرَ أدلةَ الوجوبِ: والأصلُ في الأمرِ أن يكونَ على الفورِ، ولهذا غضبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوةِ الحديبيةِ حينَ أمرَ الصحابةَ رَضْيَ اللهُ عَنْهُم بالإحلالِ من الإحرامِ وتباطئوا... ولأن الإنسانَ لا يدري ما يعرضُ له، فقد يكونُ الآنَ قادراً على أَنْ يقومَ بأمرِ اللهِ عزَّ وجل، وفي المستقبلِ عاجزاً.. ولأن اللهَ أمرَ بالاستباقِ إلى الخيراتِ فقال: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ..) [البقرة:148]، والتأخيرُ خلافُ ما أمرَ اللهُ به، وهذا هو الصوابُ، أن الحجَ واجبٌ على الفورِ.
أحبتي: لقد تأملتُ تلكَ الآياتِ والأحاديثَ التي تدلُ على وجوبِ الحجِ الذي لا مريةَ فيه.. ثم تأملتُ قولَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَعَجَلُوا إلَى الْحَجِ -يَعْنِي الْفَرِيضَةَ- فَإِنَ أَحَدَكُمْ لا يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ". رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وهو حديث حسن.. فتوقفتُ عند هذا الحديثِ متسائلاً هل أدركَ المسلمونَ ما عناهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أمرٍ بأداءِ الحجِ على الفورِ، أي من حينِ اكتمالِ شروطِه فيهم يبادرون..؟ وهل أولوا ما يدلُ عليه من تَوْجِيهٍ اهتمامِهم فجعلوا الحجَ هدفاً يسعونَ لتحقيقِهِ في أنفسِهم ولمن ولاهم اللهُ أمرَهم.؟
فسرحتُ الطرفَ في أحولِنا فوجدتُ مع الأسفِ في واقعِنا تهاوناً وتسويفاً مِنْ بعضِنا لا ينبغي أن يكونَ من مؤمنٍ.. فكم في مجتمعاتِنا اليومَ ممن تتوفرُ فيهم شروطُ وجوبِ الحجِ ومع ذلك سوفوا وأخروا..!!
وسمعتُ عن أناسٍ ضربوا الأرضَ طولاً وعرضاً، ولم يدعوا مكاناً جميلاً في هذه الأرضِ إلا وصلوه ورأوه وربما ترددوا عليه مراتٍ وكرات.. ووجدُوا للوصولِ إليه والسياحةِ في ربوعِه سبيلاً، ووفروا للسياحةِ فيه ما يكفيها من أموالٍ بطُرقٍ عجيبةٍ..! ومن هؤلاءِ مع الأسفِ من بلغَ منتصفَ العُمرِ أو تعداه ومع ذلك لم يؤدِ فريضةَ الحجِ، ولم يفكر بإيجادِ السبيلِ إليه..!!
وسمعتُ عن آخرين توفرت فيهم شروطُ وجوبِ الحجِ لكنَّهم لم يحجوا لأنَّهم يرون أن الإنسانَ لا يمكنُ أَنْ يحجَ إلا إذا تزوجَ أو تخرجَ.! وأقولُ لهم: لم يجعلْ أحدٌ من أهلِ العلمِ الزواجَ أو التخرجَ شرطاً من شروطِ وجوبِ الحجِ.!
وقالَ بعضُ المسوفين: لا أحجُ حتى أكونَ مستقيماً على الدينِ، قائمًا بكلِ الواجباتِ، ومنتهيًا عن كلِ المحرماتِ ثم أحجُ. نقولُ لمن اعتقدَ هذا الاعتقادَ: إن الحجَ من الأوامرِ الشرعيةِ، فإذا تمت شروطُ وجوبِه وجبَ..
وهُوَ خطوةٌ في طريقِ الاستقامةِ على دينِ اللهِ وتنفيذُ جميعِ الأوامرِ الشرعيةِ الأخرى، وقطعُ الطريقِ الطويلِ إنما يكونُ بُخطْوةٍ ثم خُطْوةٍ، ، وكم رأينا منْ الرجالِ كان الحجُ مفتاحَ صلاحِهم وبدايةَ استقامتِهم؛ خصوصًا إذا وفقَ مريدُ الحجِ لرفقةٍ صالحةٍ. أقولُ لهؤلاءِ جميعاً: لقد بنيتُم عوائقَ وهميةً للحجِ ليس لها أصلٌ في الشرعِ.
وسمعت عن أناسٍ جابوا الأرضَ شرقاً وغرباً مع أسرِهم وفي أولادِهم من بلغَ عاقلاً ولم يفكرْ يوماً بأخذِ البالغينَ لأداءِ فريضةِ الحجِ.! نعم ليسَ واجباً عليه تحجيجُهم لكن لو فعلَ حازَ أجوراً كثيرةً منها أجرُ تحجيجِ الفريضةِ، وأجرُ الدعوةِ للخيرِ وأجرُ الصلةِ لأقربِ قريبٍ في أداءِ ركنٍ من أركانِ الإسلامِ.
أقولُ لهؤلاءِ: عجباً لكم كيف تتثاقلون فريضةَ الحجِ وهو لا يجبُ في العمرِ إلا مرةً واحدةً؟! وكيف تتراخونَ وتؤخرونَ أداءَه وأنتم لا تدرونَ لعلَكم لا تستطيعون الوصولَ إليه بعد عامِكم هذا؟!
وسمعت عن كفلاءَ رفضوا الإذنَ لمكفولِيهم لأداءِ فريضةِ الحجِ بحجةِ أن العملَ يتعطلُ أو أن المكفولَ جديدٌ ولا بدَ أن يمضي عدداً من السنواتِ حتى يأذنَ له بالحجِ، وربما سافرَ العاملُ وضاعت على الطرفين فرصةُ الحجِ..
وأقولُ لهؤلاءِ: لقد أبعدتُم النجعةَ وفوتُم على أنفسِكم خيراً كثيراً.. وفوتم على من ولاكم اللهُ أمرَهم خيراً كثيراً.. فقد فاتَ عليهم أداءَ أحدِ أركانِ الإسلامِ ومبانيهِ العظامِ.. ولا تدري لعل هذا التسهيلَ منك لأخيِك في الدينِ يكونُ سببَ خيرٍ وبركةٍ ونماءٍ في مالِك وتجارتِك، ولا حرجَ من التنسيقِ بين العاملين حتى لا تتعطلَ المصالحِ.. أسألُ اللهَ بمنهِ وكرمهِ أن يعينَنا على ذكرِه وشكرِه وحسنِ عبادتِه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
الثانية:
الحمد لله الذي جعَل ثوابَ الحجِ المبرورِ الجنةَ دارُ السلامِ، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له الملكُ العلامُ، وأشهدُ أنَّ سيِّدنا ونبيَّنا محمَّدًا عبد الله ورسوله نبيُّ الرحمةِ وسيِّدُ الأنامِ، اللّهمّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمّد، وعلى آله وصحبه الأئمّةِ الأبرارِ الأعلامِ.
أيها الإخوة: اتقوا اللهَ تعالى وأطيعُوه، واعلموا أن الخيرَ كلَّ الخيرِ في المبادرةِ بأداءِ الحجِ.. وأقولُ لمن ذكرتُ أحوالَهم جميعاً قفوا وتأملوا معي هذه النصوص..
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ، فَلْيَتَعَجَّلْ، فَإِنَّهُ قَدْ يَمْرَضُ الْمَرِيضُ، وَتَضِلُّ الضَّالَّةُ، وَتَعْرِضُ الْحَاجَةُ" رواه ابن ماجة وحسنه الألباني..
وعن زيدِ بنِ خالدٍ الجهني رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ جَهَزَ غازيًا، أَوْ جَهَزَ حَاجًّا، أَوْ خَلَفَه في أَهْلِهِ، أَوْ فَطَرَ صَائِمًا، كَانَ لَهُ مِثْلُ أُجُورِهم مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهم شَيءٌ". رواه ابن خزيمة والنسائي وصححه الألباني
في هذين الحديثين ترهيبٌ وترغيبٌ، ترهيبٌ من مغبة التأخيرِ سواءٌ من تأخرِ الإنسانِ بنفسِه، أو تأخير من ولاكَ اللهُ أمرَه، وترغيبٌ في مساعدةِ مريدِ الحجِ سواءٌ من النساءِ بالمحرمِية أو بالمالِ، أو من الأولادِ بالمالِ وحثِهم على الحجِ، أو من العمالةِ بالإذنِ والمساعدةِ الإداريةِ والماليةِ لهم..
وأقولُ لأولياءِ النساءِ: إِنَّ مِنْ النساءِ مَنْ تستطيعُ الحجَ ببدنِها ومالِها لكنها لا تستطيعُ أداءَ الفريضةِ بسببِ اعتذارِ المحرمِ عن مرافقتِها، فاحتسبوا الأجرَ فيمن ولاكم اللهُ عليهن من النساءِ؛ فإن رسولَ اللهِ يقولُ: «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا» رواه البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وزاد أهلُ السننِ: «فَإِنَّهُنَّ عِنْدَكُمْ عَوَانٍ» ، أي: أسيرات..
ويَقُولٌ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خَيْرُكُمْ خيركم لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي" رواه الترمذي وابن ماجة عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ وَقَالَ الألبانيُ صحيح
ومن الوصيةِ بهنَّ، وإكرامِهنَّ، وتقديمِ الخير لهنَّ مرافقتُهنَّ إلى أداءِ فريضةِ الحجِ. بادروا وفقكم الله لكل خير، ولا تعتذروا ففي مرافقتهن خيرٌ كثير.