وجوب الاحتساب وخطر السكوت على المنكرات

عبدالرحمن اللهيبي
1440/12/22 - 2019/08/23 05:21AM

خطبة جٌمعت بتصرف أسأل الله أن ينفع بها 

أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، اتقوا الله، فإنَّ تقواه أفضل مكتسب، وطاعتَه أعلى نسَب، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ

أيّها المسلمون، تعظم الفتن في آخرِ الزَّمان، ويكثر الشر والفساد في الأنام، ويعظم علو المنافقين وطعنِهم في شعائر الإسلام , وتشتدُّ الغربة على أهل الإصلاح والإيمانِ، هم غرباء في لباسهم ومظهرهم , غرباء في حديثهم وكلامهم , غرباء في همهم وتفكيرهم .. ذلك لأنهم يعيشون في زمن مادي أحاطت به الشهوات والمنكرات واستمرأ كثير من الناس تلك المنكرات وألفوها ، ولم يعد يرون بأسا فيها ، بل وربما ينكرون على من خالفهم عليها.

فهل شعرتم بقدر الغربة التي تعيشها تلك المرأةُ المحجبة المحتشمة في أسواقنا اليوم ... وتلك الفتاةُ المحافظة على قيمها وأخلاقها وحيائها ولباسها بين زميلاتها في الجامعة ؟

وهل شعرتم بقدر الغربة التي يعيشها الشاب الصالح المتمسك بدينه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم بين الشباب اليوم

هل شعرتم بقدر الغربة التي يجدها ذاك الرجل التقي الذي لا يغتاب وينكر على صاحبها وهو لا يفتر عن ذكر ربه .. هل شعرتم بقدر غربته في مجالسنا اليوم التي لا تخلو من الغيبة والنميمة والإغراق في أمور الدنيا.

أما شعرتم بمشقة من يريد غض البصر في زمن طغيان وسائل الإعلام وفي عالم الثورة التقنية الحديثة

أما شعرتم بغربة الرجل الناصح الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بين الناس اليوم

أما شعرتم بغربة المسئول الصادق المخلص الأمين الذي يكافح الفساد دون مجاملة لأحد

أما شعرتم بغربة التاجر الأمين الذي يعتني بالجودة والإنفاق عليها حتى ولو قلل ذلك من نسبة أرباحه

أما شعرتم بغربة الرجل الخاشع في المساجد والتالي المتدبر للقرآن الكريم

أما شعرتم بغربة الرجل الذي يريد أن يقيم زواجا خفيفا ميسرا دون تكاليف

أما شعرتم بغربة من يعتني بتربية أبنائه على ترك كل إثم وحرام فهل يمكنه ذلك والمجتمع المحيط بأبنائه غارق في أجهزة لا تتحرز من بث كل فساد وحرام

إن هؤلاء المستمسكين بدينهم في هذا الزمان كأنهم يقبضون على الجمر كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم

فما الذي يؤدي يا عباد الله إلى غربة الإسلام بنقصِه ونقضه وتهوين أمره وتمييعه والاستهانة بحرُماته إلى حدِّ التفلّتِ الأخلاقيّ ,والفساد والاجتماعيِّ, والانسلاخ القيمي؟

عباد الله : إنما تحصلُ غربةُ الإسلام, بالمجاهرةِ بقبائِحِ الأفعال وكبائر الذنوب .. وتعظم غربة الإسلام وأهله بغياب شعيرةِ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. كما تعظم غربة الإسلام وأهله بغلَبَة أهل النفاق والباطل وعلو أهلِ الفساد والفجور فيتتبعون الأهواءَ المضِلّة والأقوالَ الشّاذّة , ويفسدون على الناس دينهم ويلبسون الحق بالباطل ، ويشتغلون بمعارضةِ نصوص الكتاب والسنة بقَعقَعة التأويل الفاسد وجَعجَعة الإصلاح والتغيير وفرقعةِ الانفتاح والتنوير ، وكل ذلك بحجة مواكبة الحضارة ومسايرة التطوير.

أيّها المسلمون، إنَّ السّكوتَ عن الآثِم المجاهر والمنكرِ الظاهر لهو من أعظم أسباب غربة الدين وهو عيبٌ في أهل الإسلام ودليل نقصِ وَلائهم لدين الله تعالى وضعف محبتهم لرسول الله ، وهو عَلامةٌ على ضعفِ إيمانهم وقِلّة توكُّلهم على من أمرُه إذا أراد شيئًا أن يقول له: كن يكون، قال تعالى وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ تأمل كيف جعل الله الأمرَ بالمعروف والنّهيَ عن المنكر مِن أوَّلِ صفات المؤمنين وأعظمِ سمَاتهم وأجل خصالهم

وعن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: سمعت رسولَ الله يقول: ((من رأى منكم منكرًا فليغيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلِسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) أخرجه مسلم.

أيّها المسلمون، الساكتُ عن المنكر حالَ الإظهار وعدم الاستتار مع إمكانِ الإنكار شريكٌ في الإثم لا يسلَمُ من التبِعة يوم القيامة ، ولا ينجو من الإثم والحرج، إلا إذا شاء الله

يقول جلّ في علاه: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ

فِتنةٌ تتعدَّى المذنِبَ المجاهِرَ لتصيبَ الصالح والطّالح، بسَبَب منكراتٍ ظاهرة لم تُدفَع وتجاوزاتٍ للشَّرع لم تُمنَع. فإن قيل: فما ذنبُ من لم يظلِم؟ قيل: بموافَقَتِه الأشرار أو بسكوته عن الإنكار استحقَّ عقوبة الجبّار.

وإذا استعلن الناسُ بالمنكر وأتَوه جِهارًا وجَب إنكارُه على من رَآه، فإذا سكَتوا جميعًا فالكلُّ عُصاة: هذا بفعلِه وهذا برضاه، فعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله  يقول: ((ما مِن رجلٍ يكون في قومٍ يَعْملُ فيهم بالمعاصي يقدرون على أن يغيِّروا عليه فلا يغيّروا إلاَّ أصابهم الله بعذابٍ من قبل أن يموتوا))

وقال النَّبيِّ ﷺ قَالَ: والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتَأْمُرُنَّ بالْمَعْرُوفِ، ولَتَنْهَوُنَّ عَنِ المُنْكَرِ، أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّه أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ، ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلا يُسْتَجاب لكم

غايةٌ في التشدِيد ونهايةٌ في التهديد بأوفى وعيدٍ.. نسأل الله أن يتدارَكَنا بعفوه ولطفِه ورحمتِه، وأن يهديَ ضالَّنا ويصلحَ شبابنا وفتياتنا.

 

الحمد لله على إحسانه، والشّكر له على توفيقِه وامتنانه، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانهِ، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلّم تسليمًا كثيرًا.

أيّها المسلمون، لا ينجو من البلاء والعذاب إلاَّ الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والمصلِحون لما أفسد الناس، وخسِر هنالك العصاةُ المجاهرون وكذلك الساكتون المداهنون قال جلَّ في علاه: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ 

أيّها المسلمون، مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر فإن ذلك من أعظم شعائر الدين ومن سنن الأنبياء والمرسلين ومن سبل النجاة والعافية في الدنيا والدين

أنكِروا على من أخل بالتوحيد فدعا غير الله .. أنكرو على تارك الصلاة تلك الفريضة العظيمة الواجبة ، وأنكروا ما استطعتم على المتبرجة السافرة ، أنكروا على المغتاب والنمام ، أنكروا على رافع الصوت بمزمار الشيطان

أنكروا على من يؤذي فتيات المسلمين ، أنكروا على التاجر الغشاش والمسئولِ الخائن للأمانة

أنكروا على كل من جاهر بانتهاك الحرمات ومواقعةِ الحدود، وعِظوا من استعلن بملابسةِ الذنوب، ولا تهاونوا ولا تكاسَلوا، أنكروا من غير ضعف أو فتور .. من قبل أن يستشرِيَ العصيان والفجور ويستَعليَ الإعراض والصدود ويكثُرَ الفساد والشُّرود، ِّ قال : ((إذا عُمِلت الخطيئة في الأرضِ كان من شهِدها فأنكَرَها كمَن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضِيَها كان كمن شهِدها))

أيّها المسلمون، ويلٌ ثم ويل لمن فرِح بعلو أهل المعاصي والمنكرات  أو رضيَ بباطلهم، أو أشادَ بأفعالهم، أو كثّر بدعمه وتأييده سوادَهم  ومَن رضِيَ عمَلَ قومٍ كان شريكَا لهم، والرِّضا بالمعصية وِزر، والرِّضا بالكفر كفر، قال جل في علاه: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ المُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا.

 

ويا أيّها المجاهر بفسقه, الداعي إلى معارضة شرع ربه ,حلّت بك الخيبَةُ والخسار .. ورُفِعَت عنك العافية وتردَّيتَ في البوار ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسولَ الله يقول: ((كلُّ أمّتي معافى إلاّ المجاهرين، وإنَّ من المجاهرةِ أن يعملَ الرجلُ بالليل عملاً، ثم يصبح وقد سترَه الله، فيقول: يا فلان، عملتُ البارحةَ كذا وكذا، وقد باتَ يستره ربُّه، ويُصبح يكشِف سترَ الله عنه)) أخرجه البخاري.

فويلٌ لمن عَرّض نفسَه لمَقتِ الله وغضَبِه وعذابه وسخَطِه، ويلٌ له يوم يلقَى الله بشؤمَ فعله وعاقبةِ المجاهرة بمعصيته، وكان عاقبةُ أمرِه خسرًا.

وَقاني الله وإياكم سبيلَ الخاسِرين، وأعاذنا الله أن نكون من المجاهرين وجعلنا بالمعروف آمرين وعن المنكر ناهين ولسنّة سيّد المرسلين من المتبعين.

اللهمّ صلِّ وسلم على نبينا وسيّدنا محمّد، بشير الرحمة والثواب، ونذير السَّطوة والعقاب، الشافع المشفَّع يومَ الحساب، اللّهمّ وارضَ عن جميع الآل والأصحاب...

المشاهدات 739 | التعليقات 0