وَتُوَقِّرُوهُ [3] صُوْرٌ مِنْ تَوقِيرِ سَلَفِ الأُمةِ لَهُ ﷺ

عبد الله بن علي الطريف
1442/04/12 - 2020/11/27 00:50AM
وَتُوَقِّرُوهُ [3] صُوْرٌ مِنْ تَوقِيرِ سَلَفِ الأُمةِ لَهُ ﷺ. 1442/4/12هـ
أيها الإخوة: كان الصحابةُ الكرامُ رَضِيَ اللَّه عَنْهُم يحبونَ النبيَ ﷺ أشدَ الحب، ويوقرونه أعظم التوقير، وأخبارهم في ذلك أكثر من أن تُحْصى أو تُسْتقصى.. وذكرنا في جمعة ماضية طائفة من أخبارهم رَضِيَ اللَّه عَنْهُم..

أحبتي: وطبيعة البشر أنهم يحبون ويوقرون في العادة من يعاشرهم ويخالطهم بطيب معشر، لكن العجب يأخذُ بلبك عندما ترى شخصية تتفجرُ ينابيعُ الحب في قلوب من لم يروه، وتتعاظم مكامن التوقير في نفوسهم عند ذكره أو بيان شيء من سيرته.. أو عند نقل شيء من حديثه حباً وإجلالاً..

نعم إنه رسول الله محمد بن عبدالله ﷺ حبيبُ الأمةِ وكريمُها، صلى الله عليك يا علم الهدى ما هبت النسائم وناحت على الأكيد الحمائم.. هذا النبي الذي صلى عليه الله في عليائه، وصلت عليه ملائكته الأبرار، وأمر الباري عباده بالصلاة والسلام عليه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56] وهذا فيه تنبيه على كمال رسول الله ﷺ ورفعة درجته، وعلو منزلته عند الله وعند خلقه..

وجعل صلواتي ربي وسلامه عليه من ترك الصلاة عليه بخيلاً فَعَنْ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «البَخِيلُ مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ» رواه احمد والترمذي وصححه الألباني.

ولقد رفع الله ذكره ﷺ وأنزلَ ذلك في كتابه الكريم قرآناً يتلى فقال: (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) [الشرح:4] أي: أعلينا قدرك، وجعلنا لك الثناء الحسن العالي، الذي لم يصل إليه أحد من الخلق، فلا يُذكرُ اللهُ تعالى إلا ذُكر معه رسولُه ﷺ، كما في الدخول في الإسلام، وفي الأذان، والإقامة، والخطب، وغير ذلك من الأمور التي أعلى الله بها ذكر رسوله محمد ﷺ.

وله في قلوب أمته من المحبة والإجلال والتعظيم ما ليس لأحدٍ غيرِهِ، بعد الله تعالى، فجزاه الله عن أمته أفضل ما جزى نبيًا عن أمته.

أيها الإخوة: لعلنا نسوق طرفاً من أخبار محبته وتوقيره بين التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ، ممن آمن به وصدقه وأحبه، وَوَدَ النَّبِيُّ ﷺ رؤيتَهم ولقاءَهم فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «وَدِدْتُ أَنِّي لَقِيتُ إِخْوَانِي» فَقَالَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ ﷺ: أَوَلَيْسَ نَحْنُ إِخْوَانَكَ.؟ قَالَ: «أَنْتُمْ أَصْحَابِي، وَلَكِنْ إِخْوَانِي الَّذِينَ آمَنُوا بِي وَلَمْ يَرَوْنِي» رواه أحمد وصححه الألباني. وفي رواية: «الذِينَ يُؤمِنُونَ بِي وَلَمْ يَرَونِي، وَيُصَدِقُونَ بِرِسَالَتِي وَلَمْ يَلَقَوْنِي، يَوَدُ أَحَدُهُم لَو رَآَنِي بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ». ولا يعني هذا أنهم أفضلُ من الصحابة ففضل الصحبة لا يقاربه فضل، ومن صَحِبَهُ ﷺ ليس كمن لم يصحبه..

وأخبار التابعين وتابعيهم في محبته ﷺ وتوقيره وإجلاله مستفيضةٌ استفاضةً يظن

من يسمعُها أن إجلالَ النبيِ ﷺ سجيةٌ من سجاياهم.. فقد عرفوا قدره ومنزلته، وعلموا ما له من الفضل عليهم..

حدث الإمام مالك رحمه الله تعالى عن جماعة من شيوخه، رأى من حالهم ما رأى عند ذكر النبي ﷺ نشير لشيء منها:

قال مالك: كان أيوب السختياني رحمه الله إذا ذُكر النبي ﷺ بكى إجلالاً للنبي ﷺ حتى أرحمه. سير أعلام النبلاء. وكان جعفر بن محمد كثير الدعابة والتبسم فإذا ذُكر عنده النبي ﷺ اصفرَّ لونه.. وكان عبد الرحمن بن القاسم يذكر النبي ﷺ فينظر إلى لونه كأنه نزف منه الدم، وقد جف لسانه في فمه هيبة لرسول الله ﷺ. ذكره القاضي عياض في الشفاء.

وذكر أهل السير أن ركباً عراقياً خرج حاجّاً في سنة 394هـ فلما فرغوا من الحج عزم أميرهم على العودة سريعاً إلى بغداد، وأن لا يقصدوا المدينة النبوية خوفاً من سرّاق الحجيج، فقام شابان قارئان على جادة الطريق التي منها يُعدل إلى المدينة النبوية عند المفرق، وقرآ: (مَا كَانَ لأَهْلِ المَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ). [التوبة:120].

فضج الناس بالبكاء، وأمالت النوق أعناقها نحوهما، فمال الناس بأجمعهم والأمير إلى المدينة فزاروا وعادوا سالمين إلى بلادهم.

وكَانَ الْحَسَنُ البصريُ إِذَا حَدَّثَ بِحَدِيث حَنِينَ الجِذعِ يَبْكِى، وَكانَ من أمره: لَمَّا قَعَدَ نَبِيُّ اللَّهِ ﷺ عَلَى الْمِنْبَرِ الَذِي صُنِعَ لَهُ خَارَ الْجِذْعُ خُوَارَ الثَّوْرِ حَتَّى ارْتَجَّ الْمَسْجِدُ بِخُوَارِهِ حُزْنًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَنَزَلَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنَ الْمِنْبَرِ، فَالْتَزَمَهُ وَهُوَ يَخُورُ، فَلَمَّا الْتَزَمَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ سَكَتَ، ثُمَّ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ أَلْتَزِمْهُ مَا زَالَ هَكَذَا حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ حُزْنًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ» قَالَ  الْحَسَنُ: يَا مَعْشَر الْمُسْلِمِينَ الْخَشَبَة تَحِنّ إِلَى رَسُول اللَّه ﷺ شَوْقًا إِلَى لِقَائِهِ فَأَنْتُمْ أَحَقّ أَنْ تَشْتَاقُوا إِلَيْهِ.. فصلوات ربي وسلامه عليه...

الثانية:
أيها الإخوة: من المستقر عند سلف الأمة رحمهم الله: توقيرُ النبي ﷺ بعد موته كتوقير الصحابة رَضِيَ اللَّه عَنْهُم له في حياته، فلا يرفعون أصواتهم في مسجده إجلالاً وتوقيراً له ﷺ؛ فَعَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: كُنْتُ قَائِمًا فِي المَسْجِدِ فَحَصَبَنِي رَجُلٌ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَقَالَ: اذْهَبْ فَأْتِنِي بِهَذَيْنِ، فَجِئْتُهُ بِهِمَا، قَالَ: مَنْ أَنْتُمَا.؟ أَوْ مِنْ أَيْنَ أَنْتُمَا؟ قَالاَ: مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ، قَالَ: «لَوْ كُنْتُمَا مِنْ أَهْلِ البَلَدِ لَأَوْجَعْتُكُمَا، تَرْفَعَانِ أَصْوَاتَكُمَا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ» رواه البخاري.

بل إن بعض التابعين يرى أن رفع الصوت في مجالس الحديث كرفعِ الصوتِ عند النبي ﷺ؛ لأن الحديثَ حديثُه، قال حماد بن زيد رحمه الله تعالى: "كنا عند أيوب السختياني فسمع لغطاً فقال: ما هذا اللغط؟ أما بلغهم أَنَّ رفعَ الصوتِ عند الحديث عن رسول الله ﷺ كرفع الصوت عليه في حياته".

وكان من توقيرهم للنبي ﷺ أنهم لا يحدثون بحديثه إلا وهم على أحسن حال وهيئة، ويربون أتباعهم على ذلك، فَقَدْ كَانَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ رَحِمَهُ اللهُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ، لَيُحَدِّثَ تَوَضَّأَ وضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ وَلَبِسَ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ، وَلَبِسَ قَلَنْسُوَةً، وَمَشَطَ لِحْيَتَهُ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ؟ فَقَالَ: «أُوَقِّرُ بِهِ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ» ذكره محمد بن نصر المروزي في تعظيم قدر الصلاة عن أَبِي سَلَمَةَ الْخُزَاعِيَّ. ويحدث أحمد بن سنان عن مجلس وكيع بن الجراح في التحديث عن رسول الله ﷺ فيقول: "لا يُتحدثُ في مجلِسهِ، ولا يُبرى قلمٌ، ولا يَتبسم، ولا يقومُ أحدٌ قائماً، كانوا في مجلسه كأنهم في صلاة فإن أنكر منهم شيئا انتعل ودخل"

ومر الإمام مالك على أبي حازم وهو يحدث فجازه، فقيل له، فقال: "لم أجد موضعاً أجلس فيه فكرهت أن آخذ حديث رسول الله ﷺ وأنا قائم" وكان محمد بن سيرين يتحدث فيضحك فإذا جاء الحديث خشع.

وجاء عن سعيد بن المسيب رحمه الله أنه سُئل عن حديث وهو مضطجع في مرضه فجلس وحدث به، فقيل له: وددت أنك لم تتعن فقال: كرهت أن أحدث عن رسول الله ﷺ وأنا مضطجع، وسئل ابن المبارك رحمه الله تعالى عن حديث وهو يمشى فقال: ليس هذا من توقير العلم. فرحمهم الله ووفقنا لاقتفاء طريقهم.. وصلوا وسلموا...

المشاهدات 701 | التعليقات 0