وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
عبدالله محمد الطوالة
1440/08/15 - 2019/04/20 06:40AM
الحمدُ للهِ، الحمدُ للهِ الذي بنعمتهِ اهْتدى المهتدون، وبعدلهِ ضلَّ الضَّالون، ولحُكمِهِ خضعَ الخلقُ كلُّهم أجمعون، {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}، {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ}، سبحانهُ وبحمده، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ..
وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}، سبحانهُ وبحمده، {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ..
وأشهدُ أن محمداً عبد الله ورسوله، الصادقُ الوعْدُ الأمينُ، سيِّدُ الأولين والآخِرين، وخيرُ خلْقِ اللهِ أجمعين، اللهمَّ صلِّ وسلّم وبارك عليه، وعلى آله الطيبينَ الطاهرينَ، وصحابتهِ الغرِّ الميامين، والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ، وسلَّم تسليماً كثيراً ..
أمّا بعد: فأوصيكم ـ أيها النّاس ـ ونفسي بتقوَى الله عزّ وجلّ، فاتَّقوا الله رَحمكم الله، ومَن أحبَّ صلاحَ الحال فليصلِحِ الأعمال، ومن سرَّه أن تدومَ عافيتُه فليتَّقِ الله ربَّه، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} ..
عباد الله: العاقل من وعظ نفسه، وأخذ حذره، وعمل لما بعد الموت .. والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني .. من تفكَّر في العواقب أخَذ بالحذر، ومن أيقن طولَ الطريق تأهَّب للسفر .. ومن قارب الفتنَ بَعُدت عنه السلامةُ، ومن أعظم العقوبةِ أن لا تُحسَّ بالعقوبة .. ومن استقَام باطنه استقامَت أمورُه، ومن رأى الأجَلَ وسَيره أدرك حقيقةَ الأملِ وغرورَه، ومن كانت الأيام مطاياه سارَت به سيراً حثيثاً .. وفي الحديث الصحيح : "من كانت الآخرة همه .. جمع الله شمله وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن كانت الدنيا همه .. فرق الله عليه أمره ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب الله له "..
إخوة الإيمان: نسير في هذه الدنيا سير الواثق، نلهث خلف سرابها الزائل، نحث الخطى مسرعين نحو لذائذها الفانية، وشهواتها الملهية .. وننسى في غمرة ذلك أن نوجه أنفسنا إلى الخير، أو أن نقف بها على جادة التأمل في الحال والمآل .. فتعالوا بنا إلى وقفة نتأمل فيها الحال ونذكِّر فيها النفوس .. فما أحوج القلوب الراكدة ، والنفوس الغافلة إلى التذكير ..
أحبتي في الله : من خاف الوعيد، قرب عليه البعيد، ومن طال أمله ضعف عمله ، وإن ربكم لم يخلقكم عبثا ، ولن يترككم سدى، فتزودوا من دنياكم ما تحرزون به أنفسكم غدا، فالأجل مستودع، والأمل خادع .. يقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه .. حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا ، فإنه أهون عليكم في الحساب غدا ، أن تحاسبوا أنفسكم اليوم ، وتزينوا للعرض الأكبر {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} ..
يا أهل الدنيا : أين وصية الحبيب صلى الله عليه وسلم : كُنْ في الدُّنْيا كأَنَّكَ غريبٌ، أَوْ عَابِرُ سبيلٍ .. ازْهَدْ في الدُّنيا يُحِبَّكَ اللَّه، وَازْهَدْ فِيمَا عِنْدَ النَّاسِ يُحبَّكَ النَّاسُ .. الدنيا سجن المؤمن, وجنة الكافر .. من أحب دنياه، أضر بآخرته، ومن أحب آخرته, أضر بدنياه، فآثروا ما يبقى على ما يفنى ..
نعم يا عباد الله : بالذكرى تلين القلوب وتخشع، وتنجلي غيوم الغفلة وتتقشع ، أين يفِرّ الفارّون من الله وكلُّهم في قَبضَتِه؟! وإلى مَن يلجَأ الخائفون وكلُّهم محفوظٌ بعنايتِه ورحمته .. آهٍ لو علم المفرطون مَاذا أَضاعوا .. كَم من قريبٍ أبعدَه التباعُدُ، ولا يَزال قومٌ يتأخَّرون حتى يؤخِّرَهم الله .. لا يُؤنِس في وحشةِ القبر إلا العمل الصالح ، ولا يقِي من عذاب النار بإذنِ الله إلا نورُ الإيمان ، ولا تثبُتُ القدم على الصراطِ إلا بالاستقامة على الهدى .. فعالِج يا عبد الله مرضَ المخالفة بالتوبة، وداوِ داءَ الغفلة بالإنابَة .. من سَلك سبيل أهلِ السلامة سلِم ، ومن لم يَقبل نُصحَ الناصحين ندِم .. الكرامةُ كرامةُ التقوى ، والعِزّ عِزُّ الطاعة ، والأُنسُ أنسُ الإحسان .. والوحشةُ وَحشة الإساءَة، ومن أحسن الظنَّ فليحسن العمَل .. والمؤمن العاقل يحاسبُ نفسَه ليقوِّمها ويصلحها .. يعلم أن كلَّ يومٍ من عمره غالٍ ونفيس، لا قيمةَ له فيباع، ولا يُستدرَك منه ما ضاع .. وأمامكم يا عباد الله مواسمٌ فاضله، وفرصٌ غالية، فلا تفوتنكم .. فتعضوا أصابع الندم ، {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} ..
إخوة الإيمان إنما مرضُ القلوب من الذنوب، وأصل العافية أن تتوب .. {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ..
والتوبة أن يقف العبد المذنب المقصر, وكلّنا مذنبون ومقصرون، أن يقف مُنكسر القلب، خاشع النفس, دامع العين، مطأطئ الرأس، لسان حاله ومقاله يا رب: ليس لي ملجأٌ سواك ، من يغفر لي إن لم تغفر لي؟! من يرحمني إن لم ترحمني ؟!. .. مولاي وسيدي : بك أستجير فمن يجير سواكـا .. فأجر ضعيفاً يحتمي بحماكـا .. يا غافر الذنـب العظيـم وقابـلاً .. للتـوب، قلـبٌ تائـبٌ ناجـاكـا .. يارب عُدت إلـى رحابـك نادمـاً .. مستسلمـاً مستمسكـاً بعـراكـا .. أدعـوك ياربـي لتغفـر حوبتـي .. وتُعينـنـي وتمـدنـي بهـداكـا .. فاقبل دعائي واستجب لرجاوتـي .. ما خاب يوماً من دعـا ورجاكـا ..
التّوبةُ يا عباد الله : من أعظمِ العباداتِ وأحبِّها إلى الله تعالى، مَن اتّصفَ بها تحقَّق فلاحُه، وبان نجاحُه، قال اللهُ تعالى: {فَأَمَّا مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ صَـالِحًا فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} .. وكفى بفضلِ التّوبةِ شرَفًا فرحُ الرّبِّ بها فرَحًا شديدًا، فعن أنسٍ رضي الله عنه قال: قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «للهُ أشدُّ فَرَحًا بتوبةِ عبدِه من أحدِكم إذا استيقظ على بعيره قد أضله بأرضِ فلاة» مسلم ..
التوبةُ خضوعٌ وانكسار، وتذلُّل واستغفار ، واستعتاب واعتذار ..
التوبةُ خوفٌ ورجاء، وخجلٌ وحياء، وخشيةٌ وبكاء، وتضرعٌ ودعاءٌ .. والتوبة ممكنةٌ في كل حين، مهيأةٌ لكل أحد، بابُها مفتوح، وخيرُها مفسوح، ما لم تُغرغِر الروح .. وإن قال قائل: ولماذا نتوب؟ فيقال : نتوب لأنَّ الله أمرنا بذلك : {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} ..
ونتوب لأن الله جل وعلا ينزل في كل ليلة إلى السماء الدنيا نزولاً يليق بجلاله فينادي: «هل من تائب فأتوب عليه؟ .. هل من مستغفر فأغفر له ؟ ..
ونتوب لأن ميزان الأعمال سيُنصب يوم القيامة لكل منا ، فتوضع الحسنات في كفة والسيئات في كفة ، فلا ترجح الحسنات إلا بالتوبة النصوح التي تمحو السيئات ...
ونتوب يا عباد الله؛ لأن الله يحب التوابين، ويحب الأوابين، ويحب المستغفرين ..
ونتوب يا عباد الله حتى يفرح ربنا بتوبتنا ، وتسعد الملائكة بأوبتنا ..
نتوب يا عباد الله لأن الله يقول: (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ..
ونتوب لأن الله بشرنا : {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} .. {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} .. وفي الحديث القدسي: "يا بنَ آدمَ، إنكَ ما دعوتَني ورجوتَني غفرتُ لكَ على ما كان فيك ولا أُبالي، يا بن آدم، لو بلَغَتْ ذُنوبُكَ عنانَ السماء، ثمَّ استغفرتَني غفَرْتُ لَكَ ولا أُبالي، يا بن آدَمَ، إنَّكَ لو أتيتني بقُراب الأرض خطايا، ثم لقيتَني لا تُشرِكُ بي شيئًا، لأتيتُكَ بقُرابها مَغْفِرةً" ..
ونتوب يا عباد الله لأن قدوتنا صلى الله عليه وسلم كان يتوب في اليوم أكثر من سبعين مرة : فقد جاء في البخاري : أنه صلى الله عليه وسلم كان «يتوب إلى الله ويستغفره في اليوم أكثر من سبعين مرة، وفي رواية أكثر من مائة مرة» ..
ونتوب يا عباد الله : لأن الله تعالى يبسُط يدَه بالليل ليتوب مُسيءُ النهار، ويبسُط يدَه بالنهار ليتوبَ مُسيءُ الليل» والحديث في البخاري ومسلم ..
ونتوب يا عباد الله لأننا لو لم نتب ، لذَهَبَ اللهُ بنا ، ولَجَاءَ بقُومٍ يُذنِبون فيستغفِرون اللهَ ، فيغْفِر لهم .. والحديث في مسلم ..
فيا لها من فضائل عظيمة، وعطاءات جليلة، يمن بها ربٌّ كريمٌ، وخالقٌ رحيمٌ، أكرمنا بعفوه، وغمرنا بحلمه ومغفرته، وجلَّلنا بسِتره، وفتح لنا أبواب توبته .. يعفو ويصفح، ويتلطَّفُ ويمنح، وبتوبة عبده يفرَح، وبرحمته يقبلُ التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ..
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} .. بارك الله لي ولكم ...
الحمد لله كما ينبغي لجلاله وجماله وكماله وعظيم سلطانه ...
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وأقبلوا عليه، وتقربوا إليه؛ فإن مَن أعرض عنه شقي في الدنيا والآخرة، ومن تقرب إليه شبراً تقرب الله تعالى إليه ذراعاً، ومن تقرب إليه ذراعاً تقرب الله تعالى إليه باعاً، ومن أتاه يمشي أتاه الله تعالى هرولة، وهو سبحانه قريبٌ من عبده ما كان العبد قريباً منه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} ..
واعلموا أن أعظم سببٍ للسعادة في الدنيا والآخرة هو صدق الإقبال على الله تعالى، والاستسلامِ له سبحانه، والانقياد لشريعته، وأن أعظم سببٍ للشقاء في الدنيا والعذاب في الآخرة هو الإعراضُ عن الله تعالى، والاستنكافُ عن عبادته .. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} ... ومن قرأ القرآن بحضور قلبٍ وجده مليئاً بالآيات المحذرة من الإعراض عن الله تعالى، والصدود عن سبيله، والاستكبار عن عبادته، وما يترتب على ذلك من عقوبات شديدة في الدنيا والآخرة على الأفراد والأمم .. فالإعراض عن الله تعالى وعن شريعته سبب لنزول العذاب في الدنيا، ورفع العافية، وإبدال النِّعَمِ نِقَمَاً، قال تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} .. وأعظم عقوبةٍ دنيويةٍ تصيب أهل الإعراض عن الله تعالى أن يُطمسَ على قلوبهم فلا تعي الذكر، ولا تُبصر الحق، ولا يهتدي أصحابها لما ينفعهم، بل يرتكسون في الغفلة، ويعمهون في الباطل .. وفي هذا يقول الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا} .. فتأملوا عباد الله كيف جعل الله تعالى أهل الإعراض هم أظلم العباد، وأخبر سبحانه وتعالى أن قلوبهم مغطاةٌ مغلفةٌ فلا تفقه التذكير، وأنَّ آذانهم صمٌّ عن سماع التذكير، عقوبة من الله تعالى لهم على إعراضهم عنه سبحانه وتعالى .. فيا لله العظيم! كم في هذه الآية من عبرة وعظة .. والعاقل من اتعظ بغيره .. فكم نرى من صدود المعرضين عن التذكير، ونفور المعاندين وضيق صدورهم حين يٌذكرون بالآيات والأحاديث .. {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} .. فلا يطيقون شيء من ذلك ولا يتحملونه، قال تعالى : {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى} .. وهذا من العذاب المعجل لهم في الدينا ، مع أنهم في الغالب من أصحاب النعيم الدنيوي ، قال الإمام الحسن البصري رحمه الله: "إنهم وإن طقطقت بهم البغال وهملجت بهم البراذين فإن ذلَّ المعصية لا يفارق قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه" .. وقال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى: رأيت سبب الهموم والغموم الإعراض عن الله عز وجل، والإقبال على الدنيا .. وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: وَمِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ ضِيقِ الصَّدْرِ الْإِعْرَاضُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَعَلُّقُ الْقَلْبِ بِغَيْرِهِ، وَالْغَفْلَةُ عَنْ ذِكْرِهِ، وَمَحَبَّةُ سِوَاهُ؛ فَإِنَّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا غَيْرَ الله عُذِّبَ بِهِ، وَسُجِنَ قَلْبُهُ فِي مَحَبَّةِ ذَلِكَ الْغَيْرِ، فَمَا فِي الْأَرْضِ أَشْقَى مِنْهُ، وَلَا أَكْسَفُ بَالًا، وَلَا أَنْكَدُ عَيْشًا، وَلَا أَتْعَبُ قَلْبًا ... كما من عقوبة الله تعالى للمعرضين عنه أن يُعرضَ سبحانه عنهم، ويكِلَهم إلى أنفسهم الأمارة بالسوء، فتُزين لهم سوء أعمالهم، فيزدادون ضلالا على ضلالهم، وإعراضاً فوق إعراضهم، {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} .. ثم إن أهل الإعراض متوعدون بانتقام الله تعالى منهم، ولا شك أن أتعس الناس مَن انتقم الله تعالى منه! {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ المُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} ..
أيها المسلمون: والعبد إذا جاهد نفسه على طاعة ربه، وكفَّها عن معصيته، ولازم التوبة والاستغفار، وصبر على ذلك ابتغاء مرضاة الله ؛ انقادت نفسه لذلك شيئاً فشيئاً حتى تألف الطاعة، وتتلذذ بالعبادة، وتتذوق حلاوة الإيمان، وتأنس بمناجاة الرحمان ، ومن ثم تصبح المعاصي والمخالفات من أكره الأشياء إليه، وأشق الأمور عليه ، والله تعالى بفضله إذا علم من عبده حسن النية وصدق القول والفعل ، والرغبة في الخير، ومحبة القيام بما أوجب الله عليه، أعانه الله وسدده، وهيأ له الأسباب، وفتح له من خزائن جوده ما لا يخطر له على بال، ولا يدور له في خيال .. قال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .. فلنتب إلى اللهِ يا عباد الله توبةً صادقة، ولنبشر بالقبول، فالله تعالى يقول: {إِنَّمَا التَّوبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيهِم وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} .. ويا ابن آدم عش ما شئت فإنك ميت ، وأحبب من شئت فإنك مفارقه ، واعمل ما شئت فإنك مجزي به ، البر لا يبلى والذنب لا ينسى ، والديان لا يموت ، وكما تدين تدان .. اللهم صل ..