وتنصفت خير أيام الدنيا
شايع بن محمد الغبيشي
وتنصفت خير أيام الدنيا
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، نعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله. أما بعد: عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } ([1])
إخوة الإيمان يقول الله تعالى: { اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} ([2]) قال الإمام السعدي:" يخبر تعالى بلطفه بعباده ليعرفوه ويحبوه، ويتعرضوا للطفه وكرمه، واللطف من أوصافه تعالى معناه: الذي يدرك الضمائر والسرائر، الذي يوصل عباده -وخصوصا المؤمنين- إلى ما فيه الخير لهم من حيث لا يعلمون ولا يحتسبون.
فمن لطفه بعبده المؤمن، أن هداه إلى الخير هداية لا تخطر بباله، بما يسر له من الأسباب الداعية إلى ذلك، من فطرته على محبة الحق والانقياد له وإيعازه تعالى لملائكته الكرام، أن يثبتوا عباده المؤمنين، ويحثوهم على الخير، ويلقوا في قلوبهم من تزيين الحق ما يكون داعيا لاتباعه.
ومن لطفه أن أمر المؤمنين، بالعبادات الاجتماعية، التي بها تقوى عزائمهم وتنبعث هممهم، ويحصل منهم التنافس على الخير والرغبة فيه، واقتداء بعضهم ببعض. ([3])
ومن لطفه سبحانه أن يرزقهم الإيمان ويهدي قلوبهم إليه، ويدلهم على الخير، ويعينهم فيه، ويسددهم في كل طريق، وما يزال بهم حتى يريهم كل جميل. ([4])
ومن لطفه سبحانه أن جعل لهم أيام ومواسم يغدق لهم فيها العطايا ويسهل لهم في أساب نيل محبته ورضوان، وحثهم على التعرض لفضلهم لفيض عليهم من رحمته وبره ومغفرته وعتقه ومن تلك المواسم هذه الأيام التي مضى شطرها التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: « ما من أيام أعظم ولا أحب إلى الله العمل فيهن من هذه الأيام العشر فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد» رواه الإمام أحمد وصححه أحمد شاكر والأرنؤوط وحسنه ابن باز.
عباد الله مضي نصف عشر ذي الحجة وبقي منها خير أيامها وأعظمها وأجلها بل هي لبها ولبابها إذ فيها أعظم الأيام والأعمال، حتى نفوز بجميل ألطاف الرب سبحانه أوصي نفسي وإياكم بالتالي:
الوصية الأولى: استغلال ما بقي من هذه العشر وعمارتها بأشرف الأعمال خاصة الفرائض من الصلوات الخمس وبر الوالدين وصلة الأرحام.
الوصية الثانية: العناية بالذكر وخاصة القرآن الكريم والتكبير والتهليل والتحميد لقوله صلى الله عليه وسلم: « فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد» وصفته أن تقول: (الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد) ذكراً مطلقاً في البيوت والطرقات والأسواق والمساجد، وذكراً مقيداً أدبار الصلوات الخمس لغير الحاج من فجر يوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق وهو الثالث عشر من شهر ذي الحجة، وللحاج من صلاة ظهر يوم النحر.
الوصية الثالثة: أن يستشعر العبد عظيم فضل الله عليه إذ بلغه هذه الأيام الشريفة فيسعى للفوز بمحبة ربه سبحانه ورضوانه ويستكثر من نوافل الطاعات ويسارع في الخيرات ويبادر إلى الصالحات من صيام وصلاة وصدقة وبر وإحسان فيكون من المتاجرين مع ربه سبحانه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ريب العالمين والصلاة على أشرف الأنبياء والمرسلين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيراً .
عبادة الله الوصية الرابعة: العناية الفائقة بيوم عرفة للحاج وغير الحاج والتعرض في هذا اليوم لرحمة الله ويجهد في طلب مغفرته والعتق من النار، عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ " رواه مسلم
وقال النووي رحمه الله: إن الله عزَّ وجل يباهي بكم الملائكة: معناه يظهر فضلكم لهم، ويريهم حسن عملكم، ويثني عليكم عندهم.
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: "ويوم عرفة هو يوم العتق من النار، فيعتق الله تعالى من النار من وقف بعرفة ومن لم يقف بها من أهل الأمصار (أي البلدان) من المسلمين؛ فلذلك صار اليوم الذي يليه عيدا لجميع المسلمين في جميع أمصارهم، من شهد الموسم منهم ومن لم يشهده، لاشتراكهم في العتق والمغفرة يوم عرفة"
عباد الله ومن صور العناية بهذا اليوم : الصيام للغير الحاج قال النبي صلى الله عليه وسلم (صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ)؛ رواه مسلم.
ومن صور العناية بيوم عرفة: الدعاء قال صلى الله عليه وسلم "خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" رواه الترمذي وحسنه الألباني، قال الأوزاعي: "أدركت أقوامًا كانوا يخبّئون الحاجات ليوم عرفة؛ ليسألوا الله بها".
قال النووي رحمه الله عن هذا الذكر في يوم عرفة: "يُسْتَحَبُّ الإِكثارُ من هذا الذِّكر والدُّعاء، ويَجتهدُ في ذلك، فهذا اليوم أفْضَلُ أيامِ السَّنَة للدُّعاء، وهو مُعْظَمُ الحَجِّ ومَقْصُودُه، والمُعَوَّلُ عليه، فينبغي أنْ يَسْتَفْرِغَ الإنسانُ وُسْعَهُ في الذِّكر والدُّعاءِ وفي قراءةِ القرآنِ، وأنْ يدعوَ بأنواعِ الأدعية، ويأتي بأنواعِ الأذكار، ويدعو لِنَفْسِه ووالديه وأقارِبِه، ومشايِخِه وأصحابِه وأصدقائِه وأحبابِه، وسائِرِ مَنْ أحْسَنَ إليه، وجميعِ المسلمين"
وقد اختلف العلماء هل هذا الفضل للدعاء يوم عرفة خاص بمن كان في عرفة أم يشمل باقي البقاع، والأرجح أنه عام، وأن الفضل لليوم.
ومن صور العناية بيوم عرفة: إحسان الظن بالله والطمع في مغفرته ورحمته والتعرض لفضله سبحانه، قال ابن المبارك رحمه الله: جئت إلى سفيان الثوري عشية عرفة وهو جاث على ركبتيه، وعيناه تذرفان، فقلتُ له: مَن أسوأ هذا الجمع حالًا؟ قال: الذي يظن أن الله لا يغفر له!".
الوصية الخامسة: العناية بيوم النحر يوم عيد الأضحى قال ابن القيم رحمه الله: " خير الأيام عند الله يوم النحر، وهو يوم الحج الأكبر كما في سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إن أعظم الأيام عند الله يوم النحر " رواه أبو دواد وصححه الألباني.
وهو يوم الحج الأكبر فعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ وَقَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ النَّحْرِ بَيْنَ الْجَمَرَاتِ فِي الْحَجَّةِ الَّتِي حَجَّ وَقَالَ هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الأَكْبَرِ " رواه البخاري
ومن صور العناية بيوم النحر للحاج: القيام بأعمال ذلك اليوم ومنها التكبير والتهليل والتحميد ورمي جمرة العقبة والنحر والحلق أو التقصير وطوف الإفاضة، وإظهار الفرح والسرور بالعيد
ومن صور العناية بيوم النحر لغير الحاج: صلاة العيد ثم ذبح الأضحية، وإظهار الفرح والسرور بالعيد قال صلى الله عليه وسلم: " يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب " رواه الترمذي وصححه الألباني
اللهم وفقنا للمسارعة في الخيرات واجعلنا من الفائزين في هذه العشر واغفر لنا ذنوبنا واكتبنا من العتقاء من النار يا حي يا قيوم، اللهم ارزقنا حبك وحب من يحبك وحب عمل يقربنا إلى حبك.
([1]) ـ [آل عمران : 102].
([2]) ـ [الشورى: 19]
([3]) ـ تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص: 756)
([4]) ـ رحلة تدبر ( 5/ 474 )
المرفقات
1687412184_وتنصفت خير أيام الدنيا.pdf