وتبتل إليه تبتيلا
ياسر دحيم
1434/12/01 - 2013/10/06 03:33AM
الحمد لله الذي من توكل عليه كفاه, ومن لجأ إليه آواه, ما خاب عبدٌ رجاه, وما عاد صُفراً من دعاه, له الحمدُ في الأولى والآخرة, وهو الغفورُ الرحيم, القائل في الحديث القدسي: "يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ, ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا, فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ, وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ", والصلاة والسلام على سيدنا وحبيبنا محمدٍ, أفضل من صلى وصام, وتهجَّد وقام, وطاف بالبيت الحرام, وعلى آله وصحبه وأتباعه إلى يوم القيام.
اتقوا الله تعالى وأطيعوه, ففي ذلك فلاحُكم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]
عباد الله: بينما كان الحبيبُ المصطفى-صلى الله عليه وسلم- في غار حراء, في خلوته من الناس, وعزلته عن الدنيا, إذ بالوحي ينزل عليه أولَ مرة, فيضغط على صدره حتى بلغ منه الجَهَدُ مبلغاً عظيماً, فيرجعُ بأول آياتٍ أنزلت من السماء, يرجعُ بها يرجفُ فؤادُه فيدخلُ على زوجِه خديجةَ -رضي الله عنها- فيقو: "زملوني زملوني", ثم يتتابعُ عليه الوحيُ من السماء, فيناديه ربه -سبحانه وتعالى- متلطفاً به مذكِّراً إياه تلك الحالة: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل: 1], فما أعظم هذا النداءُ في هذا الموطن!! حيثُ تتهيأُ فيه نفسُ النبي-صلى الله عليه وسلم- وتتربى لتلقِّي الرسالةِ وأوامر المولى -سبحانه-, فيكونُ أولُها الأمرَ بترك الفراش والقيام للصلاة {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل: 2], وبعد هذا يأمرُ اللهُ نبيه بقوله: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل: 8], وهذه الأوامرُ وإن كان الخطابُ فيها موجَّهاً للنبي-صلى الله عليه وسلم- فهي عامةٌ له ولأمته كما قال أهلُ العلم: "كلُ أمرٍ موجَّهٌ إلى رسول الله-صلى الله عليه وسلم- فهو لأمته ما لم يدلْ دليلٌ على أنه خاصٌ به".
وفي هذه الخطبةِ نقفُ مع قوله سبحانه {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل: 8], فالمؤمنُ بحاجةٍ ماسة إلى التبتل, في زمنٍ كثرتْ فيه الفتنُ وتتابعت على القلوب, وضَعُفَ فيه الاتصالُ بالمولى -سبحانه-, وفُتِحتْ الدنيا وانشغل الناسُ بها عن الآخرة.
عباد الله: ذكر المفسرون والعلماءُ في مفهوم التبتل معانٍ كثيرة, تدور كلُّها حول معنىً واحدٍ هو الانقطاعُ والتفرغُ للعبادة, والاجتهادُ فيها والزهدُ في الدنيا, ولا يكون ذلك إلا بإخلاص العمل لله وتنزيهه عن الرياء والسمعة, وإرادةِ غير وجهه الكريم من حظوظ النفس والهوى, فالتبتلُ -ياعبدَ الله- أن يتصلَ قلبُك بالله ويكونَ دائمَ الإقبال عليه في السر والعلن, في الخوفِ والرجاء, في الشدة والرخاء, وأن تُحقِّق التوحيدَ وتَبْرأَ من الشرك كبيره وصغيره, التبتلُ أن يكون عملُك خالصاً لوجهه لا يلتفتُ قلبُك إلى غير مولاه, التبتلُ أن تروِّضَ نفسَك على الطاعة وتلزمُها على ذلك, التبتلُ أن تلازمَ الذكر بقلبك ولسانك وجوارحك تعظيماً وشكرا لمولاك, التبتلُ أن تزْهَدَ في الدنيا وتعلمَ أنها راحلة, وتقبلُ على الآخرة وتوقنَ أنها الباقية.
لقد أُمِرَ النبي-صلى الله عليه وسلم- بالتبتلِ, وهو الذي لا تخلو أوقاتُه عن إقبالٍ على عبادة الله ومراقبته وذكره, والانقطاعِ للدعوة وتبليغ الرسالة, وقد رفع اللهُ ذكره ووضع عنه وزره, ووعده ربه بالعطاء حتى الرضى, ومع ذلك يقولُ له ربُه: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 7، 8], غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر, فإذا هو يجتهد في العبادة اجتهاداً تتفطَّرُ منه قدماه, وتذرف من خشية الله عيناه, فماذا يقول المقصِّرون والمفرِّطون والمذنبون من أمثالنا؟! أما آن للقلوب أن تتوب وللنفوس أن تؤوب؟.
عباد الله: قد يُظنُ أن التبتلَ دعوةُ الناس إلى الانقطاع إلى العبادة تماماً, وتركُ التمتعِ بالملذات والطيبات التي أباحها الله, وهذا الكلام غيرُ صحيح:
وَكَمْ مِنْ عَائِبٍ قَوْلًا صَحِيحًا *** وَآفَتُـهُ مِنَ الْفَهْمِ السَّقِيمِ
بل إن هذا من الغلو في العبادة, وما يبطل هذا الفهمَ السقيم, أن خير العابدين وقدوةَ الزاهدين وإمامَ المتبتلين, المأمور بالتبتل, جاءه رهطٌ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَته, فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا فَقَالُوا وَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ النَّبِيِّ-صلى الله عليه وسلم- قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ, قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا, وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ, وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا, فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ-صلى الله عليه وسلم- إِلَيْهِمْ فَقَالَ: "أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا, أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ, لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي" (متفق عليه).
فليس من التبتل -ياعباد الله- أن نتجاوزَ هدي النبي-صلى الله عليه وسلم- في العبادة, ونمتنعُ عمَّا أحله الله من ملذات الدنيا بالحلال, بل على العكس من ذلك فالتمتعُ بالطيبات التي أبيحت لنا فيما يرضي الله -تعالى-، هو داخلٌ في مفهوم التبتل, فما لا يتم الواجبُ إلا به فهو واجب, فكلُ عمل يقومُ به العبدُ من شؤون حياته, طعامُه وشرابُه ونومُه, وشؤونًه يستعين بها على عبادة ربه وطاعته, وكذلك منعشات الروح البريئة من الإِثم, مثل الطِّيب وتزوج النساء، والأنسِ إلى الأهل والأبناء, كلُ ذلك من التبتل إذا حسُنَتْ النية، ألم يقل النبي-صلى الله عليه وسلم-: "حُبِّبَ إِلِيَّ مِنْ دُنْيَاكُمُ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ" (رواه النسائي وصححه ابن حجر).
واعلموا - رحمكم الله - أنه لا يدخل في مفهوم التبتل, الانعزالُ عن الناس في البراري والجبال أو الصوامع لأجل العبادة, كما يفعله بعض المتصوفة الذين آثروا العزلةَ التامةَ عن الناس بدعوى الخلوة والتبتل, وقد أنكر عليهم العلماءُ فعلَهم هذا لمخالفته هدي النبي-صلى الله عليه وسلم- الذي كان يخالطُ أصحابَه ويضاحكُهم ويزورُهم ويهتمُ بهم, وهو القائل-صلى الله عليه وسلم-: "الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ" (رواه الترمذي وابن ماجه صححه الألباني), قال الإمام الصنعاني: "فيه أفضليةُ من يخالطُ الناسَ مخالطةً يأمرهم فيها بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحسن معاملتهم, فإنه أفضلُ من الذي يعتزلُهم ولا يصبر على المخالطة", وقال الإمام القرطبي: "وفي الحديث النهي عن التبتل, وهو الانقطاعُ عن الناس والجماعات, بل هذا من الرهبانية التي نُهينا عنها, وإنما تستحب العزلة عِنْدَ فَسَادِ الزَّمَانِ ليَفِرُّ بالمؤمن ِدِينِهِ مِنْ الْفِتَنِ".
عباد الله: احذروا من آفتين تدخلان على العابد المجتهد المتبتل:
أولاهما: تحميلُ النفس من العبادة ما لا تطيق, فإن النفسَ تملُّ وتسأم, ولها أحوالٌ متقلبة من نشاطٍ وفتور وقد ذُكر للنبي-صلى الله عليه وسلم- عبادة عبد الله بن عمرو بن العاص فَقَالَ: "كَيْفَ تَصُومُ؟" قَالَ: كُلَّ يَوْمٍ, قَالَ: "وَكَيْفَ تَخْتِمُ؟" قَالَ: كُلَّ لَيْلَةٍ, قَالَ: "صُمْ فِي كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةً وَاقْرَإِ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ" قَالَ: قُلْتُ: أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ, قَالَ: "صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْجُمُعَةِ" قُلْتُ: أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: "أَفْطِرْ يَوْمَيْنِ وَصُمْ يَوْمًا", قَالَ: قُلْتُ: أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ, قَالَ: "صُمْ أَفْضَلَ الصَّوْمِ صَوْمَ دَاوُدَ صِيَامَ يَوْمٍ وَإِفْطَارَ يَوْمٍ وَاقْرَأْ فِي كُلِّ سَبْعِ لَيَالٍ مَرَّةً" فَلَيْتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَةَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَذَاكَ أَنِّي كَبِرْتُ وَضَعُفْتُ. (متفق عليه) وفي رواية قال: فشدَّدْتُ فشُدِّدَ علي, وفي الحديث: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ: خُذُوا مِنْ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا, وَإِنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ مَا دَامَ وَإِنْ قَلَّ" (متفق عليه).
والآفةُ الثانية: الاجتهادُ في العبادة مع الإخلالِ بالحقوق والواجبات, فلقد كان لعثمانَ بن مظعون زوجةٌ يقال لها خويلةُ بنتُ حكيم, فَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بَذَاذَةَ هَيْئَتِهَا فَقَالَ: "يَا عَائِشَةُ مَا أَبَذَّ هَيْئَةَ خُوَيْلَةَ؟! قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ امْرَأَةٌ لَا زَوْجَ لَهَا, يَصُومُ النَّهَارَ وَيَقُومُ اللَّيْلَ, فَهِيَ كَمَنْ لَا زَوْجَ لَهَا!!, فَتَرَكَتْ نَفْسَهَا وَأَضَاعَتْهَا, قَالَتْ: فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ فَجَاءَهُ, فَقَالَ: يَا عُثْمَانُ أَرَغْبَةً عَنْ سُنَّتِي, قَالَ: فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَكِنْ سُنَّتَكَ أَطْلُبُ, قَالَ: فَإِنِّي أَنَامُ وَأُصَلِّي وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَنْكِحُ النِّسَاءَ فَاتَّقِ اللَّهَ يَا عُثْمَانُ, فَإِنَّ لِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا, وَإِنَّ لِضَيْفِكَ عَلَيْكَ حَقًّا, وَإِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا, فَصُمْ وَأَفْطِرْ وَصَلِّ وَنَمْ" (أخرجه أحمد) وفي رواية: "يَا عُثْمَانُ: إِنَّ الرَّهْبَانِيَّةَ لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْنَا, أَفَمَا لَكَ فِيَّ أُسْوَةٌ فَوَاللَّهِ إِنِّي أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَحْفَظُكُمْ لِحُدُودِهِ" صححه الألباني.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر: 98، 99].
أقول ما سمعتم واستغفر الله
الخطبة الثانية:
الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه الكريم, والصلاة والسلام على عبده النبي الأمين, وآله وصحبه والتابعين.
عباد الله: فَهِمَ بعضُ الصحابةِ -رضي الله عنهم- أن التبتلَ تركُ النكاحِ للتفرغ لعبادة الله, كما كان على ذلك عبادُ أهل الكتاب, الذين ابتدعوا رهبانيةً ما أمرهم الله بها, فقال الله منكراً عليهم: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} [الحديد: 27] قال الإمام القرطبي: "وذلك لأنهم حملوا أنفسهم على المشقات, في الامتناع من المطعم والمشرب والنكاح, والتعلق بالكهوف والصوامع", وقد بوَّب الإمامُ البخاري (بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ التَّبَتُّلِ وَالخِصَاءِ) وأورد فيه حديثَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: "رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ التَّبَتُّلَ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لاَخْتَصَيْنَا".
قال الحافظ ابن حجر: "الْمُرَاد بِالتَّبَتُّلِ هُنَا الِانْقِطَاع عَنْ النِّكَاح وَمَا يَتَّبِعهُ مِنْ الْمَلَاذ إِلَى الْعِبَادَة", وقد قال ربنا في كتابه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87], قال الإمام الطبري: "كالذي فعله القسِّيسون والرُّهبان، فحرَّموا على أنفسِهم النساءَ والمطاعمَ الطيَّبة، والمشاربَ اللذيذة، وحَبسَ في الصَّوامع بعضُهم أنفسَهم، يقول تعالى ذكره: فلا تفعلوا أيُّها المؤمنون كما فعل أولئك".
وهذه الرهبانية مخالفةٌ لفطرة الله, ولسنة الأنبياء في الزواج, فقد أمر النبي-صلى الله عليه وسلم- بالزواج فقال: "تزوجوا فإني مكاثرٌ بكم الأممَ يوم القيامة, ولا تكونوا كرهبانية النصارى" (رواه البيهقي وحسنه الألباني).
عباد الله: اعلموا أن انشغالَ القلبِ بعبادة الله, وخلو َّالفكر عما سواه, وترطيب اللسانِ بذكره والمداومة على ذلك, هو سببٌ عظيمٌ من أسباب انشراح الصدر والطمأنينة, وهو ما يفتقدُه الناسُ اليومَ في عالم الماديات والملهيات (الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) والاجتهادُ في العبادة والانشغال بها, يبعدُ الإنسانَ عن وساوس الشيطان, ويعطي العبدَ قوةً على مجابهة الشدائدِ والمحن, إلى غير ذلك من ثمرات التبتل الكثيرة والتي نذكر منها:
الغنى والقناعةَ والرضى بما قسم الله تعالى, قال-صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ يَا ابْنَ آدَمَ: تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي, أَمْلَأْ صَدْرَكَ غِنًى وَأَسُدَّ فَقْرَكَ" (رواه الترمذي وابن ماجة وأحمد وصححه الألباني), وفي حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ كَانَتْ الْآخِرَةُ هَمَّهُ؛ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ" (أخرجه الترمذي وصححه الألباني).
وكم نحن بحاجةٍ إلى قناعة القلب وغنى النفس, في زمنٍ تقاتل فيه الناسُ على الدرهم والدينار, وتقاطعوا وتدابروا على عرضٍ حقيرٍ من الدنيا.
ومن ثمرات التبتل: غفران ُالذنوب, ففي حديث عثمان أنه توضأ ثلاثاً ثلاثا, ثم قال رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتوضأ نحو وضوئي هذا, ثم قَالَ رَسُولُ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ ؛غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" (متفق عليه) وأيُّنا ذاك الذي لا يرجو أن يُغفرَ ذنبُه وتكفَّرَ سيئاتُه ؟!.
ومن ثمرات التبتل قبولُ الأعمالِ الصالحة: فأنت - ياعبد الله - إذا أخلصتَ عملَك لله, كان ذلك أرجى لقبوله ففي الحديث: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا, وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ" (رواه أبو داود والنسائي و حسنه الألباني).
فياله من شرفٍ عظيم أن يتقبَّل الله منك, وقد كان أبو الدرداء -رضي الله عنه- يقول: "لو علمتُ أن الله يقبلُ مني ركعتين, لكنتُ من أسعدِ الناس, إن الله تعالى يقول:) إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ(".
ومن الثمرات العظيمةِ التي لو دُفعتُ المُهَجُ ثمناً لها لكان الثمن زهيداً: بلوغُ مرتبةِ الولاية, ففي الحديث القدسي: "إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ, وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ, وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ, وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ, وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا, وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا, وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ, وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ" (رواه البخاري). فتلك منزلةٌ لا يبلُغُها إلا الخُلَّصُ من عباد الله, الذين سابقوا للخيرات وتنافسوا في الطاعات.
ومن أعظم ثمراتِ التبتلِ وهي غايةُ أمنياتِ المؤمنين: دخولُ جناتِ أكرم الأكرمين, فإنَّ مَنْ خالف نفسَه وهواها وألزمها طاعة ربه, كان الجزاءُ ما قال المولى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40، 41].
عباد الله: ما أحوج المؤمنُ أن يفرِّغ فكرَه وبالَه عن الملهيات والشهوات, ويشغلَه بذكر رب الأرض والسموات, وينقطعَ إلى الطاعات, قبل أن ينزلَ بساحته هادمُ اللذات, ومفرقُ الجماعات، ومنغصُّ الشهوات، وقاطعُ الأمنيات.
فيا معرِضاً عن مولاه تبتلْ, ويا غافلاً في لهوه ودنياه تبتلْ, يا مقصِّراً في طاعة ربه تبتلْ, ويا غارقاً في المعاصي متى تتوبُ إلى مولاك وتتبتلْ؟!, خذ الوصيةَ من سيِّد البشرية: "اغْتَنِمْ حَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغُلِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَشَبَابَكَ قَبْلَ هِرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ".
ألا صلوا وسلموا على رسول الله ..
اتقوا الله تعالى وأطيعوه, ففي ذلك فلاحُكم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]
عباد الله: بينما كان الحبيبُ المصطفى-صلى الله عليه وسلم- في غار حراء, في خلوته من الناس, وعزلته عن الدنيا, إذ بالوحي ينزل عليه أولَ مرة, فيضغط على صدره حتى بلغ منه الجَهَدُ مبلغاً عظيماً, فيرجعُ بأول آياتٍ أنزلت من السماء, يرجعُ بها يرجفُ فؤادُه فيدخلُ على زوجِه خديجةَ -رضي الله عنها- فيقو: "زملوني زملوني", ثم يتتابعُ عليه الوحيُ من السماء, فيناديه ربه -سبحانه وتعالى- متلطفاً به مذكِّراً إياه تلك الحالة: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل: 1], فما أعظم هذا النداءُ في هذا الموطن!! حيثُ تتهيأُ فيه نفسُ النبي-صلى الله عليه وسلم- وتتربى لتلقِّي الرسالةِ وأوامر المولى -سبحانه-, فيكونُ أولُها الأمرَ بترك الفراش والقيام للصلاة {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل: 2], وبعد هذا يأمرُ اللهُ نبيه بقوله: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل: 8], وهذه الأوامرُ وإن كان الخطابُ فيها موجَّهاً للنبي-صلى الله عليه وسلم- فهي عامةٌ له ولأمته كما قال أهلُ العلم: "كلُ أمرٍ موجَّهٌ إلى رسول الله-صلى الله عليه وسلم- فهو لأمته ما لم يدلْ دليلٌ على أنه خاصٌ به".
وفي هذه الخطبةِ نقفُ مع قوله سبحانه {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل: 8], فالمؤمنُ بحاجةٍ ماسة إلى التبتل, في زمنٍ كثرتْ فيه الفتنُ وتتابعت على القلوب, وضَعُفَ فيه الاتصالُ بالمولى -سبحانه-, وفُتِحتْ الدنيا وانشغل الناسُ بها عن الآخرة.
عباد الله: ذكر المفسرون والعلماءُ في مفهوم التبتل معانٍ كثيرة, تدور كلُّها حول معنىً واحدٍ هو الانقطاعُ والتفرغُ للعبادة, والاجتهادُ فيها والزهدُ في الدنيا, ولا يكون ذلك إلا بإخلاص العمل لله وتنزيهه عن الرياء والسمعة, وإرادةِ غير وجهه الكريم من حظوظ النفس والهوى, فالتبتلُ -ياعبدَ الله- أن يتصلَ قلبُك بالله ويكونَ دائمَ الإقبال عليه في السر والعلن, في الخوفِ والرجاء, في الشدة والرخاء, وأن تُحقِّق التوحيدَ وتَبْرأَ من الشرك كبيره وصغيره, التبتلُ أن يكون عملُك خالصاً لوجهه لا يلتفتُ قلبُك إلى غير مولاه, التبتلُ أن تروِّضَ نفسَك على الطاعة وتلزمُها على ذلك, التبتلُ أن تلازمَ الذكر بقلبك ولسانك وجوارحك تعظيماً وشكرا لمولاك, التبتلُ أن تزْهَدَ في الدنيا وتعلمَ أنها راحلة, وتقبلُ على الآخرة وتوقنَ أنها الباقية.
لقد أُمِرَ النبي-صلى الله عليه وسلم- بالتبتلِ, وهو الذي لا تخلو أوقاتُه عن إقبالٍ على عبادة الله ومراقبته وذكره, والانقطاعِ للدعوة وتبليغ الرسالة, وقد رفع اللهُ ذكره ووضع عنه وزره, ووعده ربه بالعطاء حتى الرضى, ومع ذلك يقولُ له ربُه: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 7، 8], غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر, فإذا هو يجتهد في العبادة اجتهاداً تتفطَّرُ منه قدماه, وتذرف من خشية الله عيناه, فماذا يقول المقصِّرون والمفرِّطون والمذنبون من أمثالنا؟! أما آن للقلوب أن تتوب وللنفوس أن تؤوب؟.
عباد الله: قد يُظنُ أن التبتلَ دعوةُ الناس إلى الانقطاع إلى العبادة تماماً, وتركُ التمتعِ بالملذات والطيبات التي أباحها الله, وهذا الكلام غيرُ صحيح:
وَكَمْ مِنْ عَائِبٍ قَوْلًا صَحِيحًا *** وَآفَتُـهُ مِنَ الْفَهْمِ السَّقِيمِ
بل إن هذا من الغلو في العبادة, وما يبطل هذا الفهمَ السقيم, أن خير العابدين وقدوةَ الزاهدين وإمامَ المتبتلين, المأمور بالتبتل, جاءه رهطٌ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَته, فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا فَقَالُوا وَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ النَّبِيِّ-صلى الله عليه وسلم- قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ, قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا, وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ, وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا, فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ-صلى الله عليه وسلم- إِلَيْهِمْ فَقَالَ: "أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا, أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ, لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي" (متفق عليه).
فليس من التبتل -ياعباد الله- أن نتجاوزَ هدي النبي-صلى الله عليه وسلم- في العبادة, ونمتنعُ عمَّا أحله الله من ملذات الدنيا بالحلال, بل على العكس من ذلك فالتمتعُ بالطيبات التي أبيحت لنا فيما يرضي الله -تعالى-، هو داخلٌ في مفهوم التبتل, فما لا يتم الواجبُ إلا به فهو واجب, فكلُ عمل يقومُ به العبدُ من شؤون حياته, طعامُه وشرابُه ونومُه, وشؤونًه يستعين بها على عبادة ربه وطاعته, وكذلك منعشات الروح البريئة من الإِثم, مثل الطِّيب وتزوج النساء، والأنسِ إلى الأهل والأبناء, كلُ ذلك من التبتل إذا حسُنَتْ النية، ألم يقل النبي-صلى الله عليه وسلم-: "حُبِّبَ إِلِيَّ مِنْ دُنْيَاكُمُ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ" (رواه النسائي وصححه ابن حجر).
واعلموا - رحمكم الله - أنه لا يدخل في مفهوم التبتل, الانعزالُ عن الناس في البراري والجبال أو الصوامع لأجل العبادة, كما يفعله بعض المتصوفة الذين آثروا العزلةَ التامةَ عن الناس بدعوى الخلوة والتبتل, وقد أنكر عليهم العلماءُ فعلَهم هذا لمخالفته هدي النبي-صلى الله عليه وسلم- الذي كان يخالطُ أصحابَه ويضاحكُهم ويزورُهم ويهتمُ بهم, وهو القائل-صلى الله عليه وسلم-: "الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ" (رواه الترمذي وابن ماجه صححه الألباني), قال الإمام الصنعاني: "فيه أفضليةُ من يخالطُ الناسَ مخالطةً يأمرهم فيها بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحسن معاملتهم, فإنه أفضلُ من الذي يعتزلُهم ولا يصبر على المخالطة", وقال الإمام القرطبي: "وفي الحديث النهي عن التبتل, وهو الانقطاعُ عن الناس والجماعات, بل هذا من الرهبانية التي نُهينا عنها, وإنما تستحب العزلة عِنْدَ فَسَادِ الزَّمَانِ ليَفِرُّ بالمؤمن ِدِينِهِ مِنْ الْفِتَنِ".
عباد الله: احذروا من آفتين تدخلان على العابد المجتهد المتبتل:
أولاهما: تحميلُ النفس من العبادة ما لا تطيق, فإن النفسَ تملُّ وتسأم, ولها أحوالٌ متقلبة من نشاطٍ وفتور وقد ذُكر للنبي-صلى الله عليه وسلم- عبادة عبد الله بن عمرو بن العاص فَقَالَ: "كَيْفَ تَصُومُ؟" قَالَ: كُلَّ يَوْمٍ, قَالَ: "وَكَيْفَ تَخْتِمُ؟" قَالَ: كُلَّ لَيْلَةٍ, قَالَ: "صُمْ فِي كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةً وَاقْرَإِ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ" قَالَ: قُلْتُ: أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ, قَالَ: "صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْجُمُعَةِ" قُلْتُ: أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: "أَفْطِرْ يَوْمَيْنِ وَصُمْ يَوْمًا", قَالَ: قُلْتُ: أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ, قَالَ: "صُمْ أَفْضَلَ الصَّوْمِ صَوْمَ دَاوُدَ صِيَامَ يَوْمٍ وَإِفْطَارَ يَوْمٍ وَاقْرَأْ فِي كُلِّ سَبْعِ لَيَالٍ مَرَّةً" فَلَيْتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَةَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَذَاكَ أَنِّي كَبِرْتُ وَضَعُفْتُ. (متفق عليه) وفي رواية قال: فشدَّدْتُ فشُدِّدَ علي, وفي الحديث: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ: خُذُوا مِنْ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا, وَإِنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ مَا دَامَ وَإِنْ قَلَّ" (متفق عليه).
والآفةُ الثانية: الاجتهادُ في العبادة مع الإخلالِ بالحقوق والواجبات, فلقد كان لعثمانَ بن مظعون زوجةٌ يقال لها خويلةُ بنتُ حكيم, فَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بَذَاذَةَ هَيْئَتِهَا فَقَالَ: "يَا عَائِشَةُ مَا أَبَذَّ هَيْئَةَ خُوَيْلَةَ؟! قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ امْرَأَةٌ لَا زَوْجَ لَهَا, يَصُومُ النَّهَارَ وَيَقُومُ اللَّيْلَ, فَهِيَ كَمَنْ لَا زَوْجَ لَهَا!!, فَتَرَكَتْ نَفْسَهَا وَأَضَاعَتْهَا, قَالَتْ: فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ فَجَاءَهُ, فَقَالَ: يَا عُثْمَانُ أَرَغْبَةً عَنْ سُنَّتِي, قَالَ: فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَكِنْ سُنَّتَكَ أَطْلُبُ, قَالَ: فَإِنِّي أَنَامُ وَأُصَلِّي وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَنْكِحُ النِّسَاءَ فَاتَّقِ اللَّهَ يَا عُثْمَانُ, فَإِنَّ لِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا, وَإِنَّ لِضَيْفِكَ عَلَيْكَ حَقًّا, وَإِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا, فَصُمْ وَأَفْطِرْ وَصَلِّ وَنَمْ" (أخرجه أحمد) وفي رواية: "يَا عُثْمَانُ: إِنَّ الرَّهْبَانِيَّةَ لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْنَا, أَفَمَا لَكَ فِيَّ أُسْوَةٌ فَوَاللَّهِ إِنِّي أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَحْفَظُكُمْ لِحُدُودِهِ" صححه الألباني.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر: 98، 99].
أقول ما سمعتم واستغفر الله
الخطبة الثانية:
الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه الكريم, والصلاة والسلام على عبده النبي الأمين, وآله وصحبه والتابعين.
عباد الله: فَهِمَ بعضُ الصحابةِ -رضي الله عنهم- أن التبتلَ تركُ النكاحِ للتفرغ لعبادة الله, كما كان على ذلك عبادُ أهل الكتاب, الذين ابتدعوا رهبانيةً ما أمرهم الله بها, فقال الله منكراً عليهم: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} [الحديد: 27] قال الإمام القرطبي: "وذلك لأنهم حملوا أنفسهم على المشقات, في الامتناع من المطعم والمشرب والنكاح, والتعلق بالكهوف والصوامع", وقد بوَّب الإمامُ البخاري (بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ التَّبَتُّلِ وَالخِصَاءِ) وأورد فيه حديثَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: "رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ التَّبَتُّلَ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لاَخْتَصَيْنَا".
قال الحافظ ابن حجر: "الْمُرَاد بِالتَّبَتُّلِ هُنَا الِانْقِطَاع عَنْ النِّكَاح وَمَا يَتَّبِعهُ مِنْ الْمَلَاذ إِلَى الْعِبَادَة", وقد قال ربنا في كتابه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87], قال الإمام الطبري: "كالذي فعله القسِّيسون والرُّهبان، فحرَّموا على أنفسِهم النساءَ والمطاعمَ الطيَّبة، والمشاربَ اللذيذة، وحَبسَ في الصَّوامع بعضُهم أنفسَهم، يقول تعالى ذكره: فلا تفعلوا أيُّها المؤمنون كما فعل أولئك".
وهذه الرهبانية مخالفةٌ لفطرة الله, ولسنة الأنبياء في الزواج, فقد أمر النبي-صلى الله عليه وسلم- بالزواج فقال: "تزوجوا فإني مكاثرٌ بكم الأممَ يوم القيامة, ولا تكونوا كرهبانية النصارى" (رواه البيهقي وحسنه الألباني).
عباد الله: اعلموا أن انشغالَ القلبِ بعبادة الله, وخلو َّالفكر عما سواه, وترطيب اللسانِ بذكره والمداومة على ذلك, هو سببٌ عظيمٌ من أسباب انشراح الصدر والطمأنينة, وهو ما يفتقدُه الناسُ اليومَ في عالم الماديات والملهيات (الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) والاجتهادُ في العبادة والانشغال بها, يبعدُ الإنسانَ عن وساوس الشيطان, ويعطي العبدَ قوةً على مجابهة الشدائدِ والمحن, إلى غير ذلك من ثمرات التبتل الكثيرة والتي نذكر منها:
الغنى والقناعةَ والرضى بما قسم الله تعالى, قال-صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ يَا ابْنَ آدَمَ: تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي, أَمْلَأْ صَدْرَكَ غِنًى وَأَسُدَّ فَقْرَكَ" (رواه الترمذي وابن ماجة وأحمد وصححه الألباني), وفي حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ كَانَتْ الْآخِرَةُ هَمَّهُ؛ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ" (أخرجه الترمذي وصححه الألباني).
وكم نحن بحاجةٍ إلى قناعة القلب وغنى النفس, في زمنٍ تقاتل فيه الناسُ على الدرهم والدينار, وتقاطعوا وتدابروا على عرضٍ حقيرٍ من الدنيا.
ومن ثمرات التبتل: غفران ُالذنوب, ففي حديث عثمان أنه توضأ ثلاثاً ثلاثا, ثم قال رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتوضأ نحو وضوئي هذا, ثم قَالَ رَسُولُ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ ؛غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" (متفق عليه) وأيُّنا ذاك الذي لا يرجو أن يُغفرَ ذنبُه وتكفَّرَ سيئاتُه ؟!.
ومن ثمرات التبتل قبولُ الأعمالِ الصالحة: فأنت - ياعبد الله - إذا أخلصتَ عملَك لله, كان ذلك أرجى لقبوله ففي الحديث: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا, وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ" (رواه أبو داود والنسائي و حسنه الألباني).
فياله من شرفٍ عظيم أن يتقبَّل الله منك, وقد كان أبو الدرداء -رضي الله عنه- يقول: "لو علمتُ أن الله يقبلُ مني ركعتين, لكنتُ من أسعدِ الناس, إن الله تعالى يقول:) إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ(".
ومن الثمرات العظيمةِ التي لو دُفعتُ المُهَجُ ثمناً لها لكان الثمن زهيداً: بلوغُ مرتبةِ الولاية, ففي الحديث القدسي: "إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ, وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ, وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ, وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ, وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا, وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا, وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ, وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ" (رواه البخاري). فتلك منزلةٌ لا يبلُغُها إلا الخُلَّصُ من عباد الله, الذين سابقوا للخيرات وتنافسوا في الطاعات.
ومن أعظم ثمراتِ التبتلِ وهي غايةُ أمنياتِ المؤمنين: دخولُ جناتِ أكرم الأكرمين, فإنَّ مَنْ خالف نفسَه وهواها وألزمها طاعة ربه, كان الجزاءُ ما قال المولى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40، 41].
عباد الله: ما أحوج المؤمنُ أن يفرِّغ فكرَه وبالَه عن الملهيات والشهوات, ويشغلَه بذكر رب الأرض والسموات, وينقطعَ إلى الطاعات, قبل أن ينزلَ بساحته هادمُ اللذات, ومفرقُ الجماعات، ومنغصُّ الشهوات، وقاطعُ الأمنيات.
فيا معرِضاً عن مولاه تبتلْ, ويا غافلاً في لهوه ودنياه تبتلْ, يا مقصِّراً في طاعة ربه تبتلْ, ويا غارقاً في المعاصي متى تتوبُ إلى مولاك وتتبتلْ؟!, خذ الوصيةَ من سيِّد البشرية: "اغْتَنِمْ حَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغُلِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَشَبَابَكَ قَبْلَ هِرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ".
ألا صلوا وسلموا على رسول الله ..