وبْلُ السحابةْ - في خُلقِ السماحةْ

خالد علي أبا الخيل
1439/04/29 - 2018/01/16 15:55PM

وبْلُ السحابةْ - في خُلقِ السماحةْ

التاريخ: الجمعة:25 –ربيع ثاني-1439 هـ

الحمد لله، الحمد لله الذي جعل ديننا دين السماحة، أحمده سبحانه على التيسير والتسهيل والتجارة الرابحة، وأشهد أن لا إله إلا الله دعا إلى بذل المال، وأشهد أن لا إله إلا الله دعا إلى بذل المعروف وترك المشاحة، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله دعا بالرحمة لمن صفته المسامحة ونبذ المرابحة صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه.

 أما بعد ...

فاتقوا الله حق التقوى، وصلاح النفوس بتقوى المولى، ونجاتها في الأُخرى بالتقوى.

أيها المسلمون:

ديننا دين الشمائل الحسنة، والقيم المستحسنة، والأخلاق العالية، والآداب الغالية، كم ربى الإسلام على الأخلاق العُليا، وآدابه المُثلى، ومنها ما نحن بحاجة إلى الاتصاف به، والتحلي بأخلاقه، والقيام بموجبه إنها خصلةٌ؛ هي خلق السماحة ما أجمل هذا الشعار، وتمثله في ممارسة الحياة والدار، السماحة: فاجعل شعارك في جميع أحوالك السماحة لإخوانك.

 فالسماحة أيها المسلمون بمعناها السامي ومبناها العالي هي بذل ما لا يجب تفضلاً وكرمًا، والتسامح مع الغير في اللين والتيسير والخير، والمسامحة: المساهلة والتيسير والملاينة.

إن من صفات النفس الطيبة: السماحة للآخرين، والتسهيل واللين، ويعامل الناس بالتسامح، والعفو والتصافح، وأغلى وأعلى ديننا أحب من دعا إلى ذلك وشعاره في ذلك فقد روى أحمد في مسنده، والبخاري في أدب مفرده، وعلقه البخاري في صحيحه، قيل لرسول الله: يا رسول الله أي الأديان أحب إلى الله؟ قال: (الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ) فهذا دين التيسير والسماحة، والشفقة ورفع الكلفة.

وإذا سمح الإنسان في أخلاقه وتعامله سامحه الناس في معاملته، فالجزاء من جنس العمل، روى الإمام أحمد في مسنده عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ: (اسْمَحْ، يُسْمَحْ لَكَ) الله أكبر نحن بحاجةٍ إلى أن يتسامح الناس معنا، ويُحسِنوا أخلاقهم في تعاملنا، لكن إذا رأيت واقعنا وجدتنا مع إخواننا كالسِّباع الضارية، والكلاب المسعورة في التعامل معهم في البيع والشراء، وفي المراجعات والمراجعين، همُّنا أخذ ما في جيوبهم والاستحواذ على أموالهم، وإذا تسامحت مع إخوانك سامحك الله في تعاملك، فاسمع إلى فضيلة المسامحة وخصلة السماحة، يُلقى رجلٌ في النار فيُقال له: هل عملت خيرًا قط؟ فيقول: لا، غير أني كنت أسامح الناس في البيع والشراء، فيقول الله عزَّ وجلَّ: (اسْمِحُوا لِعَبْدِي كَإِسْمَاحِهِ إِلَى عَبِيدِي) الحديث رواه أحد في المسند بسندٍ صحيح.

وأفضل الناس من يسمح عن الناس، فعن أبي سعيدٍ الخدري ﭬ مرفوعًا (أَفْضَلُ الْمُؤْمِنِينَ رَجُلٌ سَمْحُ الْبَيْعِ، سَمْحُ الشِّرَاءِ، سَمْحُ الْقَضَاءِ، سَمْحُ الاقْتِضَاءِ) رواه أحمد.

والسماحة من موجبات دخول الجنة كما عند أحمد في مسنده ودخل رجلٌ الجنة في سماحته قاضيًّا ومتقاضيًا، والسماحة من أسباب الرحمة وكفى بها منقبةً وخصلة، ففي البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله ﷺ قال: (رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ وَإِذَا اشْتَرَى وَإِذَا اقْتَضَى).

والمرء عباد الله مأمورًا أن يطلب السماحة لنفسه في تعامله معها في العبادة والراحة، وفي سائر الحياة؛ ولهذا كان رسول الله ﷺ في حجته نزل بالأبطح، قالت عائشة رضي الله عنها: ليس بسُنَّة؛ إنما نزله لأنه كان أسمح لخروجه إذا خرج، فهو أسهل له عند رجوعه إلى المدينة، ومن هذا نأخذ درسًا أن السماحة ذات شقين: مع النفس، ومع الغير.

فكن سمحًا مع نفسك، وسمحًا مع غيرك، وفي هذا الحض على السماحة وحسن المعاملة لاسيما في البيع والشراء مما قد يستغله ضعاف النفوس، وأصحاب الجشع والهلع يفرحون بالزيادات على الناس ويختلسون أموالهم بالإفلاس، ويحتالون على أكلها بدون إحساس، لاسيما في هذا العصر الذي غلب عليه حب الدنيا، والانغماس في شهواتها.

مما يجب أن تتصف النفوس الحية بالأخلاق الجميلة، والعفو والمسامحة، النفوس الأبية هي التي ترحم إخوانها، وتُرخص أسعارها، وتوسع في تعاملاتها، وتُنظِر مُعسرها، النفس السمحة كالأرض الطيبة الهينة المستوية، فهي لكل ما يُراد منها من خيرٍ صالحة إن أردت عبورها هانت، وإن أردت حرثها وزرعها لانت، وإن أردت البناء فيها سهُلت، وإن شئت النوم عليها تمهدت.

السماحة من صفات المؤمنين، وسمات الأُخوة في الدين، والرفق والإرفاق في أحوال المسلمين في القضاء والاستيفاء، في الإعسار والضيق والبلاء، وإذا تجاوز المرء وسامح عفا الله عنه ورحمه وسامح، في البخاري عن حذيفة ﭬ قال: أتى الله بعبدٍ من عباده آتاه الله مالًا، فقال له: (مَاذَا عَمِلْتَ فِي الدُّنْيَا؟) قال: (وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا) (النساء:42) قال: يا ربِّ آتيتني مالك فكنت أبايع الناس، وكان خُلقي التجاوز، فكنت أتيسَّر على الموسر، وأُنظِر المعسر، فقال الله: (أَنَا أَحَقُّ بِذَا مِنْكَ، تَجَاوَزُوا عَنْ عَبْدِي).

والسماحة من التنفيس (مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ) رواه مسلم، فإنظار المعسرين في الوضع والتقنين، أو التجاوز والتنزيل، فالواجب نشر السماحة، وألا تكون الزيادات وغلاء الأسعار سببٌ لأكل أموال الناس والاستعار، والتحجير والتضييق والإضرار.

لنُسامح مع المعسر للتخفيف أو التأخير أو الإسقاط، لنُسامح مع الدعوة للغير في البذل والخُلق والتفهيم، ورحمة السائلين، وفتح الاتصالات والرد عليهم، وقضاء حوائجهم بالإجابة والشفاعة.

لنتسامح في بيعنا وشرائنا بالعفو والسماحة، والتسهيل والتيسير واللطافة، لنتسامح مع مراجعينا وموظفينا، وعُمالنا وخدمنا باليسر والتسهيل والرحمة والشفقة، والرفق والرأفة، وقبل ذلك مع أزواجنا وأولادنا لتعليمهم وتأديبهم والتغاضي عن زلاتهم وهفواتهم.

لنتسامح مع التعاملات والمعاملات والمداينات بالخلق الحسن، والعفو والصفح، والإقالة والتسهيل، والتسامح مع الناس برحمتهم، ودعوتهم وقضاء حاجاتهم، ولا يكون همُّنا أخذ أموالهم، والاستيلاء على حقوقهم.

وانظر إلى خلق السلف كان الحسن ﭬ إذا اشترى شيئًا كان في ثمنه كسرٌ جبره لصحابه، قال: ومرَّ الحسن بقومٍ يقولون: نقص دانقٍ وزيادة دانقٍ، فقال: ما هذا؟ لا دين إلا بمروءة.

وكُن رجلًا على الأهواء جلدًا

 

وشيمتك السماحة والوفاءُ

وإن كثرت عيوبك في البرايا
>

 

وسرك أن يكون لها غطاءُ 

تستَّر بالسخاء فكل عيبٍ

 

يغطيه كما قيل السخاءُ 

ولا ترجو السماحة من بخيلٍ

 

فما في النار للظمآن ماءُ 

ومن السماحة: أن تدفع بالتي هي أحسن، وتتحمل من أخيك خطؤه وزلته، وتعفو عن هفوته وغفلته، فقد قيل: من عادة الكريم إذا قدر غفر، وإذا رأى ستر.

وإني لأستحي وفي الحق مسمحٌ

 

إذا جاء باغي العُرف أن يتعذرا

والسماحة كما تكون بالعفو والتسامح تكون بالسلام والابتسام والتصافح، ومن أوصاف أهل الصلاح والتصالح: بل يبسطون وجوههم فترى لهم عند السؤال كأحسن الألوان.

ومن علامات الخيرية للأمة: أن تكون السماحة بينهم سجية، قال محمد بن المنكدر –رحمه الله-: كان يُقال: إذا أراد الله بقومٍ خيرًا أمَّر عليهم خيارهم، وجعل أرزاقهم بأيدي سمحائهم.

والسماحة يا مسلمون سماحة النفس بالبشر واللين، والتغاضي والتجاوز لسد الثغرات، ولا ينشر الزلات والعثرات إن اشترى كان سمحًا، وإن باع كان سمحًا، وإن أخذ كان سمحًا، وإذا أعطى كان سمحًا، وإذا قضى كان سمحًا، فهو سمحٌ في تعامله ومعاملته وبذله ومخالطته، فالسمح يُحبب الناس إليه ويميلون إلى التعامل معه وما في يديه، والتسامح مع الآخرين بعدم التشديد والغلظة، بل العفو والصفح والرأفة، والتسامح معهم بالبيع والشراء لا بألا يكون البائع مغاليًّا في الربح، ويأخذ ما لا حق له، بل يكون كريم النفس جميل العفو لاسيما المحتاج والفقير، وكذا إذا اقتضى حقه أخذه بحقه (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة:280).

فمن لم يجد وفاءً أو تأخر في العطاء فمن السماحة مراعاته، وعدم مطالبته بالشدة، واسمع هذا الكلام من ابن تيمية الإمام حيث قال: وأما السماحة والصبر فخُلقان في النفس قال تعالى: (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) (البلد:17) وهذا أعلى من ذاك وهو أن يكون صبَّارًا شكورًا فيه سماحةٌ بالرحمة للإنسان، وصبرٌ على المكاره وهو ضد الذي (خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا) (المعارج:19-21) فإن ذاك ليس فيه سماحةٌ عند النعمة، ولا صبرٌ عند المصيبة، انتهى كلامه.

قلت ما سمعتم، وأستغفر الله فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله على ما أنعم وتفضَّل، فهم خير منعمٍ وأكرم مُتفضِّل، وأصلي وأسلم على خير البشر، وأكرم الرُّسل.

ضرب رسول الله ﷺ –أيها المسلمون-في تعامله الذروة العُليا، والموقف الأسمى في السماحة، والخُلق في المعاملة، يحكي لنا أنسٌ ﭬ ما لاقاه مع رسول الله، فيقول: خدمت النبي ﷺ عشر سنين فما قال لي: أُف، ولا لِما صنعت؟ ولا ألا صنعت؟ رواه البخاري.

وعنه أرسلني يومًا لحاجته، فقلت: والله لا أذهب وفي نفسي أن اذهب لِما أمرني به رسول الله، فخرجت حتى أمُر على صبيانٍ وهم يلعبون في السوق، وإذا رسول الله ﷺ قد قبض بقفاي من ورائي، قال: فنظرت إليه وهو يضحك، فقال: (يَا أَنَسُ أَذَهَبْتَ حَيْثُ أَمَرْتُكَ؟) قلت: نعم، أنا أذهب يا رسول الله. رواه مسلم.

ومن سماحته قضاء حوائج الناس والرفق بهم، يقول أنسٌ ﭬ: إن كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله ﷺ فتنطلق به حيث شاءت. رواه البخاري.

ومن سماحته عفوه عمن أراد قتله، وصفحه مع الأعرابي في كلامه وزجره الذي جابذ ردائه بشدةٍ ليأمر له بالعطاء، وضحك وأمر له بعطاء.

وصحابته ساروا على نهجه، وجعلوه لهم أسوةً وقدوة، فهذا أبو بكرٍ كتب إلى خالدٍ في عقد الذمة لأهل الحيرة بالعراق وكانوا نصارى: وجعلت لهم أيُما شيخٍ ضعف عن العمل أو أصابته آفةٌ من الآفات أو كان غنيًّا فافتقر، وصار أهل دينه يتصدقون عليه، طرحت جزيته، وعيِل من بيت مال المسلمين هو وعياله رضي الله عنك يا أبا بكر، هذا فعلك في غير المسلمين فكيف بالمسلمين!

وهذا عمر ﭬ أوصى الخليفة بعده بأهل الذمة أن يُوفى لهم بعهدهم، وأن يُقاتل من ورائهم، وألا يُكلَّفوا فوق طاقتهم.

ولما ذُبِحت لعبد الله بن عمرو بن العاص شاةٌ في أهله، فلما جاء قال: أهديتم لجارنا سمعت رسول الله ﷺ يقول: (مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ) هكذا التسامح مع الجيران، والأقارب والأصدقاء، وعامة الناس والزملاء في العفو والصفح وبذل الندى، والعفو والمساعدة والعطاء، فاعفوا وتسامحوا، واصفحوا وتصافحوا، تفوزوا وتجتمعوا وتفلحوا.

وعلامات المُسامح، والمتجاوز والمصافح: طلاقة الوجه، واستقبال الناس بالبِشر، والتآلف معهم، وحسن الخلق معهم باسمًا مشرق المُحيا، ومبادرة الناس بالتحية والسلام وحسن الخلق.

المسامحة بحسن المصاحبة، والتغاضي عن الهفوات، وعدم المؤاخذة عند الزلات والمخالفات، والتخفيف على المسلمين في التعامل في أمور الدنيا والدين.

وعاشر بمعروفٍ وسامح من اعتدى


 

ودافع ولكن بالتي هي أحسن

وهكذا نشر خصال محاسن الإسلام، والتخلق بأخلاقه العظام، ومن أقوال السلف الكرام، قال عليٌّ ﭬ: أقيلوا ذوي المروءات عثراتهم، فما يعثر منهم عاثر إلا ويده بيد الله يرفعه.

والصحابة كما وصفهم فرقد السبخي –رحمه الله-لم يكن أصحاب نبيٍّ فيما خلا من الدنيا أفضل من أصحاب محمدٍ ﷺ لا أشجع لقاءً، ولا أسمح أكفًّا.

وختام الكلام من المقال والكلام إذا أردت أن يُحبك الله فسامح، إذا أردت أن تصلح حياتك فسامح، وإذا أردت أن تهنأ في أسرتك فسامح، إذا أردت أن يُبارك لك في مالك فسامح، إذا أردت أن يُحبك الناس فسامح، ويُعاملوك المعاملة الحسنة فسامح، إذا أردت أن يجتمع أمرك ويكثر خيرك فسامح، وإذا أردت أن يُحبك والداك فسامح، وإذا أردت أن يحبك أبناؤك فسامح.

وأخيرًا عليك بالقاعدة النبوية: (اسْمَحْ، يُسْمَحْ لَكَ) وخذ هذه الحكمة القصيرة واجعلها على بالك وذكِّر بها إخوانك وأولادك، ففي مأثور الحكمة السماح رباح، ومعناها: المساهلة في الأشياء يُربح صاحبها الهناء والوفاء.

هذا وصلوا وسلموا على نبيكم كم أمركم ربكم (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (الأحزاب:56).

إن الصلاة على النبي غنيمةٌ

 

نُجزى على ترديدها ونُثابُ

صلى عليك الله يا خير الورى
>

 

ما ناح قمريٌ وخُط كتابُ
 

 

 

المشاهدات 1778 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا