وبقي الإسلام
ناصر محمد الأحمد
1437/02/26 - 2015/12/08 03:47AM
وبقي الإسلام
29/2/1437ه
د. ناصر بن محمد الأحمد
الخطبة الأولى :
إن الحمد لله ..
أما بعد: أيها المسلمون: مما لا شك فيه أَنَّ ما يجري في العالم على وجه العموم، والمنطقة العربية على وجه الخصوص، مِنْ حرب على الإِسلام وإبعاد لأهله خاصة عندما يكون له التأثير والفاعلية، بتحدٍّ واضح لمشاعر المسلمين وبشكل مكشوف مفضوح، ليحتاج إِلى قلب مطمئن بالإيمان، عامر بالثقة بالله ونصره، ينظر إلى الأمور دائماً نظرة التفاؤل، ويعتبر أَنَّ هذه الأحداث إنما هي لحكم جليلة وكثيرة، مِنْ أهمها: أَنْ يتميز الخبيث من الطيب، والمؤمن من المنافق، والصادق من الكاذب، كما قال جل شأنه: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّب) (آل عمران : 179).
فقد أخرج الله الأمة المسلمة لتؤدي دوراً كونياً كبيراً، ولتحمل منهجاً إلهياً عظيماً، ولتنشئ في الأرض واقعاً فريداً ونظاماً جديداً. وهذا الدور الكبير يقتضي التجرد والصفاء والتميز والتماسك، ويقتضي ألا يكون في الصف خلل، ولا في بنائه دخل. وبتعبير مختصر يقتضي أن تكون طبيعة هذه الأمة من العظمة بحيث تسامِي عظمة الدور الذي قدَّره الله لها في هذه الأرض، وتسامِي المكانة التي أعدها الله لها في الآخرة.
ولَمَّا كان هذا التكالب الذي يدور على المسلمين اليوم من القريب قبل البعيد يحتاج إِلى أَنْ يقابَل بشحذ الهمم والعزائم واستثارتها، فقد مَسَّتْ الحاجة إِلى التذكير بالتفاؤل باعتباره الصفة التي تأخذ بالهمّة إلى القمة، وتضيء الطريق لأهلها.
التفاؤل عباد الله: يعني انشراح القلب وتوقّع الخير، وفوائده لا تحصى، فهو اقتداءٌ بسيد الخلق الذي كان يبث روح التفاؤل في أحلك الظروف وأقساها، فحين أتاه الصحابي الجليل خَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ رضي الله عنه يشتكي له ما لقي من المشركين ويطلب منه الدعاء قائلاً: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلَا تَدْعُو لَنَا؟ قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ - يريد الإسلام - حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلى حَضْرَمَوْتَ لا يَخَافُ إِلا اللَّهَ، والذِّئْبَ على غَنَمِهِ، ولَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُون".
وفي غزوة الأحزاب حين اشتد الكرب بالمؤمنين، وبلغت القلوب الحناجر، وظن المنافقون الظنون بربهم تبارك وتعالى، فتح النبي صلى الله عليه وسلم باب الفأل أمام أصحابه، وقال لهم وهو يفتت الصخرة: "اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الشَّامِ، اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ فَارِسَ، اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الْيَمَن".
التفاؤل: يقوي العزم، ويبعث على الجدّ، ويجلب الطّمأنينة وسكون النّفس، ويُمَكِّن الإِنسان مِنْ إِدارة أزمته بثقة وهدوء، فيحصل الفرج بعد الشّدّة، وفيه إِحسان الظّنّ بالله تعالى، وحُسْن الظَّنِّ مِنْ حُسْنِ العبادة.
ويكفي في مدحه أَنَّ أضداده: التشاؤم واليأس والإِحباط والانهزامية والقنوط، وكلها مِنْ أَعمال أَهْلِ الشِّرْكِ، تَجْلِبُ ظَنَّ السُّوءِ باللَّه، وتورث الاتكال على من سِوَاهُ.
المتفائل شعاره: "إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عَلَيَّ فَلَا أُبَالِي، وَلَكِنْ عَافِيَتَكَ هِيَ أَوْسَعُ لِي"، و"لَنْ يَغْلِب عُسْر يُسْرَيْن".
لماذا لا نتفاءل وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وفي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغرسها"، إِنَّه حث على التفاؤل والعمل وإنْ لم يبق مِنْ الدنيا إلا دقائق، لتبقى عامرة إلى آخر أمدها المعدود عند خالقها.
تذكّر نبأ (ثاني اثنين إِذْ هُمَا في الغار). في تلك الحالة الحرجة الشديدة، وقد انتشر الأعداء من كل جانب يطلبونهما ليقتلوهما، فأنزل الله عليهما من نصره ما لا يخطر على البال. وقصة يوسف النبي الكريم ابن الكريم، الذي بدأ حياته بالسجن وختمها بملك مصر. وقصة الثلاثة الذين أواهم المبيت إلى الغار، وحادثة الإفْك، ودعاء حبيبك طلعة كل صباح: "اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ. وَمِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَل". كل هذا وغيره يدعوك أخي المسلم للتفائل.
فالمتفائل الحق: يستشعر المسؤولية العظمى المنوطة به تجاه دينه، ويقدر واجبه نحو النهوض بأمته ومداواة عللها وتضميد جراحها وإصلاح أحوالها، ويعلم أَنَّ الظروف الاستثنائية تحتاج إلى جهود وأساليب استثنائية يرتقي بها إلى مستوى خطورة المرحلة التي نَمُرُّ بها، فيتكيف مع ظروف العمل في الشدة، وبدلاً من أَنْ يلعن الظلام يوقد شمعة.
أيها المسلمون: يقولُ اللهُ تعالى: (وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة: من الآية 217). والقرانُ الكريم من خلالِ هذهِ الآية الكريمة، يجليَّ الحقيقةَ بوضوح، ويُوضحها بجلاء، وهي أنَّ الكفارَ وأذناَبهم من المنافقين، لا يزالون يُشعلون فتيلَ المعركة، مستميتين في صدَّ المسلمين عن دينهم، وجعلهِم أتباعاً أذلاءَ لمخططاتهِم ومؤامراتهم، ولا يزالُ أعداُء الإسلام يقومونَ بتلك المهمةِ بكلِ خُبثٍ ومكرٍ وخديعةٍ، ولا يزالون يتَفانونَ في خدمةِ الشيطان الذي أضَرمَ ناَر العداوةِ الأولى ضدَّ الأبوين عليها السلام، ومنذُ ذلك الحين والأبالسةُ يتوارثون تلك العداوةَ كابراً عن كابر، غير متعظين َولا معتبرين بمصارعِ الظالمين وهلاكِ المجرمين، الذي حكى القرانُ طرفاً من أخبارهم، ذكرى لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد.
فهذا نوحٌ عليه السلام يصدعُ بدعوتهِ في وسَطِ قومهِ البائسين الغارقينَ في تقديسِ أوثانهم، وتأليهِ أصنامِهم، باذلاً زهرةَ شبابه، وأينعَ أوقاته في استنقاذِ أولئك الجهلةِ والمخرفين، لكنَّ الملأ المستكبرينَ من قومه، الآخذين على أنفسهِم العهدَ في التضليلِ والإغواء، وِخداعِ السُذجِ والدهماء، يقفونَ في وجهِ ذلك المصلحِ الكبير، والرسولِ المعلّم، رافضينَ دعوتَه، ساخرين من رسالته، متهمينَهُ بالشعوذةِ والجنون، حائلينَ بينه وبين مسؤوليةِ البلاغ، وتخليصِ الناسِ من زيفِ الباطل، وكذبِ الدجاجلة، متوعدينَهُ بالرجمِ والقتل تارة، وبالطردِ والأبعادِ تارةً أخرى. (قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِين) (الشعراء:116). وهنا يلجأُ العبد الصالحُ، والداعيةَ الناصح، يلجأ إلى السِلاحِ الذي لا يُهزم، والذي طالما فَتَكَ بالظالمين، وشتتْ شملَ الملاحدِة والمجرمين. (قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ. فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ. ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ. إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِين. وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيم) (سورة الشعراء ). وهكذا بلمحةِ بصرٍ، وساعةِ انتقامٍ وشدة، هَلَكَ المحاربون للإسلامِ من قومِ نوح، وبقي الإسلام.
هلك المحاربون للإسلام وبقي الإسلام.
وهذا صالحٌ عليه السلام، يدعوا قومه بكل عطفٍ وإشفاق، يدعوهم إلى الإسلامِ بمالهِ وكماله وعدلهِ وإنصافه، حيثُ لاَ يبغي كبيرٌ على صغير، ولا يتعدى ذو جاهٍ على ضعيفٍ أو مسكين، لكنَّ أعداءَ الله يُشعلون حرباً جديدةً ضدَّ نبيهمِ المشفق عليهم، الراغبُ في تخليصهِم من مستنقعِ الرذيلة، ووصلِ الوثنية، واقعين في الخطأِ ذاتهِ الذي وقع فيه أسلافُهم من المجرمين، وصار أولئكَ البائسينَ من قومِ صالح يحيكونَ المؤامرات، ويَنسجونَ الخطط للهجومِ ليلاً على بيت صالح عليه السلام وقتلةِ والتخلصِ منه، ثُمَّ بعد ذلك يُنكرونَ صلَتهم بالجريمةِ، واستمع إلى حديثِ القرآن يكشفُ تلكَ المكيدة، ويفَضحُ خيوطَ المؤامرة معقباً بذكرِ مآلهِمُ الكئيب، ونهايتهُم المبكية، ومعلناً عن درسٍ جديدٍ لزمرةِ الكفرةِ والمنافقين، لو كانوا يفقَّهون. (وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ. قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ. وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ. فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ. فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُون) (النمل:52).
هلك المحاربون للإسلام وبقي الإسلام.
بارك الله ..
الخطبة الثانية :
الحمد لله ..
أما بعد: أيها المسلمون: وهذا شعيبٌ عليه السلام يلاطفُ قومَهُ بأرقَّ عبارة، وأجملِ أسلوب، ويَدعُوهم للكفِّ عمَّا هم فيه من عبادةِ الأصنام، وتقديسِ الأحجار، ويُنَادي بإصلاحِ الاقتصاد الذي أخذ في الانحدار، نتيجةَ تطفيفِ الكيلِ والميزان، وبخسِ الناسِ أشياَءهم، وأكلِ أموالهم بالباطل، لكنَّ أعداءَ الله، الراغبينَ في إبقاءِ الأوضاع المترديةِ كما هي، يعُلنونها حرباً جديدة ضدَّ ذلكَ الناصحِ الأمين: (قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا وأن نفعل في أموالنا ما نشاء، إنك لأنت الحليم الرشيد) بل إنَّهم ليذهبون إلى أبعد من هذا، إنَّهم يُهددون ويتوعدون بالبطشِ والتنكيل: (قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ) (هود:91). وبدأ الملأُ وعِلية القوم ينادونَ في أرجاءِ المدينة، ويصرخونَ في جنباتِها، يُحذِّرون الناس من اتّباعِ شعيب، أو الإيمانِ بدعوته، مدَّعينَ بأنَّ من أتبعهُ أو صدّقهُ فإنَّ مآلهُ الخُسران والضلالُ المبين: (وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ) (لأعراف:90). حتى إذا بلَغَ السيلُ الربي، آذنتْ شمسُ الكفرة بالمغيب، نزلتْ العقوبةُ الخاطفة والنقمةُ المهلكة: (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ. الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ) (لأعراف:92).
وهكذا طُويت صفحةُ الظالمين.
هلك المحاربون للإسلام وبقي الإسلام.
وهذا محمدٌ عليه الصلاة السلام سيدُ البشريةِ ورسولُها العظيم، يصدعُ بدعوته، ويجهرُ برسالتهِ في وسطٍ بدائيٍ مُتخلف، باعوا كرامَتهم تحتَ أقدامِ اللات والعُزى، وذبحواَ إنسانيَتهم على أعتابِ مناةِ الثالثةِ الأخرى، وأجَّروا عقولَهم لجماعةٍ من الدجاجلةِ والمخرفين، يَسوقونهم إلى الجحيم، ويقَودوُنهم إلى الهاوية.
فَجاهَدَ عليه السلام تلك الأوضاعَ البائسة، وذلكَ الانحرافَ المخيف، وصَمد في وجهِ الباطلِ المنتعش، وتآمر المجرمون كعادتهم، مُحاولينَ خنقَ ذلكَ الصوتَ المتّقد حيويةً ونشاطاً، الراغبُ في إنقاذِ أمته من الجاهلية ِالمتراكمةِ عبر السنين، وتخليصهِا من عبوديةِ الأوثانِ والأصنام، والأموالِ والأهواء، والشهواتِ والمتاعِ الرخيص، واستهلّ المجرمون معركتَهم بسردِ قاموسٍ طويلٍ من الشتمِ والسبِ الغليظ، وتهمٍ بالوسوسةِ والدروشةِ والسحرِ والشعوذة والكِهانةِ والعَمالة، ثم بدأتْ المواجهةُ تأُخذُ مساراً جديداً، فاجتمعتْ العقولُ الخاوية والأيدي المجرمة، تحيكُ خيوطَ المكيدة، وتنسجُ ثيابَ المكرِ والخديعة: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (لأنفال:30). وبعد أن وصلتْ القضيةُ إلى طريقٍ مسدود، وأصرَّ صناديدُ قريشٍ على حربِ الدعوة، والتصدي للرسالة، والحيلولةِ بين الرسولِ وبين البلاغِ المبين، خرج عليه السلام من تلك القريةَ الظالمِ أهلُها إلى أرضٍ يدعو فيها بأمنٍ وطُمائنية، لكنَّ المجرمين يتَعقَبونَهُ ويلاُحقونه، حتى خارج حُدود أرضهم، وذلك من مكرِ اللهِ بهم، حتى كانتْ ملحمةُ بدرٍ الكبرى، وفيها كان ذبحُ الباطل، وكشفُ الزيفِ، وهلاكُ المجرمين، لقد ذَهَبَ المحاربون للإسلام، وبقي الإسلامُ شامخاً قوياً كالجبال.
هلك المحاربون للإسلام وبقي الإسلام.
أيُّها المسلمون: ولقد تتابعت على هذهِ الأمة هجماتُ الأعداء من كل حَدَبٍ وصوب، ولم تتوقفْ المؤامرات ساعةً من ليلٍ أن نهار، كُلُهم يريدُ هدمَ الإسلام وهلاكَ أهلهِ ومعتنقيهِ، والقضاءَ على أنصارهِ ومحبيهِ، ولكنْ يذهب الأعداء ويَبقى الإسلام.
جاءَ التتارُ بألوفٍ مؤلفةٍ من الأوباشِ، يموجُونَ كالبحر ِالهادر، ويزحفونَ كالسيلِ الجارف للقضاءِ على الإسلام واستئصالِ شأْفته، فذَهَبَ التتارُ وبقي الإسلام. هلك المحاربون للإسلام وبقي الإسلام.
وشنَّ الصليبيون تسعَ حملاتٍ متتابعةٍ ضدَّ أمةِ الإسلام، فخابَ سعيُها، وتفرقَ شملُها، وهلكَ جُندها، ورجعت فلولُها تجرُّ أذيالَ الهزيمة، وتتجرعُ مرارةَ الفشل، لقد هُزم الصليبيون وبقى الإسلامُ. الدينُ الذي لا يُقهر، والجنُد الذي لا يُغلب.
هلك المحاربون للإسلام وبقي الإسلام.
وجاءَ طاغيةُ فرنسا بابليون، يغزو أرضَ الإسلامِ في مصر، باسمِ الإسلامِ الذي ادَّعاه، وأوهَمَ العامة أنَّهُ مسلمٌ يسعى لإنقاذِ الأمةِ وإصلاحها، فأفسدَ الحرثَ والنسل، وأحرقَ الأخضرَ واليابس، وفَتَنَ الناس عن دينهم باسم الإسلام، لكنْ مع كلَّ ذلكَ الكيد، وكلَّ تلكَ المؤامراتِ، وذلكَ العداء السافر الذي يشنُّهُ الكفرةُ والمنافقون، للنَّيل من عقيدةِ الأمةِ وكرامتِها، فإنّ اللهَ ناصرٌ دينَه، ومعلٍ كلمته، وكلُ الذين يظنون بأنَّهم سيحجبونَ الشمسَ بأجسادهمِ الضئيلة، ويُزحزحونَ الجبل بسواعدِهم النحيلة، إنَّما يعيشون أحلاماً، ويلحظون سراباً، فالإسلامُ دينٌ لا يُقهر، ورسالةٌ لا تموتَ، إنَّ سرَّ الإسلام في ذاتهِ، في أصالتهِ وشموخِه، وفي عالميتهِ وشمولهِ. هلك المحاربون للإسلام وبقي الإسلام.
دينٌ كَتَبَ اللُه له البقاء، مهما تصرمتْ السنون، وتتابعتْ القرون، ومها قستْ الظروفُ، وتوالتْ المحنُ، وهو دينٌ لا يرتبطُ بقاءُه ببقاءِ زيدٍ أو ذهابُه، أو حياته أو مماته، لقد ذهب محمدٌ r، الذي جاءَ بالإسلام، وجاهدَ من أجلِ الإسلام.
ذهب محمدٌ r وبقي الإسلام، وذَهَبَ أبو بكرٍ وعمر وبقي الإسلام، وذهبَ عثمان وعليّ وبقي الإسلام، وذَهَبَ أبو حنيفةَ ومالك وبقي الإسلام، وذهب الشافعيُّ وأحمد وبقي الإسلام، وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وبقي الإسلام، وذهب صلاح الدين وقطز وبقي الإسلام، وذهَبَ فلانٌ وفلانٌ وبقي الإسلام، فاطمئنوا أيُّها الغيورون على الدين، المنافحونَ عن الملة، سيبقى الإسلامُ مهما كادُ لهُ أعداءهُ من الكفرةِ والمنافقين، فاللهُ جل وتعالى يقول: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة:33).
ستذهب روسيا ويبقى الإسلام، وستذهب أمريكا ويبقى الإسلام، سيذهب الكفر كله من الأرض ويبقى الإسلام، لكن هذه البشائرُ يا أحبابَ محمدٍ عليه الصلاة والسلام، لا ينبغي أن تكفَ أيديَنا عن العمل، وبذلِ مزيدٍ من الجُهد في تنويرِ الناسِ ودعوتهمِ إلى الحق، والتفانيِ في نصرةِ هذا الدين، في المنشطِ والمكره، والسراءِ والضراء، والتحليِ بالصبرِ الجميل، فاللهُ تعالى يقول: (فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ).
اللهمَّ إنَّا نسألُك إيماناً يُباشرُ قلوبنا، ويقيناً صادقاً، وتوبةً قبلَ الموتِ، وراحةً بعد الموتِ، ونسألُكَ لذةَ النظرِ إلى وجهكَ الكريمِ، والشوق إلى لقائِكَ، في غيِر ضراءَ مُضرة، ولا فتنةً مضلة.
اللهمَّ زينا بزينةِ الإيمانِ، واجعلنا هُداةً مهتدين، لا ضاليَن ولا مُضلين، بالمعروف آمرين، وعن المنكر ناهين يا ربَّ العالمين.
ألا وصلوا وسلموا على من أُمرتم بالصلاة عليه، إمام المتقين، وقائد الغرِّ المحجلين وعلى آلهِ وصحابته أجمعين.
وأرض اللهمَّ عن الخلفاءِ الراشدين أبي بكرٍ وعمر وعثمان وعلي.
اللهمَّ آمنا في الأوطانِ والدُور، وأصلحِ الأئمةَ وولاةِ الأمورِ، يا عزيزُ يا غفور، سبحان ربك رب العزة عما يصفون ..