وَبَـــدَأَتْ حَـــــلَـــقَــــاتُ القُــــرآنِ

راشد بن عبد الرحمن البداح
1444/02/05 - 2022/09/01 18:07PM

الحمدُ للهِ الكريمِ الجَوادِ، مَنْ تمسكَ بكتابهِ عزَّ وسادَ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له ولا أندادَ، وأشهدُ أن نبيَنا محمداً عبدُهُ ورسولهُ، الهاديْ إلى سبيلِ الرشادِ، صلى اللهُ وسلمَ عليهِ، وعلى آلهِ وأصحابهِ والتابعينَ، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يومِ المعادِ: فاتقُوا اللهَ؛ فتقوَى اللهِ خَلَفٌ من كلِ شيءٍ، وليسَ مِن تقواه خَلَفٌ.

معاشرَ المسلمينَ: إن من نِعَمِ اللهِ علينا أنْ حفِظَ دينَه بحفظِ كتابِهِ الذي: (ما زالَ محفوظًا في الصدورِ نقلاً متواترًا، حتى لو أرادَ مُريدٌ أن يُغيِّرَ شيئًا من المصاحفِ، وعُرِضَ ذلكَ على صبيانِ المسلمين لعرَفُوا أنه قد غُيِّرَ؛ لِحِفْظِهمْ للقرآنِ)([1]).

{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر9].وقالَ رَسُول اللَّهِ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ-: أَلاَ إِنَّ رَبِّى قَالَ: أَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابًا لاَ يَغْسِلُهُ الْمَاءُ، تَقْرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ. رواهُ مسلمٌ([2]).لاَ يَغْسِلُهُ الْمَاءُ: أي محفوظٌ في الصدورِ، يَبْقَى عَلَى مَرِّ الْأَزْمَانِ([3]).

ولأجلِ هذا؛ فإن حافظَ القرآنِ محفوظٌ ناجٍ من النارِ برحمةِ اللهِ. قالَ -صلى اللهُ عليه وسلم: لَوْ أَنَّ الْقُرْآنَ جُعِلَ فِي إِهَابٍ (أي في جِلدٍ) ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ مَا احْتَرَقَ. رواهُ أحمدُ، وحسنَهُ الألبانيُ([4]). لماذا؟! لبركةِ ملاصَقةِ الجِلْدِ للقرآنِ، فكيفَ بالذي أَتقنَ حِفظَه؟!([5]).

ولذا كانَ حافظُ القرآنِ مستحقًا للتوقيرِ والتكريمِ؛ لقولِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللَّهِ إِكْرَامَ حَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ([6]).

مَعاشرَ المؤمنينَ: أتدرونَ ما الجهادُ الكبيرُ؟! إنه جهادٌ جاءَ ذِكرُه في قولُ ربِنا تعالَى: {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادَاً كَبِيْرَاً}، إنه جهادٌ بالقرآنِ، دعوةً بالحكمةِ والموعظةِ الحسنةِ، فالجهادُ بالقرآنِ قد يكونُ أكبرَ من الجهادِ بالسلاحِ. وكمْ منْ كافرٍ سمعَ القرآنَ فأسلمَ.

ولنأخذْ شاهدًا قويًا على ذلكَ، كما في قصةٍ عجيبةٍ لأبي بكرٍ الصديقِ -رضيَ اللُه عنه- ففي صحيحِ البخاريِ أنه: (لَمَّا ابْتُلِيَ الْمُسْلِمُونَ [وهاجَرُوا ] نَحْوَ أَرْضِ الْحَبَشَةِ، ابْتَنَى أَبُو بَكْرٍ مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ، وَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَيَنْقَذِفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ، وَهُمْ يَعْجَبُونَ مِنْهُ، وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَكَانَ رَجُلاً بَكَّاءً لاَ يَمْلِكُ عَيْنَيْهِ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ، وَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)([7]) فقَدْ خَشُوا أَنْ يَفْتِنَ نِسَاءَهم وَأَبْنَاءَهم؛ فَنهَهُوهُ عن قِراءةِ القرآنِ.

أرأيتم كيفَ أن القرآنَ له أثرٌ كبيرٌ في نفوسِ الصغارِ والكبارِ؛ فماذا كان يفعُله الصِّدِّيقُ غيرَ قراءةِ القرآنِ؟ ولكنَّ القومَ كانوا فصحاءَ يفهمونَ القرآنِ، ويتأثرونَ بهِ.

ووِرْدُكَ القرآنيُّ اليَومِيُّ جهادٌ لنفسِك وتزكيةٌ لها، فَاِجْعَلْ لِلْقُرْآنِ نَصِيبًا مِنْ يَوْمِكَ، لَا تَتَنَازَلُ عَنْهُ أَبَدًا، وحَتْمًا سَتَجِدُ الرَّبِيعَ فِي قَلْبِكَ، وَالْأُنْسَ فِي يَوْمِكَ: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}. وقد كانَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- له حزبٌ يوميٌ لا يدَعُهُ.

واليومَ وبرغمِ ما يعصِفُ بالأمةِ من مِحنٍ وإِحنٍ؛ إلا أن العودةَ الراشدةَ إلى القرآنِ تبدُو واضحةً متمثلةً في هذا الجيلِ القرآنيِ الصاعدِ؛ من وِلدانٍ في حلقاتٍ، وفَتياتٍ في دُورٍ ودَوراتٍ. ومن نِعَمِ اللهِ علينا وعلى الناسِ: ما نَشهدهُ من انتشارِ حِلقِ تحفيظِ القرآنِ، والتي تُؤتيْ أُكُلها كلَ حينٍ بإذنِ ربِها؛ فاللهم أعنا على ذكرِكَ وشكرِكَ وحسنِ عبادتِكَ. ولا يسَعُ المؤمنَ المحبَّ للهِ وكتابهِ وهو يرَى هذهِ البشائرَ إلا أن يَفرحَ ويُبشِّرَ بها:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ(57)قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}.
الحمدُ للهِ الذي هدَانا للإيمانِ والقرآنِ، والصلاةُ والسلامُ على من نزّلَ اللهُ عليهِ الفرقانَ، أما بعدُ: فبعدَ غدٍ ستبدأُ الدراسةُ لتُنيرَ بيوتَ اللهِ والدُورَ بالتلاواتِ، ويتَردَّدُ هؤلاءِ الفلذاتُ، والصالحينَ والصالحاتِ على تلكَ الحلقاتِ.

واسمعُوا لفضيلةِ الشيخِ محمدٍ العثيمينَ -رحمهُ اللهُ تعالى- إذ يقولُ: (أحثُ إخوانيَ على أن يلحقوا أولادَهم في حلقاتِ تحفيظِ القرآنِ الكريمِ؛ لأن ذلكَ يُعينُهم على تربِيةِ أولادِهم، ويكفُّ أولادَهُم عن أسبابِ الشرِ والفسادِ، ولو لم يكنْ منها إلا كفُّ الشبابِ عن التسكعِ في الأسواقِ وإضاعةِ الوقتِ)([8]).

ألا فلتكنْ عَودتُنا قويةً وجِدّيةً؛ لِنعوِّضَ ما فاتَ، ولْنرغِّبْ أولادَنا بالمحفزاتِ والمكافآتِ، ليُسجِّلوا في هذهِ الحلقاتِ، ليَصدُوا عن الجوالاتِ والألعابِ الملهياتِ، فيربِّيَهمُ القرآنُ خيرَ تربيةٍ، ثم يُلبِسونَنا غدًا تِيجانَ الكرامةِ. {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}[الإسراء9] فاللهم اجعلنا من أهلِ القرآنِ الذينَ هم أهلُكَ وخاصتُكَ.

·   اللهمَّ وارحمْنا ووالدِينا، وهبْ لنا من أزواجِنا وذرياتِنا قرةَ أعينٍ؛ ليكونُوا من أهلِ القرآنِ، فيُلبِسونَنا يومَ القيامةِ تِيجانًا.

·   اللهم لا تَحرِمنا فضلَكَ، ولا تَصدَنا بغلبةِ شهواتِنا عن كتابِكَ.

·   اللهم لكَ الحمدُ كالذي تقولُ وخيرًا مما نقولُ.

·   اللَّهُمَّ صُبَّ عَليْنا الخَيْر صَبَّا صَبَّا، ولا تَجْعَل عَيْشَنَا كَدَّا كَدَّا.

·   اللهم احفظْ علينا دينَنا وتعليمَنا، وحدودَنا وجنودَنا. واحفَظْ ثرواتِنا وثمراتِنا.

·   اللهم وفقْ وسدِّدْ وليَ أمرِنا ووليَ عهدِه لهُداكَ. واجعلْ عمَلَهما في رضاكَ. واجزِهما على خدمةِ كتابِكَ والحرمينِ.

·   اللهم صلِّ وسلِّمْ على عبدِكَ ورسولِكَ محمدٍ.



([1])الجواب الصحيح لابن تيمية (3/ 14).
([2])صحيح مسلم (7386)
([3])شرح النووي على مسلم (17/ 198)
([4])مسند أحمد ط الرسالة (17365).
([5])الميسر في شرح مصابيح السنة للتوربشتي (2/ 500)
([6])سنن أبي داود (4843)
([7])صحيح البخاري (3692).
([8])اللقاء الشهري (1 / 457)

المرفقات

1662044856_وبدأت حلقات القرآن.docx

1662044856_وبدأت حلقات القرآن.pdf

المشاهدات 781 | التعليقات 0