وانتصف الشهر 14/9/1443
عوض آل دبيس
الخطبة الأولى
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله سبحانه، إذ بها تشرف النفس، ويثقل الميزان، ويعلو القدر، ويعظم الجاه، ويحصل القرب من الباري جلّ شأنه، فما خاب من اكتنفها، ولا أفلح من جفاها، ولا جَرَم ـ عباد الله ـ فإن العاقبة للتقوى، (فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ يٰأُوْلِى ٱلأَلْبَـٰبِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة:100].
أيها المسلمون، لقد مضى من رمضان صدره، وانقضى منه شطره، واكتمل منه بدره، فاغتنموا فرصة تمرُّ مرَّ السحاب، ولِجوا قبل أن يُغلق الباب، وبادروا أوقاته مهما أمكنكم، واشكروا الله على أن أخّركم إليه ومكّنكم، واجتهدوا في الطاعة قبل انقضائه، وأسرعوا بالمثاب قبل انتهائه، فساعاته تذهب، وأوقاته تُنهب، وزمانه يُطلب، ويوشك الضيف أن يرتحل، وشهر الصوم أن ينتقل، فأحسنوا فيما بقي، يغفر لكم ما مضى، فإن أسأتم فيما بقي أُخذتم بما مضى وبما بقي.
أيها المسلمون، تنصَّف الشهر وانهدم، وفاز من بحبل الله اعتصم، وخاف من زلّة القدم، واغتنم شهر رمضان خير مغتنم، وشقي الغافل العاصي بين الذل والسقم، والأمن والندم، ويا ويله يوم تحل على أهل المخالفة الآفات، يوم تنقطع أفئدة أهل التفريط بالزفرات، يوم يُحشر أهل المعاصي والدموع على الوجنات، يقول الرب العلي في الحديث القدسي: ((يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)) [أخرجه مسلم][1][1].
أيها المسلمون، أين من كانوا معنا في رمضان الماضي؟! أما أفنتهم آفات المنون القواضي، وأعدمتهم صوماً وفطراً، وزوّدتهم من الحنوط عِطرا، وأصبح كل منهم في اللحد فردا؟! أما أدارت عليهم المنون رحاها، وحَكَّ وجوههم الثرى فمحاها؟! ثم أين من صاموا معنا في أول الشهر، وقاموا أوله يبتغون الأجر؟! أتاهم هادم اللذات، وقاطع الشهوات، ومفرّق الجماعات، فنقلوا من القصور المنيفة إلى بطون الحفر، ومن الفرش الوثيرة إلى خشونة المدر، ونحن – يا عباد الله – على الأثر، فتأهبوا لمثل ما حلّ بهم من الغِيَر، وتذكروا مرارة الموت الذي لا يسلم منه بشر، ولو سلم منه أحدٌ لسلم سيد البشر محمد
ولكن صدق الله اذ يقول: (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مّن قَبْلِكَ ٱلْخُلْدَ أَفَإِيْن مّتَّ فَهُمُ ٱلْخَـٰلِدُونَ **كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ ٱلْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء:35].
عباد الله، لا دافع عنكم من الموت يقيكم، فتوبوا قبل أن تندموا إذا غصّت تراقيكم، (إِنَّ ٱلْمَوْتَ ٱلَّذِى تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَـٰقِيكُمْ) [الجمعة:8].
أيها المسلمون، أيام رمضان تاج على رأس الزمان، من رُحم فيها فهو المرحوم، ومن حُرِم خيرها فهو المحروم، ومن لم يتزوَّد من عامه فيها فهوَ الظلوم الملوم.
فيا من فرّطتم في شهر رمضان القائم، هل أنتم على يقين من العيش إلى رمضان قادم؟! فقوموا بحق شهركم، واتقوا الله في سرِّكم وجهركم، واعلموا أن عليكم ملكين يصحبانكم طول دهركم، ويكتبان كل أعمالكم، فلا تهتكوا أستاركم عند من لا تخفى عليه أسراركم.
أيها المسلمون، إن أيام رمضان يجب أن تُعظَّم وتصان، وتُكرَّم ولا تُهان فلْتُحرس منكم في هذا الشهر العينان، وليحفظ فيه اللسان، ولتُمنع من الخُطا في الخَطا القدمان، وذلك واجب في كل زمان، ويتعاظم في شهر رمضان، يقول سيد الأنام : ((من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعام وشرابه))
يا عبد الله، جدّ القوم وأنت قاعد، وقربوا وأنت متباعد، وقاموا وأنت راقد، وتذكروا وأنت شارد، إن قام العُبَّادُ لم تُرَ بينهم، وإن عُدَّ الصالحون فلست معهم، ترجو النجاة ببضاعة مزجاة، فلا صلاة ولا مناجاة، ولا توبة ولا مصافاة، لقد باشر الصالحون ليالي رمضان بصفاح وجوههم، وقيام أبدانهم، خالف خوف الله بينهم وبين السُهاد، وأطار من أعينهم الرقاد، عيونهم من رهبة الله تدمع، قلوبهم من خوفه تلين وتخشع، يعبدونه في ظلمة الليل والناس ضُجَّع، قومٌ أبرار، ليسوا بأثمة ولا فُجار، فيا من قضيت ليلك في معصية الخالق، وأضعت ليالي رمضان الشريفة في المحرمات والبوائق، يا لها من خسارة لا تشبهها خسارة، أن ترى أهل الإيمان واليقين، وركائب التائبين وقوافل المستغفرين، قد حظوا في ساعات الليل بالقرب والزلفى والرضوان، وقد رُميت بالطرد والإبعاد والحرمان، استدرك من رمضان ذاهباً، ودع اللهو جانباً، والحق بالقافلة، وتقلب في منازل العبودية بين فرضٍ ونافلة، واجعل الحياة بطاعة ربك حافلة، وحافظ على التراويح والقيام، فيما تبقى من الأيام، فقد قال رسول الله : ((من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)) [متفق عليه][2][6]، وقال : ((إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حسب له قيام ليلة)) [أخرجه أبو داود وغيره]
أيها المسلمون، اعلموا أنّ رمضان هو الشهر الذي يتنافس فيه المتنافسون, ويتسابق الخيرون للتقرب إلى ربهم جل جلاله بأنواع الطاعات والقربات،
أيها المسلمون، الصدقة تطفئُ غضب الربِّ كما يطفئُ الماءُ النار، والصدقةُ أجرها مُضاعف وثوابها عظيم، (مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة:261]، في الصدقة تزكيةٌ للمال، وتطهيرٌ للبدن، ووقايةٌ لمصارع السوء، في الصدقة دفعٌ للبلايا والمصائب والأمراض، كما قال رسول الله : ((داووا مرضاكم بالصدقة, حصنوا أموالكم بالزكاة))،
الصدقة ترفع العبد عند الله درجاتٍ، وتخفف عليه الحساب، وتثقل الميزان، وتكون سبب جوازه على الصراط، كما أنّ الصدقة سببٌ لظل العبد في ظل عرش الله Y يوم لا ظلَّ إلا ظله
أيها المسلمون، (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)
يا أيها الغني، اعلم بأن الصدقة سبب لبركة المال ونمائه, يقول : ((ثلاثةٌ أقسم عليهنّ, وأحدثكم بحديثٍ فاحفظوه: ما نقصَ مالٌ من صدقة, وما ظُلِم عبدٌ مظلمةً فعفا إلا زاده الله بها عزًا, وما فتح عبدٌ باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر)
فالبدار البدار أيها المسلمون, أدخلوا السرور على أرحامكم وعلى إخوانكم، وأنفقوا من أموالكم، واعلموا أن الله عز وجل يخلف عليكم بخيرٍ مما أنفقتم، (وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [سبأ:39].
أيها المسلمون، خير من توجهون إليه صدقاتكم أرحامكم وقراباتكم، فإنَّ رسول الله قال: ((الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم ثنتان: صدقةٌ وصلة))، ثم من كان عفيفًا متعففًا ذا عيال لا يسأل الناس ولا يتَفَطّن له (يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا)
واعلموا ـ أيها الإخوة في الله ـ أنّ الصدقة أمانٌ للفرد والمجتمع، أن الصدقة يحصل بها الرضا والسرور، أن في الصدقة تفريجًا للكروب وتنفيسًا للهموم وإعانةً للمحتاجين، إدخالاً للسرور على المسلمين، فأدخلوا السرور على إخوانكم يدخل الله السرور عليكم.
بارك الله لي ..........
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، (يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّـٰدِقِينَ)
أيها المسلمون، شهر رمضان شهر العتق من النيران، شهر فكاك الرقاب من دار الشقاء والحرمان، والخذلان والهوان، فعن أبي أمامة t قال: قال رسول الله : ((لله عز وجل عند كل فطر عتقاء))
فاجتهدوا – يا رعاكم الله – ما استطعتم في إعتاق رقابكم، وفكاك أبدانكم، وشراء أنفسكم من الله Y أيها المسلمون، هذا أوان التوبة والاستغفار، والأوبة والانكسار، والتضرع والافتقار، هذا زمان إقالة العثار، وغفران الأوزار، هذا شهر الإنابة، هذا رمضان الإجابة من الكريم لمن طرق بابه،
يقول الله Y (يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى ٱللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً) [التحريم:8].
اقصدوا باب التوبة تجدوه مفتوحاً، وأقبلوا على الله ما دام الأجل مفسوحاً.
يا عباد الله، لو بلغت ذنوبكم كثرةً عنان السماء، وما انتهى إليه البصر من الفضاء، حتى فاتت العد والإحصاء، لو بلغت ذلك تُبْ ولا تتردد، فإن الله يتوب على التائب، ويغفر زلل الآيب، يقول رسول الله
في الحديث القدسي: ((قال الله تعالى: يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة)) وعن أبي موسى الأشعري t قال: قال رسول الله : ((إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها)) [أخرجه مسلم]
أيها المسلمون، بالثناء على الله، والإقرار بالذنب والاعتراف، والإقلاع عن الذنب والعزم على عدم العود يمحو الله الاقتراف، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، فبادروا بالمتاب قبل أن يحلّ الموت بجوالبه، ويتمكن منكم بمخالبه، فيومئذ لا يمد لكم في الأجل، وما فات منكم لا عِوض عنه ولا بدل، ولا تنفع يومئذ الغِلَل ولا الحِيَل. اللهم انا نسالك توبة نصوحا قبل الم
تركي العتيبي
خطبة رائعة واسلوب جميل جدا
تعديل التعليق