والله لا يحب الفساد
د. سلطان بن حباب الجعيد
الحمدُ للهِ نَهى عنِ الفسادِ وحذَّرَ منه، ورغَّبَ في الصلاحِ ودلَّ عليه، والصلاةُ والسلامُ على المبعوثِ بالعدلِ والمَحَجَّةِ البيضاءِ، ليلُها كنهارِها، لا يزيغُ عنها إلا هالكٌ. أيُّها الناسُ، اتقوا اللهَ ربَّكم ولا تموتُنَّ إلَّا وأنتُم مسلمون.
أمَّا بعدُ:
عندما شاءَ اللهُ عزَّ وجلَّ أن يجعلَ الأرضَ الدارَ التي فيها عيشُ الإنسانِ، ومُدَّةَ بقائِهِ حتى يَنتَهِيَ ابتلاؤه وامتحانُه، أصلحَها وهيَّأها لهذه المهمَّة، ثم حذَّرَ الإنسانَ من أن يُفسِدَ ما أصلحَهُ اللهُ، كما قالَ تعالى:
﴿وَلا تُفسِدوا فِي الأَرضِ بَعدَ إِصلاحِها وَادعوهُ خَوفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحمَتَ اللَّهِ قَريبٌ مِنَ المُحسِنينَ﴾ [الأعراف: ٥٦].
وذلك لأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ لا يحبُّ الفسادَ والمفسدينَ، كما قال عن حالِهِم:
﴿وَمِنَ النّاسِ مَن يُعجِبُكَ قَولُهُ فِي الحَياةِ الدُّنيا وَيُشهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الخِصامِ وَإِذا تَوَلّى سَعى فِي الأَرضِ لِيُفسِدَ فيها وَيُهلِكَ الحَرثَ وَالنَّسلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الفَسادَ وَإِذا قيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتهُ العِزَّةُ بِالإِثمِ فَحَسبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئسَ المِهادُ﴾ [البقرة: ٢٠٤-٢٠٦].
وأسبابُ الفسادِ - معشرَ الإخوةِ - تعودُ للإنسانِ نفسِهِ؛ فقد ركَّبَ اللهُ فيه غرائزَ إذا تابعَها دونَ رادعٍ من شرعٍ ودينٍ، أنتجَت ألوانًا من الفسادِ، قال اللهُ تعالى، كاشفًا عن هذه الحقيقةِ:
﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الحَقُّ أَهواءَهُم لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالأَرضُ وَمَن فِيهِنَّ بَل أَتَيناهُم بِذِكرِهِم فَهُم عَن ذِكرِهِم مُعرِضونَ﴾ [المؤمنون: ٧١].
وهذا هو واقعُ البشريَّةِ قديمًا وحديثًا إلَّا من رحمَ الله، فإنهم عندما تابعوا أهواءَهم في العقائدِ والأديانِ، شرعوا لأنفسِهِم أديانًا ما أنزلَ اللهُ بها من سلطانٍ؛ فكانتِ البدعُ والوثنيَّةُ والخرافةُ.
وعندما تابعوا أهواءَهم السياسيَّةَ؛ كان الظلمُ والتسلُّطُ والبغيُ، وقهرُ الضعفاءِ في أنفسِهم وأموالِهم وأرضِهم.
وعندما تابعوا أهواءَهم في الأموالِ؛ كان الربا، والغشُّ، والاحتكارُ، والاستئثارُ بالأموالِ وجمعُها وكنزُها، ومنعُ حقِّ اللهِ فيها.
وعندما تابعوا أهواءَهم في الشهواتِ؛ كانت الفواحشُ والمُنكراتُ، من زِنًا، ولواطٍ، وخمورٍ، وفسوقٍ، ومجونٍ، وخلاعةٍ.
ولذلك أرسلَ اللهُ الرُّسُلَ - عليهم السلامُ - وأنزلَ الشرائعَ لتحُولَ بينَ الإنسانِ وأهوائِه، فينقطعَ بذلك أعظمُ أسبابِ الفسادِ، وهو أنْ يُحَكَّمَ الإنسانُ غرائِزَهُ فتقودُه، ثم تورِدُهُ المهالِكَ والمفاسِدَ.
فلم يَزَلْ هؤلاءِ الأَنْبِياءُ الكِرامُ، عليهمُ السَّلامُ، في جِهادٍ ضِدَّ الفَسادِ والمُفْسِدِينَ. فَحارَبُوا الفَسادَ العَقائِدِيَّ، فَدَعَوا إلى التَّوحِيدِ وحَرَّمُوا الشِّرْكَ والبِدَعَ والخُرافاتِ، كما قالَ اللَّهُ عنهم جميعًا: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ [النحل: ٣٦].
وحارَبُوا الفَسادَ الأخْلاقِيَّ، كما قَصَّ اللَّهُ عن مُمَثِّلِهِمْ في هذا، وهو لُوطٌ عليهِ السَّلامُ، فَنَهاهُم عن القَذارَةِ والفاحِشَةِ، وأمَرَهُم بالتَّطَهُّرِ والعَفافِ، فما كانَ مِنَ القَذِرينَ إلَّا أنْ أَخْرَجوهُ مِن قَرْيَتِهِم لأنَّهُ يَتَطَهَّرُ، وهكذا هي الفَضائلُ في زَمَنِ الفَسادِ تَسْتَحِيلُ تُهَمًا يَسْتَحِقُّ أصحابُها العُقُوبَةَ: ﴿وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ [الأعراف: ٨٠-٨٢].
وحارَبُوا الفَسادَ المالِيَّ، كما قَصَّ اللَّهُ عن مُمَثِّلِهِمْ في هذا، شُعَيْبٍ عليهِ السَّلامُ، الذي نَهاهُم عن التَّطْفِيفِ في المِكْيالِ والمِيزانِ: ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ﴾[هود: ٨٤-٨٧].
وحارَبُوا الطُّغْيانَ والاستِبْدادَ، كما قَصَّ اللَّهُ عن مُمَثِّلِهِمْ في هذا، مُوسَى عليهِ السَّلامُ، الذي نَهى فِرْعَوْنَ عن البَطْشِ والظُّلْمِ والبَغْيِ واستِعْبادِ النّاسِ وقَهْرِهِم وقَتْلِهِم، فقالَ: ﴿نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾ [القصص: ٣-٦].
ثمَّ بَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّهُ وخَلِيلَهُ مُحَمَّدًا عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، الذي لَمْ يُسَلِّطِ اللَّهُ على الفاسِدِينَ والمُفْسِدِينَ مِثْلَهُ، مُنْذُ وَقَفَ على الصَّفا وإلى يَومِنا هذا. وأنْزَلَ عليهِ الشَّريعةَ الخاتِمَةَ الكامِلَةَ، التِي لَمْ تَدَعْ خَيْرًا إلَّا دَلَّتْ عليهِ وأَمَرَتْ بهِ، ولا شَرًّا ولا فَسادًا إلَّا حَرَّمَتْهُ وحَذَّرَتْ منهُ.
فحَفِظَتِ الدِّينَ مِنَ الفَسَادِ، فَحَرَّمَتِ الشِّرْكَ، وَأَمَرَتْ بِالتَّوْحِيدِ. وَحَفِظَتِ النُّفُوسَ، فَحَرَّمَتِ الِاعْتِدَاءَ عَلَيْهَا بِالقَتْلِ أَوْ مَا دُونَهُ. وَحَفِظَتِ الأَمْوَالَ، فَحَرَّمَتِ الرِّبَا وَالسَّرِقَةَ وَنَهْبَ المَالِ العَامِّ. وَحَفِظَتِ الأَعْرَاضَ، فَحَرَّمَتِ الفَوَاحِشَ مِنْ زِنًى وَلِوَاطٍ، وَمَا يُوصِلُ إِلَيْهَا مِنِ اخْتِلَاطٍ وَتَرْكٍ لِلْحِجَابِ، وَإِظْهَارٍ لِلْمَفَاتِنِ. وَحَفِظَتِ العُقُولَ، فَحَرَّمَتِ الخُمُورَ وَالمُسْكِرَاتِ وَالمُخَدِّرَاتِ. ثُمَّ رَتَّبَتِ العُقُوبَاتِ وَالحُدُودَ الزَّاجِرَةَ، لِمَنْ تَعَدَّى وَانْتَهَكَ هَذِهِ المُحَرَّمَاتِ.
وَلَمْ يَتَوَقَّفْ حَرْبُ الفَسَادِ مِنْهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، عِنْدَ البَيَانِ وَالحُجَّةِ، بَلْ جَاهَدَ وَقَاتَلَ المُفْسِدِينَ، الَّذِينَ يَحُوطُونَ الفَسَادَ بِكُلِّ أَنْوَاعِهِ، بِالدِّفَاعِ وَالحِمَايَةِ، حَتَّى أَخْضَعَهُمْ وَكَسَرَ شَوْكَتَهُمْ. فَقَامَ خَطِيبًا لِيُعْلِنَ القَضَاءَ عَلَى الفَسَادِ بِالفِعْلِ وَالعَمَلِ، بَعْدَ أَنْ قَضَى عَلَيْهِ بِالحُجَّةِ وَالبَيَانِ.
لِيُعْلِنَ لَهُمْ فِي خُطْبَتِهِ تِلْكَ: أَنَّ مَآثِرَ الجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمِهِ مَوْضُوعَةٌ، وَأَنَّ رِبَا الجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمِهِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا وُضِعَ رِبَا عَمِّهِ العَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، وَأَنَّ دِمَاءَ الجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ، وَأَوَّلُ دَمٍ وُضِعَ دَمُ ابْنِ عَمِّهِ، وَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ النَّاسَ سَوَاسِيَةٌ، كُلُّهُمْ لِآدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ، فَلَا يَبْغِيَنَّ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَلَا يَتَعَاظَمَنَّ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ.
فَقَضَى بِقَضَائِهِ عَلَى مَآثِرِهِمْ، أَسْبَابِ الفَسَادِ، المُتَمَثِّلَةِ فِي الرِّبَا الَّذِي أَفْسَدَ الاقْتِصَادَ، وَفِي الثَّأْرِ الَّذِي أَفْسَدَ الأَمْنَ، وَفِي الطَّبَقِيَّةِ الَّتِي أَفْسَدَتِ العَدْلَ وَالمُسَاوَاةَ. ثُمَّ حَذَّرَهُمْ مِنْ أَنْ يَفْقِدُوا هَذِهِ الآثَارَ العَظِيمَةَ وَيُضَيِّعُوهَا وَيَرْجِعُوا إِلَى سَالِفِ فَسَادِهِمْ، الَّذِي خَلَّصَهُمُ اللَّهُ مِنْهُ، فَقَالَ: لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا…
الثانية:
وَبَعْدُ: أَيُّهَا الإِخْوَةُ، إِنَّ الحِفَاظَ عَلَى مَظَاهِرِ الصَّلَاحِ فِي المُجْتَمَعِ، وَمُحَارَبَةَ الفَسَادِ مَسْؤُولِيَّةُ الجَمِيعِ، بِأَنْ نَعْمَلَ بِشَعِيرَةِ الأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ، الَّتِي كَانَتْ سَبَبًا فِي خَيْرَةِ هَذِهِ الأُمَّةِ:
﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ المُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الفَاسِقُونَ﴾.
فَمَنْ رَأَى صُورَةً مِنْ صُوَرِ الفَسَادِ الدِّينِيِّ، أَوِ الأَخْلَاقِيِّ، أَوِ المَالِيِّ، أَوِ الِاعْتِدَاءِ عَلَى أَيِّ مُكْتَسَبٍ مِنْ مُكْتَسَبَاتِ البَلَدِ، فَلْيُبَادِرْ بِالإِنْكَارِ، بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ، وَمِنْ وَسَائِلِ الإِنْكَارِ الَّتِي تَبْرَأُ بِهَا ذِمَّتُكَ، أَنْ تُبَلِّغَ الجِهَاتِ المَعْنِيَّةَ، حَتَّى تَتَّخِذَ اللازِمَ.