{والله غالب على أمره}. [نص + وورد + بي دي إف].
عاصم بن محمد الغامدي
1439/03/26 - 2017/12/14 18:59PM
الخطبة الأولى:
الحمدلله على آلائه حمدًا كثيرًا، جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورًا، وصلى الله وسلم على نبيه الذي بعثه بالحق بشيرًا ونذيرًا، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد:
فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله - رحمكم الله -؛ فتقوى الله عليها المُعوَّل، وعليكم بما كان عليه السلفُ الصالحُ والصدرُ الأول، سارِعوا إلى مغفرة ربِّكم ومرضاته، وأجيبُوا داعِي ربِّكم إلى دار كرامتِه وجنَّاته.
عباد الله:
في مواقف الحياة عبر، وفي آيات الله ذكرى، ولو اجتمعت أمم الكفر كلها على أمة الإسلام، تعاديها وتحاربها وتريد دحرها، فإنهم لا يضرون إلا أنفسهم، لأن اللهَ ناصرُ دينِه، ومعزُّ أهلِه، {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُون}، والمسكين هو الذي يسمع وعد الله تعالى حين قال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا}، ثم يهتز إيمانه لما يراه من تجاوزات الكافرين، وما بأيديهم من عتاد إعلامي أو عسكري أو سياسي.
وفي هذه الأزمات المتتابعة، ربما نسي المسلم أن لله تبارك وتعالى إرادة كونية، وإرادة شرعية، فالإرادة الكونية قد تكون مما يحبه الله تعالى كالطاعات، وقد تكون مما يبغضه كالمعاصي، وهي المقصودة بقول القائل: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، أي أنه لا يقع في الكون خير أو شر إلا بمشيئة الله تعالى، أما الإرادة الشرعية فلا تكون إلا مما يحبه الله سبحانه، وقد تقع وقد لا تقع.
وتَمَكُّن أعداء الدين في كل زمان هو من إرادة الله الكونية، وفيه حكم لله تعالى لا يحيط بها بشر، {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ* وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ}.
وقد أكرم الله عباده المؤمنين، فجعل لهم عليه حق النصر، {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}، فلا يليق بالمؤمن اليأسُ وهو يسمع موعود ربه تبارك وتعالى، وتأتيه أخبار الصالحين من قبله بالتواتر ونقل الثقات.
اجتمع الكفار على إبراهيم عليه السلام، وأضرموا له النار وألقوه فيها، ولم يدر في خلدهم أمرٌ غير ما قرروه، {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ}، ونجاه الله سبحانه من حيث لا يحتسبون، فإذ بالنار العظيمة المحرقة تصبح بردًا وسلامًا، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}.
وأقبل فرعون على موسى ومن معه بجنوده، ورآهم شرذمة قليلين يسهل اجتثاثهم، وكانت كل المعطيات البشرية ضد نبي الله ومن معه، فالبحر من أمامهم، والعدو من خلفهم، والعدة والعتاد مع عدوهم، ولكن النجاة أتت من حيث لا يتصور مخلوق، فإذ بيابسة تأتي على البحر ينجو بها موسى عليه السلام ومن معه، ثم يهلك بها فرعون وجنوده، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}.
وجاء إخوة يوسف وهم أقوى منه، وأكثرُ عددًا، فألقوه في البئر وهم لا يشعرون أن هذا الطفل الصغير الذي لا يملك أمامهم من الأمر شيئًا، سينتقل إلى بيت عزيز مصر، ويدخلون عليه بعد عدةِ سنوات، يطلبونه الصدقة وهم صاغرون، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}.
وفي غزوة الخندق ظن يهود بني قريظة أن الأحزاب غالبة على المسلمين، فقد جاءت بخيلها ورجلها، وحاصرت المدينة بمن فيها، وزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر، فغدرت يهود بالمسلمين، وهم أهل الغدر، {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا}، وما ظنوا أن نصر الله سيأتي من حيث لا يحتسبون، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا}، فتغيرت الحال، وانقلب المآل، ووقعت يهود في شرِّ أعمالها، وحكم سعد بن معاذ رضي الله عنه فيهم بعد إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأن يقتل رجالهم، وتسبى ذراريهم ونساؤهم، وتقسم أرضيهم وأموالهم، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}.
وقبل تسعمئة عام تقريبًا احتل الصليبيون بيت المقدس، وبقي تحت أيديهم أكثر من ثمانين عامًا، واستفحل ملوكهم في أذى المسلمين، وقطع طريق حجهم وتجارتهم، وظن الناس أنهم باقون فيه إلى آخر الزمان، لكن اللهَ قَيَّضَ لهم صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، فأعاد القدس وفلسطين كلها لحكم المسلمين، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}.
وفي القرن الثامن الهجري هاجم المغول الأرض، ولم تقم لهم دولة، ولم يقف أمامهم خلق، ووصلوا إلى بغداد عاصمة المسلمين، وانتهكوا الأعراض، واستحلوا الحرمات، وبلغ أمرهم شأنًا عظيمًا، وانتشر عند الناس أنه لا قبل لأحد بمواجهتهم، وأنهم قادرون على الوصول إلى كل ما يبتغون، وقد أدرك العالم المسلم المؤرخ ابن الأثير رحمه الله بداية غزوهم، وكتب في تاريخه الشهير: "لَقَدْ بَقِيتُ عِدَّةَ سِنِينَ مُعْرِضًا عَنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْحَادِثَةِ اسْتِعْظَامًا لَهَا، كَارِهًا لِذِكْرِهَا، فَأَنَا أُقَدِّمُ إِلَيْهِ رِجْلًا وَأُؤَخِّرُ أُخْرَى، فَمَنِ الَّذِي يَسْهُلُ عَلَيْهِ أَنْ يَكْتُبَ نَعْيَ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ؟ وَمَنِ الَّذِي يَهُونُ عَلَيْهِ ذِكْرُ ذَلِكَ؟ فَيَا لَيْتَ أُمِّي لَمْ تَلِدْنِي، وَيَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ حُدُوثِهَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا، فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّ الْعَالَمَ مُذْ خَلَقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى آدَمَ، إِلَى الْآنِ، لَمْ يُبْتَلَوْا بِمِثْلِهَا، لَكَانَ صَادِقًا، فَإِنَّ التَّوَارِيخَ لَمْ تَتَضَمَّنْ مَا يُقَارِبُهَا وَلَا مَا يُدَانِيهَا". [الكامل 10/333].
لكنه توفي قبل إدراك ما آل إليه أمر التتر، فقد قيض الله لهم قوات المماليك بقيادة سيف الدين قطز رحمه الله، فأوقفوهم في معركة عين جالوت الشهيرة، وكسروا جبروتهم، وبعد ذلك بسنوات طوى الإسلام كثيرًا منهم تحت جناحه، وانضموا تحت لوائه، وصار منهم الملوك العادلون، والقادة الفاتحون، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}.
عباد الله:
المدافعة بين الحق والباطل سنة ماضية، ومكر الكافرين بالمسلمين مستمر من قديم الزمان، ولكن النصر لا محالة لهذا الدين، {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ* الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدلله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده، أما بعد:
فإن اليقين بموعود الله، والثقة بنصره لجنده وأولياءه، لا يعني التواكل والقعود، وترك بذل الأسباب، ولا الرضا بالتقصير الحاصل في كثير من أفراد الأمة، بل الواجب مع ذلك العودة الصادقة لرب السماوات والأرض، والتوبة والإنابة إليه، فما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}.
وإن من الضرورات، عند وقوع الفتن والأزمات، التزامَ المنهج الشرعي، بالصبر والمصابرة، وطاعة ولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين، والحذر من الاستطالة في أعراض علمائهم وولاة أمرهم وعامتهم، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ، لاَ يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ، لاَ يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ». [رواه البخاري].
فالبدار البدار، إلى التوبة والاستغفار، وأكثروا من الصدقات والأعمال الصالحة: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى* وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى}.
والحذارَ الحذارَ، من الانغماس في هذه الدنيا، ونسيان الآخرة، حتى لا نكون ممن أمن مكر الله تعالى: {فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}.
ثم صلوا وسلموا رحمكم الله على سيد الأولين والآخرين، وصاحب الشفاعة في يوم الدين، فقد أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال عز من قائل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.
المرفقات
غالب-على-أمره-2
غالب-على-أمره-2
غالب-على-أمره-3
غالب-على-أمره-3