وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ. 1442/11/8هـ
عبد الله بن علي الطريف
وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ. 1442/11/8هــ
الحمد لله الذ وسع كل شيء علماً، وقهر كل مخلوقٍ عزةً وحُكماً (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا) [طه:110] وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعه بإحسان وسلم تسليما كثيراً. أما بعد. (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا).. أيها الإخوة: في تدبر كتاب الله خيرُ ذكرى، ومن وُفقَ لتأملِ معانيه ودلالاته سعد بما تضفيه تلك المعاني على قلبه وروحه من ذكرى تكون سبباً في صلاح قلبه وسلوكه.. ولقد لفتَ الباري أنظار المتفكرين في كتابِهِ إلى علمه التام بكل شيء، وحذرهم من اطلاعه عليهم فقال: (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا) [طه:110].. وقوله: (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [البروج:9].. وقوله: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا). [النساء:1].. وقوله: (وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) [الأنفال:47] وقوله: (قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ). [سبأ:50] وقوله: (مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ). [لقمان:28].. آيات عظيمة تخبر بصفات أفعال لله المتعال.. بأنه عليمٌ شهيدٌ رقيبٌ محيطٌ سميعٌ قريبٌ سميعٌ بصيرٌ.. صفاتٌ يَهُزُ تأملها القلوبَ هزاً، ويُوقظُ تدبُــــرُها النفوسَ الغافلة.. ويحيي فيها المراقبة.. نعم (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق: 37].
قال الشيخ السعدي رحمه الله عن معنى الرقيب: المطلعُ على ما أكنَّتهُ الصدور، القائم على كل نفسٍ بما كسبت، الذي حفظ المخلوقات وأجراها على أحسن نظام وأكمل تدبير.
والشهيد: المطلع على جميع الأشياء، يسمع جميع الأصوات خفيها وجليها، وأبصر جميع الموجودات دقيقها وجليلها، صغيرها وكبيرها، وأحاط علمه بكل شيء، الذي شهد لعباده وعلى عباده بما عملوه اهـ.
وقال عن المحيط: هو الذي أحاط بكل شيء علماً، وقدرة ورحمة وقهراً، وقد أحاط علمه بجميع المعلومات، وبصره بجميع الْمُبصرات، وسمعه بجميع المسموعات، ونفذت مشيئته وقدرته بجميع الموجودات، ووسعت رحمته أهل الأرض والسموات، وقهر بعزَّتِه كل مخلوق، ودانت له جميع الأشياء..
وعن السميع قال: الذي أحاط سمعه بجميع المسموعات، فكل ما في العالم العلوي والسفلي من الأصوات يسمعها سرَّها وعَلَنَها وكأنها لديه صوتٌ واحد، لا تختلط عليه الأصوات، ولا تخفى عليه جميعُ اللغات.. والقريب منها والبعيد والسرّ والعلانية عنده سواء (سَوَاءٌ مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ).. [الرعد:10]
والعليم: قال عنه الإمام أحمد: هو الذي يعلم ما في السموات السبع، والأرضين السبع، وما بينهما، وما تحت الثرى، وما في قعر البحار، ومنبت كل شعرة وكل شجرة وكل زرع وكل نبات، ومسقط كل ورقة، وعدد ذلك، وعدد الحصى والرمل والتراب، ومثاقيل الجبال، وأعمال العباد وآثارهم، وكلامهم.
والبصيرُ: الذي أحاط بصره بجميع الْمُبصَرات في أقطار الأرض والسموات، حتى أخفى ما يكون فيها، فيرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصّماء في الليلة الظلماء، وجميع أعضائها الباطنة والظاهرة، وسريان القوت في أعضائها الدقيقة، ويرى سريان المياه في أغصان الأشجار وعُروقها، وجميع النباتات على اختلاف أنواعِها وصغرها ودقَّتها، ويرى نياط عروق النملة والنحلة والبعوضة وأصغر من ذلك.
فسبحان من تحيّرت العقول في عظمته، وسعة متعلقات صفاته، وكمال عظمته، ولطفه، وخبرته بالغيب، والشهادة، والحاضرِ والغائب، ويرى خائنات الأعين، وتقلبات الأجفان، وحركات الجنان، قال تعالى: (الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [الشعراء:218-220].. (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) [غافر:19].
وذكر الشيخ السعدي أن ربنا سبحانه وتعالى: هو الذي أحاط علمه، بالظواهر والبواطن، وسمعه بجميع الأصوات الظاهرة، والخفية، وبصره بجميع المبصرات، صغارها، وكبارها، ولهذا قال: (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) الذي لطف علمه وخبرته، ودق حتى أدرك السرائر والخفايا، والخبايا والبواطن.
أيها الأحبة: لو جلس أحدنا وتأمل هذه المعاني الكبار والدلالات العظام لهذه الآيات؛ لنخلع قلبُه خوفاً، وارتجفت فرائصُه فرقاً.. وذرفت عيناهُ دمعاً.. يا الله.. ما أعظم علمك وقُدرتك وإِحاطتك.! وما أغفلنا عندما نباشر معصية أو ندع واجباً.. ولو استحضر أحدنا هذا العلم وهذه الإحاطة الربانية.. لما هم بمعصية، أو تَركِ واجبٍ.. ولو استشعر هذه الرقابةَ الصارمة من لدن اللطيف الخبير.. لسارع للخير وأحجم عن الحرام.. لكننا عن هذا غافلون فاللهم لطفك وحلمك يا لطيف.. أقول ما تسمعون الله وأستغفر لي ولكم...
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة: قال الشيخ السعدي رحمه الله: "الرقيب" "والشهيد" اسمان مترادفان، وكلاهما يدلُّ على إحاطةِ سمعِ اللهِ بالمسموعات، وبصرِه بالْمُبصرات، وعِلمِه بجميعِ المعلومات الجليّةِ والخفيّةِ، وهو الرقيبُ على ما دارَ في الخواطرِ، وما تحركت به اللواحظ، ومن باب أولى الأفعال الظاهرة بالأركان، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)، (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ). ولهذا كانت المراقبةُ التي هي من أعلى أعمالِ القلوبِ: هي التعبّدُ للهِ باسمه الرقيبِ الشهيد، فمتى علم العبد أنَّ حركاتَه الظاهرةُ والباطنةُ قد أحاط الله بعلمِها، واستحضرَ هذا العلمَ في كل أحواله، أوجبَ له ذلك حِرَاسَةَ بَاطِنِهِ عن كلِ فكرٍ وهاجسٍ يبغضُهُ الله، وحفظَ ظاهِرَهُ عن كلِ قولٍ أو فعلٍ يُسخطُ اللهَ، وتعبَّدَ بمقامِ الإحسانِ فعَبَدَ اللَّهَ كأنَّهُ يَرَاهُ، فإن لم يكنْ يراه فإن الله يراه. أهـ.
فإذا كان الله تعالى رقيباً على دقائقِ الخفيَّات، مُطَّلعاً على السرائرِ والنيَّاتِ، كان من بابِ أولى شَهيداً على الظواهرِ والجليَّات.
وبعد أيها الإخوة: منزلةُ المراقبةِ منزلةٌ عظيمةٌ جداً، ومهمةٌ في طريقِ السائرين إلى الله.. وهي سِرٌ بينَ العبدِ وربِهِ يَعْظُمُ العبدُ ويَعِزُّ في عينِ اللهِ تعالى، وأَعْيُنِ المخلوقين على قدرِ عظمةِ هذه المنزلة وصِغَرِها في قلبِهِ..
ومراقبةُ اللهِ يجبُ أنْ تلازمنا في جميعِ أعمالنا الصالحة بأن نستشعرَ رؤيةَ اللهِ لنا واطلاعَه على ما في قلوبِنا في عموم عبادتِنا لأن الإحسانَ «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» والعبادةُ اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه.. وأن نستشعرَ المراقبةَ فنتجنبَ الخطأ ونمتنعَ عنه..
أيها الأحبة: هنا حقيقة مهمة يجب أن يتفطنَ لها السائرون إلى اللهِ.. بأنَّ مراقبةَ اللهِ ليستْ قيداً وهماً وتضييقاً على العبد بملذاته، إنها سرورٌ وفرحةٌ يبعثُها اللهُ في قلوبِ من يراقبُه ويخشاه.. وكلما زادت مراقبةُ للهِ في قلبِ العبدِ كلما زاد السرورُ والأنسُ بقربِ الله تعالى..
وليس لهذا الأنسِ والسرورِ نظيرٌ يقاسُ به في الدنيا؛ فهو حالٌ من أحوالِ أهلِ الجنةِ حتى قالَ بعضُ الصالحين: إنَّه لتمرُ بيَ أوقاتٌ أقولٌ فيها: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيشٍ طيب.. فاللهم ارزقنا خشيتك ومراقبتك في الغيب والشهادة، ووفقنا وذريتنا والمسلمين لذلك. وصلوا على نبيكم...
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق