وَالصَّدَقَةُ بُرْهانٌ
سعود المغيص
أما بعد عباد الله :
اتقوا الله تعالى وتعرَّضُوا لكرم ربِّكم بمكارمِ الأخلاقِ ولين اللسان، واستجلبوا نِعَمَ ربِّكم بالإنعامِ على ذوي الأرحامِ والجيران، فإنَّ اللهَ كريمٌ يُحبُّ الكرمَ وجَوادٌ يُحبُّ الجودَ وعفوٌّ يُحبُّ العفوَ والغُفران، وأكثروا في شهركم من أنواع العبادات وخاصةً الصدقة، فإنها ظِلُّكم يوم القيامة تقيكُم حرَّ النيران، ولها تأثيرٌ عظيمٌ في دفعِ البلاءِ وثوابُها يتضاعفُ بحسب شَرَفِ الزمانِ والمكان، خصوصاً في شهرِ الله المعظَّم رمضان.
عن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: (كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالخَيْرِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ يَلْقَاهُ كُلَّ لَيْلَةٍ فِي رَمَضَانَ، حَتَّى يَنْسَلِخَ، يَعْرِضُ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القُرْآنَ، فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، كَانَ أَجْوَدَ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ)
عباد الله : مالَ العَبْدِ في الحَقِيقةِ هُو ما قَدَّمَه لِنَفْسِهِ لِيَكُونَ لَه ذُخْراً بَعْدَ مَوْتِه، وَلَيْسَ مالُه ما جَمَعَ، فاقْتَسَمَهُ الوَرَثَةُ بَعْدَه، قال رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: ( أَيُّكُمْ مالُ وارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مالِه؟ ) قالُوا يا رسولَ اللهِ: مَا مِنَّا أَحَدٌ إلا مَالُه أَحَبُّ إِلَيْه، قال: ( فإنَّ مالَهُ ما قَدَّمَ، ومالُ وارِثِهِ ما أَخَّرَ ).
وعَنْ عائِشَةَ رضي اللهُ عَنْها أَنَّهُمْ ذَبَحُوا شاةً فَتَصَدَّقُوا بِهَا إلا كَتِفَها، فقالَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم: ( بَقِيَ كُلُّها غَيْرَ كَتِفِها ).
عبادَ الله: إِنَّ الصَّدَقَةَ دَلِيلٌ على إيمانِ العَبْدِ، قال النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم: ( وَالصَّدَقَةُ بُرْهانٌ )، أيْ عَلامَةٌ على صِدْقِ الإيمان.
وهِيَ سَبَبٌ لِلشِّفَاءِ والسلامَةِ مِن الأَمْراضِ، لِمَا رُوِيَ عَن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّه قال: ( دَاوُوْا مَرْضاكُمْ بِالصَّدَقَةِ ).
وعِنْدَما يُحْشَرُ الناسُ حُفاةً عُراةً غُرْلاً، وَتَدْنُو مِنْهُم الشمسُ وَيُلْجِمُهُم العَرَقُ، يَكُونُ الْمُسْلِمُ في ظِلِّ صَدَقَتِه، قالَ صلى اللهُ عليه وسلم: ( كُلُّ امْرِئٍ في ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَ الناسِ ). والصَّدَقَةُ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ، قال صلى اللهُ عليه وسلم: ( صَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ ).
وهِيَ سَبَبٌ لِزِيادَةِ الرِّزْقِ ونُزُولِ البَرَكاتِ، قال الله تعالى: ( يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدقاتِ )، وقال صلى اللهُ عليه وسلم: ( ما نَقَصَ مالٌ مِنْ صَدَقَةٍ ).
والصَّدَقَةُ مِن أَعْظَمِ أبْوابِ البِرِّ والإيمانِ وذَوْقِ حَلاوَتِه، قال تعالى: ( لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ).
والصَّدَقَةُ الجارِيَةُ يَبْقَى ثَوابُها حَتَّى بَعْدَ المَوْتِ، قال صلى اللهُ عليه وسلم: ( إذا ماتَ الإنسانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلا مِنْ ثلاثِ: .. وذَكَرَ مِنْها: وَصَدَقَةٍ جارِية ).
وهِيَ سَبَبٌ لِإِطْفاءِ الخَطايَا وتَكْفِيرِ الذُّنُوبِ قال صلى الله عليه وسلم: ( الصَّوْمُ جُنَّةٌ والصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الماءُ النارَ ).
وهِي حِجابٌ عَن النارِ، قال صلى الله عليه وسلم: ( اتَّقُوا النارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ ).
والصَّدَقَةُ مِنْ أَفْضَلِ صَنائِعِ المَعْروفِ، قال رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: ( صَنائِعُ المَعْرُوفِ تَقِي مَصارِعَ السُّوءِ ).
عبادَ الله: يَقُولُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ( مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ على العبادِ إلا وَمَلَكانِ يَنْزِلانِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُما: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، ويَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا). والْمُرادُ بِالْمُمْسِكِ: مَنْ أَمْسَكَ عن النَّفَقَةِ الواجِبَةِ. وكانَ بَعْضُ السَّلَفِ يُنْفِقُ كُلَّ يَوْمٍ وَلَوْ بِشَيءٍ يَسِيرٍ كَيْ يَنالَ بَرَكَةَ هذا الدعاءِ. وقالَ النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ: ( ابْنَ آدَمَ: أَنْفِق، أُنْفِقْ عَلَيْكَ ).
وهذانِ الحديثانِ يَدُلَّانِ عَلَى فَضْلِ النَّفَقَةِ في أُمُورِ الخَيْرِ عُمُومًا وَلا يَخْتَصَّانِ بالصَّدَقَةِ.
فَيا لَها مِنْ فَضائِلَ يَغْفَلُ عَنْها كَثِيرٌ مِن الناس.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
أَمّا بَعدُ عبادَ الله: من أعظم الصدقات في هذا الشهر تنفيس كرب المستضعفين من المؤمنين، وإنظار المعسرين والتيسير عليهم، من المستأجرين والمدينيين وغيرهم، قال صلى الله عليه وسلم:( مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ(
عباد الله : ومَعَ هذا الانْفِتاحِ وسُهُولَةِ التَحْوِيلِ ونَقْلِ المالِ، وَوُجُودِ بَعْضِ مَنْ يَدَّعِي الخَيْرَ، قَدْ تُسْتَغَلُّ أَمْوالُ بَعْضِ الْمُحْسِنِينَ والخـَيِّرِينَ، لَدَعْمِ جِهاتٍ مَجْهُولَةٍ أَو مَشْبُوهَةٍ، فَتَذْهَبُ إلى جِهاتٍ غَيْرِ مَعْرُوفَةٍ، أَو ذاتِ أَغراضٍ فاسِدَةٍ، والْمُسْلِمُ مُطالَبٌ بِالحَذَرِ والتَحَرِّي، وإِذا كانَ الْمُسْلِمُ لابُدَّ فاعِلاً، فُهُناكَ قَنَواتٌ في بِلادِنا مَعْرُوفَةٌ وَمُعْتَمَدَةٌ ومَوْثُوقَةٌ، وَلِلهِ الحَمْد، يَسْتَطِيعُ المُسْلِمُ أَنْ يَتَعامَلَ مَعَها ويُتابِعَها بِنَفْسِه، حَتَى تَصِلَ إلى مُسْتَحِقِّها ..
اللهم علمنا ماينفعنا وانفعنا بما علمتنا ....