واحةُ الحياء!

                                                              واحةُ الحياء!

                                                           1439/11/7هـ

                                                             الخُطْبَةُ الأولى:

أمَّا بعد:

 في رحلةٍ مُضْنِية، استغرقتْ خمسة وأربعين يومًا، خرجَ نبيُّ اللهِ موسى عليه السلام منْ مصرَ مناجيًا ربَّه {عَسَىٰ رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} فوردَ ماءَ مدينَ حيثُ تجمّع الناسِ وتزاحمهم على الماء، ووجدَ في ناحيةِ هَذَا الزحامِ امرأتينِ تمنعانِ أنعامَهما منَ الشربِ، وتذودانِ عنِ الزحام.

 سألَهُمَا بلطفٍ وأدب: مَا خَطْبُكُما؟

فأجابَتَا باستحياء: لا نَسقِي حتّى يذهبَ الرجالُ بمواشيهم فلا يبقَى الزحام، وليسَ عندَنا مَنْ يسقِي لَنَا مَنِ الرجال؛ لأنَّ أبونا شيخٌ كبير!

هُنا تحركتْ شهامةُ نبي الله موسى عليه السلام وأنستهُ إعياءَ السفرِ ونصبه، وحضرتِ الرجولةُ والشهامة، فاقتحمَ الزحام، ووسّعَ الطريقَ وسَقَى لهما، وقَضَى حاجتَهما.

رجعَتِ الفتاتانِ على غيرِ عادتِهما في بكورٍ إلى والدِهما الشيخِ الكبيرِ، وقصَّتَا عليهِ الخبر، فأمرَ إحداهما بدعوتِه؛ فجاءَته وكأنها واحة حياء {تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ}.

 قالَ عمرُ رضيَ اللهُ عنه كَمَا في مصنفِ ابنِ أبي شيبة: (فأقبلتْ إليه لَيْسَتْ [سليطةً بذيئةً صخابةً] لا خرَّاجةً ولا ولَّاجة، واضعةً ثوبَها على وجْهِها) وهي تقول: {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا}.

ثُمَّ انطلقتْ مَعَه إلى والدِها، وقَصَّ عليهِ القصصَ فوجدَ مِنْهُ أُنْسًا وراحةً وسكينة، وتلطفًا في القول: {لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}.

ولمَّا كانَ الزوجُ الصالحُ أبًا بعدَ أب، رأى هذَا الشيخُ الصالحُ أنْ يشتريَ أخلاقَ هَذَا النبيَّ الصالح، فعرضَ عليه إحدى ابنتيهِ هاتين، فاختارَ عليهِ السلام تلكَ الفتاةَ التي رأى حياءَها الظاهر، وسمع كلامَها الطاهر.

 قالَ بعضُ المفسرين: (إنّما اختارَها لأنّها التي عرفَ أخلاقَها باستحيائِها وكلامِها؛ فكانَ ذلك ترجيحًا لها عنده).

عبادَ الله!

إنّ في قصصِ القرآنِ الكريمِ أخلاقًا عظيمة، وقِيَمًا جليلة، تتجلّى بمثلِ هذهِ الحادثةِ اللطيفةِ التي صورتْ مشهدًا بديعًا منْ حياءِ صفوةِ الخلقِ وأطهرِهم، وجسّدتْ مفهومًا رائعًا لرقيِّ تعاملِهم، وعلوِّ أخلاقِهم.

وأنتَ أيُّها المبارك إذا تأملتَ فِي ناظمِ خيطِ هذه المنظومةِ الأخلاقيةِ البديعة، من خلالِ هذهِ القصةِ الفريدة؛ بزغَ لكَ طيفٌ جميل، وخُلُقٌ لطيفٌ اسمُه: (الحياء)! وذلكَ في جميعِ أطرافِ هذهِ القصةِ القرآنية.

لقدْ كانَ الحياءُ طريق هذا البيتِ لمصاهرةِ نبيٍّ كريمٍ منْ أولي العزمِ مِنَ الرسل، وما كانَ عليه الصلاة والسلام أنْ يختارَ بستانَ الحياء، وسكنَ الحياء، وزوجَ الحياء، لرفيقةِ دربِه؛ لولَا أنّه كانَ حيّيًا كريمًا.

كيفَ وقدْ وصفَه نبيُّنا بقولِه كَمَا في صحيحِ الإمامِ البخاري: (إنّ موسى كانَ رجلًا حييًا ستيرًا، لا يُرَى مِنْ جلدِه شيءٌ استحياءً منه..).

إنَّ الحياءَ – أيُّها الإخوةُ في الله - هُوَ الحياة؛ لهذا كانَ اشتقاقُه منَ الحياة، وكانَ الغيثُ حَيَا لأنّ بِهِ حياةَ الأرضِ والنباتِ والدواب.

والحياءُ أيضًا حائلٌ بينَ المرءِ وبينَ الزواجر والمنهيات، فبقوتِه يضعفُ اقتحامُها، وإذا ارتحلَ الحياءُ تقحمَ المرءُ ركوبَ هذهِ المخاطر، وتجرّأَ على مباشرتِها، وصدقَ في ذلك قولُ الأول:

                                       وَرُبَّ قَبِيــــــحَةٍ مَا حَــالَ بَيْنِي *** وَبَيْنَ ركُوبِهَا إِلّا الحَيَـــــــــــاءُ

                                       فَكَانَ هُوَ الدّوَاءُ لَهَا وَلَكِنْ ***إذَا ذَهَبَ الحَيَاءُ فَلَا دَوَاءُ

بلْ إنَّ الحياءَ شعارُ العقلاءِ كلِّهم فضلًا عنْ المسلمين، فهؤلاءِ العربُ في جاهليتِهم كانُوا يتحصنونَ بِهِ عنْ خوارمِ المروءة، وسفاسفِ الأخلاق، وفجورِ الخصومة، فحينَ استدعى هرقلُ أبا سفيانَ رضيَ اللهُ عنه قبلَ إسلامِه شاهدًا على رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم كانتِ الفرصةُ سانحةً له للانتقامِ والتشفِي فمنعَهُ الحياءُ حتى قال: (فو الله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذبًا لكذبت عنه). رواه البخاري.

كيفَ وقدْ عُلِمَ أنَّ الحياءَ دثارُ أهلِ الإيمان، فَهُوَ خُلُقُ الإسلامِ كما قال صلّى اللهُ عليه وسلم: "إِنَّ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقًا، وَإِنَّ خُلُقَ الْإِسْلَامِ الْحَيَاءُ"، رواه ابنُ ماجه بإسنادٍ حسن.

وكيفَ لا نكونُ أحق بهذا الخلق، وهوَ منْ ميراثِ الأنبياءِ جميعًا كما أخبرَ بذلك الصادقُ المصدوقُ فقالَ: (إنَّ ممّا أدركَ الناسُ منْ كلامِ النبوةِ: إذا لمْ تستحْيِ فافعلْ مَا شئت)، أخرجَه البخاريّ.

معاشرَ الأكارم:

ولمّا كانتْ هذه الأمةُ خيرَ أمةٍ أُخرجتْ للناسِ؛ فإنَّها قدْ بلغتْ في الحياءِ أعلى الرتب، وقدْ كانَ نبيُنا صلى الله عليه وسلم إمامًا في هذا الخُلقِ فعنْ أبي سعيدٍ الخدري قال: «كانَ النبيُّ صلّى اللهُ عليهِ وسلم أشدُّ حياءً منَ العذراءِ في خدرِها، فإذَا رأَى شيئًا يكرهُهُ عرفنْاه في وجهِه»، أخرجَه البخاري، فليسَ احمرارُ الوجهِ من الحياءِ بعيبٍ ولا مذمةٍ في الرجال، بل هوَ منْ مكاملِ المروءةِ والخلق.

وقدْ ورثَ الصحابةُ الكرام، هذا الخلق منْ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم، فهَذا الصديقُ السابقُ إلى كلِّ مكرمةٍ يقولُ رضيَ اللهُ عنه: (يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ، فَوَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لَأَظَلُّ حِينَ أَذْهَبُ إِلَى الْغَائِطِ فِي الْفَضَاءِ مُتَقَنِّعًا بِثَوْبِي اسْتِحْيَاءً مِنْ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ).

وقدْ بلغَ ذُو النورينِ عثمانُ رضيَ اللهُ عنه القدحَ المعلَّى في هذا الخلق، فكانتْ تستحي منه الملائكة، قالَ عنه صلى الله عليه وسلم: «ألَا أستحي منْ رجلٍ تستحي منه الملائكة»؟!

وهذا أبو الحسن أميرُ المؤمنينَ عليُّ رضيَ اللهُ تعالى عنه صهرُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ عن نفسِه: (كنتُ رجلًا مَذَّاءً فكنتُ أستحي أنْ أسألَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لمكانِ ابنتِه، فأمرتُ المقدادَ فسألَه، فقال: يغسلُ ذكَرَه ويتوضَّأ).

أيها المؤمنون:

وكيفَ لَا يتسابقُ هؤلاءِ الكوكبة المختارة لصحبةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في خلقٍ هوَ أَمارةُ الإيمان، وبرهانُ حياةِ القلب، فكلَّما كانَ القلبُ أحيى، كانَ تامَ الحياء، وكلما ضعفَتْ حياةُ القلبِ ضعفَ الحياء!

ولهذا كان ذهابُ الحياءِ من أعظمِ العقوبات، ولقدْ قالتِ العلماءُ قديمًا: (ما عاقبَ اللهُ قلبًا بأشدَّ منْ أنْ يَسلبَ منه الحياء).

عباد الله!

وأعظمُ الحياء: الحياءُ منَ اللهِ تعالى، ولقدْ جاءَ في جامعِ الترمذيِّ بسندٍ حسنٍ عنِ النبيِّ صلّى اللهُ عليه وسلم أنّه قال: «استحيُوا منَ اللهِ حقَّ الحياء» قلنا: يا رسولَ اللهِ إنّا نستحيي والحمدُ لله، قال: «ليسَ ذاك، ولكنَّ الاستحياءَ منَ اللهِ حقَّ الحياءِ أنْ تحفظَ الرأسَ وما وَعَى، والبَطْنَ ومَا حَوَى، ولْتَذْكُرِ الموتَ والبِلَى، ومنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِيْنَةَ الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ اسْتَحْيَا مِنَ اللهِ حقَّ الحَيَاء».

                                      إِذَا لَمْ تَخْشَ عَاقِبَــــــةَ الّليَالِي ***وَلَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا تَشَاءُ

                                     فَلَا وَاللهِ مَا فِي العَيْشِ خَيْرٌ ***وَلاَ الدُّنْيا إِذَا ذَهَبَ الحَيَاءُ

                                     يَعِيشُ المَرْءُ مَا اسْتَحْيَا بخيرٍ***وَيَبْقَى العُودُ مَا بَقِيَ اللحَاءُ!

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم..

                                                               الخطبة الثانية:

أما بعد:

فقدْ أخبرَ ابنُ عمرٍ رضيَ اللهُ عنهُما قال: مرَّ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ على رجل، وهوَ يعاتبُ أخاه في الحياء، يقول: إنكَ لتستحْيِي، حتّى كأنه يقول: قدْ أضرَّ بك، فقالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم: «دعْه، فإنَّ الحياءَ منَ الإيمان» رواه البخاري.

وإنَّنا اليومَ لنقولُ هذا لأهلِ الإيمانِ في زمنٍ انتكستْ فيهِ الفطرة، وقُلِبَت فيهِ المفاهيم، فإذا الحياءُ ضعفُ شخصية، وخورٌ وجبنٌ عندَ بعضِهم، واللهُ المستعان.

عبادَ الله!

 وَإذا كانَ الحياءُ في الرجلِ واجبًا فإنه في المرأةِ أوجب، وإذا كانَ في الرجلِ كمالًا فإنه في المرأةِ جمالٌ؛ ولهذا فإنه ينبغي على الآباء أنْ يغرسُوا في بُنياتِهم أنّ الحياءَ زينةُ المرأة، وأن سترَ الظاهرِ نابعٌ عنْ جمالِ الباطن، فينبغي لكلِ أبٍ يرومُ أنْ تكونَ ابنتُه أملًا له أنْ يَسقيَها بماءِ الحياء، ذلكَ المنبعُ الذي ربّى به صلى الله عليه وسلم بضعتَه فاطمةَ الزهراء، وتربتْ عليه ابنتا صاحبِ مدين، كما في قصةِ موسى عليه السلام.

أيها الآباء:

بناتُكم أمانةٌ عندكم، وحشمتُهن هو ذكرٌ لكم، وانسلاخُهن من الحياءِ خزيٌ لك قبلَ أنْ يكونَ خزيًا لها، وإذَا كانتْ طرائقُ التربيةِ الحديثةِ تنصُ على التربيةِ بالحب، فلقّنْها أنّ أعظمَ البرِ هوَ حياؤها، وعلّمْها أنَّ شرخَ الحياءِ يمتدُّ خزيُه للآباءِ والأجداد، والتربيةُ بالقيمِ هو الطريقُ الآمنُ لتربيةِ النفس، وهو جهادٌ ومجاهدةٌ والوليُ الصالحُ يدركُ أنَّ الأجرَ على قدرِ المشقة.

معاشر الأولياء:

علمُوا بناتَكم أنَّ العفةَ ليسَ حاجبًا لهن عن الزواج، بلْ جالبٌ للرزق: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}، حدثوهن عن جوائز الحياء، وأنه به سبقت مريم نساء العالمين، فذُكرت في سياقِ المصطفين الأخيار: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ}.

 وبالحياءِ رُفِعَ ذكرُ عائشةَ رضي الله عنهما قرآنًا يُتلى إلى يومِ الدين، وما أحوجَنا في زمنٍ يُمَجّدُ فيه الانحلال، ويَسوّقُ التمردُ على القيمِ في واقعِ فتياتِنا اليوم؛ إلى إحياءِ ذكرِ الصالحات، وتاريخِ الماجدات، فبوصلةُ القدوةِ عندَ بعضِ فتياتنا تائهة وللأسف، تحتاجُ إلى إصلاح وتذكير.

أيها الأولياء:

وأنجعُ السبلِ في حصانةِ بناتِنا بالحياء: ربطُهن بكتابِ اللهِ وتعلمِه وتعليمِه، فتلكَ رياضُ الجنة، ومناراتُ الهدى، ومدرسةُ الأنصارِ التي وصفتْها عائشةُ رضيَ اللهُ عنهما بقولها: "وَإِنِّي وَالله مَا رَأَيْتُ أفضلَ من نسَاءِ الْأَنْصَارِ أَشدَّ تَصْدِيقًا لكتابِ اللهِ وَلَا إِيمَانًا بالتنزيل، لقد أُنزِلت سُورَة النُّور {وَليَضْرِبن بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبهنَّ} انْقَلبَ رِجَالُهنَّ إلَيْهِنَّ يَتلون عَلَيْهِنَّ مَا أنزل إلَيْهِنَّ فِيهَا وَيَتْلُو الرجل على امْرَأَتِه وبنتِه وَأُخْتِه وعَلى ذِي قرَابَتِه فَمَا مِنْهُنَّ امْرَأَةٌ إِلَّا قَامَت إِلَى مرْطِهَا فَاعْتَجَرَتْ بِهِ تَصْدِيقًا وإيماناً بِمَا أنزلَ اللهُ فِي كِتَابِه".

أيها الأولياء!

                                    رَبُّوا البناتِ على الفضيلةِ إنها ***في الموقفَينِ لهنّ خــــــيرُ وَثاقِ

                                    وعليكُــــــــم أن تستبينَ بناتُكم***نورَ الهدى وعلى الحياءِ الباقي

                                   الأمُ مدرســـــــــــــةٌ إذا أعددَتـــها***أعددتَ شعبًا طيّبَ الأعراقِ

اللهم اهدِنا واهدِ بنا ويسر الهدى لنا، واهدنا  لأحسنِ الأخلاقِ لا يهدِ  لأحسنِها إلا أنت، واصرفْ عنا سيئَها لا يصرفْ عنا سيئها إلا أنت.

اللَّهُمَّ إِنِّا نعوذ بِكَ مِنْ مُنْكَرَاتِ الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ وَالْأَهْوَاء يا رب العالمين.

المرفقات

الحياء-8

الحياء-8

الحياء-9

الحياء-9

المشاهدات 1755 | التعليقات 0