"وإذا قلتم فاعدلوا"

أيها المؤمنون: بعث النبي ﷺ عبد الله بن رواحة على أهل خيبر يخرص عليهم ثمارهم وزروعهم، ويقدر ما على النخل من تمر لأجل تحديد مقدار الزكاة، فأرادوا أن يرشوه ليرفق بهم، فقال: "والله لقد جئتكم من أحب الخلق إلي، ولأنتم أبغض إلي من أعدادكم من القردة والخنازير، (لأنهم من يهود بني النظير) وما يحملني حبي إياه على ألا أعدل فيكم، فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض " رواه أحمد.

إن العدل والإنصاف عباد الله سمة المسلم في كل أحيانه، وجميع أوقاته، ومع كل أحد، وهو مفتاح الحق، وجامع الكلمة، والمؤلف بين القلوب، والله سبحانه وتعالى بعث الرسل وأنزل الكتب ليقوم الناس بالقسط.  

روى البخاري في صحيحه عن عمار بن ياسر -رضي الله عنهما- قال: قَالَ عَمَّارٌ: "ثَلَاثٌ مَنْ جَمَعَهُنَّ فَقَدْ جَمَعَ الْإِيمَانَ؛ الْإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ، وَبَذْلُ السَّلَامِ لِلْعَالَمِ، وَالْإِنْفَاقُ مِنْ الْإِقْتَارِ" 

ولذا كان خلق الإنصاف مطلبًا ودعاءً للنبي ﷺ، فكان من دعائه "أَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَكَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا"

فالعدل والإنصاف أيها المؤمنون يكون في أقوال اللسان، ويكون بالأفعال والممارسات، وهو على القريب والبعيد، والله سبحانه وتعالى أمر بالعدل لكل أحد، في كل وقت، وفي كل حال.

ومنهج القرآن الكريم العدل في الأحكام والأوصاف، فعندما ذكر الله سبحانه أهل الكتاب وصفهم بقوله (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً) وهذا من كمال عدل الله سبحانه وتعالى، فإنه لما ذكر أهل الكتاب صنَّفهم، فجعل منهم قسماً خيّرا، وقسماً آخر هو ذو شر.

وقد أمرنا تعالى بالعدل في القول، كما في قوله تعالى (وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى)، قل الحق ولو كان مرا، وأشهد بما رأته عينك ولو كان على أحب الناس إليك، بل ولو على نفسك.

 واليوم وأنت ترى في البعض من إذا غضب من أخيه بسبب تافه، أو من أجل عرض زائل من أعراض الدنيا الفانية؛ فيُطلق فيه السباب والشتائم، واصفًا إياه بأبشع الأوصاف وأحط النعوت، لا يرقب فيه عدلاً ولا إنصافًا.

وإن من الظلم الذي قد يحدث بين الناس، عدم إنصاف بعضهم البعض عند الحكم؛ فالمتنازعان قلَّما يذكر أحدهما محاسن خصمه، بل تكون المعائب متصدرة لأحاديث كلا الطرفين.

إن تدخُّل الهوى والميل القلبي أثناء الحكم على الناس أو تقييمهم، أو إبداء الآراء حولهم لَمِن أشد الأشياء التي تُفسد الحكم وتجانب الإنصاف، وتخرجه عن نزاهته وحيادته.

 اشْهَدِ بالْحَقَّ وكن منصفا ، وتجرد من الهوى، وانبذ الحب والعطف والشفقة حال قولك وحكمك وتقييمك، ولا يحملك الطمع عما في أيدي الناس على عدم الصدق، ولا تكن القرابات والصدقات والمجاملات سببا في الحيف والجور والظلم، بل ولا تأخذنّك الشفقة والرحمة على الضعيف والفقير وذا الحاجة  في أن تقول وتشهد بغير الحق، وتخلق بما أمرك الله في كتابه، واستمع لهذه الآية العظيمة ( يا أيها الذين ءامنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما  فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا)  

 يأمر سبحانه في هذه الآية عباده المؤمنين بالتخلق بهذا الخلق الكريم، بالإنصاف واتباع العدل والحق، ولو كان على نفسك، وَلَوْ عَادَ ضَرَرُهَا عَلَيْكَ، (ولو على أنفسكم أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ) وَإِنْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ عَلَى وَالِدَيْكَ وَقَرَابَتِكَ، فَلَا تُراعهم فِيهَا، بَلِ اشْهَدْ بِالْحَقِّ وَإِنَّ عَادَ ضَرَرُهَا عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ الْحَقَّ حَاكِمٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ. ولا يعني الإنصاف والعدل في قول الحق على الآخرين لا يعني سوء الأدب ومجانبة الحكمة، إنما ذلك إذا دعت الضرورة للحكم فقول الحق مقدم على القرابات والصداقات.

وربنا سبحانه يأمرنا بالعدل عتى مع العدو، ونهانا من أن تحملنا العداوة على الظلم والبهتان، فيقول الله تَعَالَى (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَنْ لا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى).

منهج قرآني عظيم، ينزه المجتمع من الظلم والفساد، ويجانبه الحيف والجور، ويسمو بأخلاقه، ويرتقي بأهله، إذا هم انقادوا وامتثلوا تلك القيم والأخلاق.

روى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ: "إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل -وكلتا يديه يمين- الذين يعدلون في حكمهم وأهلهم وما ولّوا "

 أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).

المشاهدات 622 | التعليقات 0