(وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه)

راكان المغربي
1443/04/13 - 2021/11/18 08:16AM

أما بعد
فيا عباد الله:
لقد جاءكم نبيكم صلى الله عليه وسلم بالبينات والهدى، وترككم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
آتاه اللهُ سبحانه الكتابَ والحكمة، وبعثه بجوامعِ الكلم، ففي كلماتِه اليسيرة، تجد النفعَ العظيم، والعلمَ الغزير.

واليوم نقف مع أحد جوامعِ كلمه صلى الله عليه وسلم، والتي رسم بها المنهجَ الواضح، والطريقَ القويم، بأحسنِ عبارة، وأبلغِ مقالٍ يقوله إنسان. فاسمعوا بآذناكم وافقهوا بقلوبكم قولَ نبيكم صلى الله عليه وسلم.

عن النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ الأَنْصَارِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: (ضرَبَ اللهُ مَثلًا صِراطًا مُستَقيمًا، وعلى جَنَبَتَيِ الصِّراطِ سُورانِ فيهما أبوابٌ مُفَتَّحةٌ، وعلى الأبوابِ سُتُورٌ مُرْخاةٌ، وعلى بابِ الصِّراطِ داعٍ يقولُ: يا أيُّها النَّاسُ، ادخُلوا الصِّراطَ جميعًا ولا تَعْوَجُّوا، وداعٍ يَدْعو مِن فوقِ الصِّراطِ، فإذا أراد الإنسانُ أنْ يَفتَحَ شيئًا مِن تلكَ الأبوابِ، قال: وَيْحَكَ! لا تَفْتَحْهُ؛ فإنَّكَ إنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ، فالصِّراطُ الإسلامُ، والسُّورانِ حُدودُ اللهِ، والأبوابُ المُفَتَّحةُ مَحارِمُ اللهِ، وذلك الدَّاعي على رأسِ الصِّراطِ كتابُ اللهِ، والدَّاعي مِن فوقِ الصِّراطِ واعِظُ اللهِ في قَلبِ كلِّ مسلمٍ)

هذا مثلٌ ضربه الله للصراط المستقيم، الذي يسير عليه الإنسان فيصل به إلى الجنان، أو يتنكب عنه فتتخطفه الشياطين، فيحرفونه عن الطريق، ويضلونه عن الهدى.
عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه سئل عن الصراط فقال : (تركنا محمد صلى الله عليه وسلم في أدناه وطرفه في الجنة)

وأولُ أوصاف هذا الصراط أنه مستقيم، من يسير عليه لا يتشعب ولا يراوغ، هدفه واضح، وخطاه ثابتة، حتى يصل إلى الجنة. فمن سار على الصراط المستقيم الذي هو الإسلام، فطبق الأوامر، واجتنب النواهي، فقد سلك الطريق المستقيم الذي هو أقصر السبل وأسرعها إلى الجنان. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "الاستقامة أن تستقيم على الأمر والنهي ولا تروغَ روغانَ الثعالب".

ومن أوصاف هذا الصراط أنه طريقٌ واحدٌ لا يتعدد، وما سواه من الطرق كثيرٌ ومتشعب. فعن ابن مسعود رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (خطَّ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ خطًّا بيدِهِ ، ثمَّ قالَ : هذا سبيلُ اللَّهِ مستقيمًا . وخطَّ علَى يمينِهِ وشمالِهِ، ثمَّ قالَ : هذِهِ السُّبلُ ليسَ منها سبيلٌ إلَّا عليهِ شيطانٌ يدعو إليهِ . ثمَّ قرأَ : وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ).

فالصراط الذي هو الإسلام هو المنهج الحق الذي لا يوصل إلى الله إلا به، ولا تنال الجنة إلا به. وأما طرق الضلالة فما أكثرها، وما أشد تنوعها، وعلى كل طريق منها شيطان يدعو إليها، والإنسان قد ابتلاه ربه بأن يسمع تلك الدعوات، فإن استجاب لها فقد ظفر به الشيطان، وإن لم يستجب له فثم دعوة شيطانية أخرى تنتظره، وهكذا حتى يصل إلى ربه. (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ)
قال ابن كثير : " المراد جميع طرق الخير والشر , فالخير يصدهم عنه والشر يحببهم له". وقال ابن مسعود : "إن هذا الصراط محتضر , تحضره الشياطين ينادون : يا عبدالله هذا الطريق , هلم إلى الطريق , فاعتصموا بحبل الله فإن حبل الله هو القرآن".

ومن أوصاف الصراط أنه طريق محدود بحدود تعين على التركيز وعدم التشتت، فمن دخل في الإسلام كافة، سهل عليه الوصول سريعا، ومن أكثر التشعبَ تشتّتَ وتفرقت به الطرق وأبطأ الوصول إن وصل، قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (208) فَإِن زَلَلْتُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)

وهذه الحدود ليست ضيقة، بل هي متباعدة في طريق واسع يسع كل ما أذن به الشرع، قال جابر رضي الله عنه : (الصراط المستقيم هو الإسلام وهو أوسع مما بين السماء والأرض).

ومن أوصاف الصراط أيضا، أن الأبواب التي تُخرجُ منه مفتحة، ولا يمكن إحكام إغلاقها، فهي مغطاةٌ بمجردِ ستورٍ مرخاة. فلا يمكنك أبدا يا من سلكت الصراط أن تُحكم إغلاقَ أبوابِ الفتن، فأنت معرضٌ لها ما بقيت فيه، حتى تصل إلى الجنة، (الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ).

وتلك الستور تجعل الخروج منه سهلا، فبمجردِ رفعك للستار تستطيع الخروجَ منه بسهولة. كما أن الرجوع إليه سهل وميسر، فما هو إلا أن تستغفرَ ربك وتتوبَ إليه فترجعَ إليه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنَّ إبليسَ قال لرَبِّه: بعزَّتِكَ وجَلالِكَ لاأَبرَحُ أُغْوي بَني آدَمَ ما دامَتِ الأرواحُ فيهم، فقال له اللهُ: فبِعِزَّتي وجَلالي لا أَبرَحُ أَغفِرُ لهم ما استَغْفَروني).
ولكن لتعلم أن كثرة الخروج والدخول وإن حصل الإنسان على مغفرة الله فليعلم أنه بذلك يبطئ عن السباق، ويسبقه السابقون إلى الجنان. ولا يغتر الإنسان بذلك فيبتعدَ ويألفَ المنكر، فإنه كلما ابتعد من الباب كلما صعب عليه الرجوع وطال عليه الطريق وتمكن منه الشيطان.

وإن من رحمة الله وهدايته لنا، أن لم يتركنا وحدنا نتعارك مع الشياطين في هذا الصراط، فقد جعل فيه ما يثبتنا عليه، ويعيننا على عدم التنكب عنه.

فالمثبت الأول هو القرآن الذي ينادي كما جاء في الحديث ( يا أيُّها النَّاسُ، ادخُلوا الصِّراطَ جميعًا ولا تَعْوَجُّوا)، فالقرآن هو أعظم ما يثبت الإنسان على الصراط، فهو يضيء بنوره، فيبدد كل ظلمة، ويمحو كل ضلالة (قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)، وقال سبحانه: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ). وهو حبل الله الذي من تمسك به لم تضره أمواج الفتن، ولم تهزه أعاصير الباطل، فاستمسكوا بحبل الله واعتصموا به.

والمثبت الثاني هو واعظ الله في قلب كل مسلم، الذي ينادي كلما أراد الإنسان الخروج إلى أبواب المحرمات (وَيْحَكَ! لا تَفْتَحْهُ؛ فإنَّكَ إنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ)، وهذا الواعظ يجده المسلم السائر على الصراط، فيسمع صوته ويزعجه نداءه كلما أراد الوقوع في المعصية، فتَحيكُه نفسُه، ويؤنبه ضميرُه، وتنهاه فطرتُه السليمة. والعاقل هو الذي يستجيب لنداء الواعظ، ولا يقتحمُ الباب فيخرجَ من نور الإسلام إلى ظلمات الجهل والضلالة. فإنه يوشك إن ولج باب الحرام ثم لم يرجع أن لا يسمع هذا الواعظ فيموت قلبه، ويختفي ضميره.

ولتعلم يا أخي المسلم أنه بقدر سرعتك في صراط الإسلام في الدنيا، تكون سرعتك في الصراط المضروب على جسر جهنم في الآخرة، قال ابن رجب : "ومن كان في الدنيا قد خرج عن الاستقامة على الصراط ففتح أبواب المحارم في ستور الصراط يمنةً ويسرةً ودخل إليها –سواء كانت المحارم من الشهوات أو الشبهات- أخذته الكلاليبُ التي على ذلك الصراط يمنةً ويسرةً بحَسَب ما فتح في الدنيا من أبواب المحارم ودخل إليها فمنهم المكدوس في نار جهنم ومنهم من تَخدِشُه الكلاليب وينجو".
(وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)
بارك الله لي ولكم...

الخطبة الثانية:
أما بعد:
فإن الاستقامة على صراط الإسلام هي أعظم نعمة ينعم الله بها على عباده، ولذلك أمرنا الله أن نكرر سؤالها في كل صلاة (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ). أن تسلك صراط من أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، فهذه هي الدرجةُ العليا، والمقامُ الرفيع، والسعادةُ الكاملةُ في الدنيا والآخرة (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
عن سفيان الثقفي قال : قلت: يا رسول الله! قل في الإسلام قولًا لا أسأل أحدًا غيرك، قال: (قل آمنت بالله ثم استقم).
فاسلك طريق الله ولا تتردد، واهجر طرق الشياطين ولا تلتفت، وإن أكثرت الخروج فأدمن الرجوع، ثم أبشر بأعظم البشرى:
(إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ)
اللهم اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين

المرفقات

1637223387_(وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه).docx

1637223400_(وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه).pdf

المشاهدات 1735 | التعليقات 0