وَأَقْبَلَ مَوْسِمٌ لِلْمُتَنَافِسِيْنَ
عبدالمحسن بن محمد العامر
الحمدُ للهِ الذي جعلَ لنا مواسمَ نتزوّدُ فيها مِنَ الخيراتِ، وجعلَها ميداناً يتسابقُ فيه الموفَّقُونَ للطاعاتِ، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له شرعَ لنا أيسرَ الشرائعِ والعباداتِ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه ختمَ الله به الرسالات، صلى اللهُ وسلّم عليه وعلى آله وصحبِه، ومَنْ تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الصعقِ والمماتِ..
أمّا بعدُ فيا عبادَ اللهِ: أوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ، فلا يعْمُرُ الأعمارَ إلا التقوى، ولا يغنمُ في الدنيا إلا أهلُ التقوى، ولا يأمَنُ في الآخرةِ إلا أهلُ التقوى "أَلَاۤ إِنَّ أَوۡلِیَاۤءَ ٱللَّهِ لَا خَوۡفٌ عَلَیۡهِمۡ وَلَا هُمۡ یَحۡزَنُونَ * ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَكَانُوا۟ یَتَّقُونَ * لَهُمُ ٱلۡبُشۡرَىٰ فِی ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا وَفِی ٱلۡـَٔاخِرَةِۚ لَا تَبۡدِیلَ لِكَلِمَـٰتِ ٱللَّهِۚ ذَ ٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِیمُ"
معاشرَ المؤمنينَ: دَنَتْ أيامٌ فاضلاتٌ، وأقبلتْ عشرٌ عظيماتٌ، فيها مَيْدَانٌ للمتنافسينَ، وسِبَاقٌ للعاملينَ، يفرحُ بها العُبّادُ لأنّها تجارتُهم الرّابحةُ، ومكاسِبُهم فيها جليَّةٌ واضحةٌ، ومَساعيهُم فيها موفّقَةٌ ناجحةٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "مَا الْعَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ. قَالُوا: وَلا الْجِهَادُ، قَالَ: وَلا الْجِهَادُ، إِلا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ" رواه البخاريُّ، وفي روايَةٍ: "قالوا: ولا الجهادُ في سبيلِ اللهِ؟ قالَ: ولا الجهادُ في سبيلِ اللهِ، إلاّ مَنْ عَقَرَ جَوَادَهُ وأُهْرِيْقَ دَمُهُ"
هذا فضلُ اللهِ، وعطاؤهُ، وهذا جودُه وسخاؤهُ، فلا نستكثرِ الفضلَ العظيمَ مِنَ اللهِ تعالى على العَملِ اليسيرِ، فقد قرّرَ العلماءُ أنَّ الْفَضَائِلَ لَا تُدْرَكُ دَائِمًا بِالْقِيَاسِ؛ بَلْ هِيَ بِفَضْلِ اللَّهِ تعالى.
وأعظمُ ما يعملُه المُسلِمُ في هذه العشرِ؛ حِجُّ بيتِ اللهِ الحرامِ، فالعشرُ عشْرُه، والوقتُ وقتُه، قالَ ابن القيّمِ رحمه اللهُ: (قالوا: إنَّ أفضلَ العبادةِ؛ العملُ على مرضاةِ الربِّ في كلِّ وقتٍ بما هو مُقتضى ذلك الوقتِ ووظيفتِه(
وفي فَضْلِ الحَجِّ فرضِهِ ونَفْلِه؛ قالَ صلى اللهُ عليه وسلّمَ: " مَن حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ، ولَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَومِ ولَدَتْهُ أُمُّهُ"
وقالَ عليه الصلاةُ والسلامُ: "العُمْرَةُ إلى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِما بيْنَهُمَا، والحَجُّ المَبْرُورُ ليسَ له جَزَاءٌ إلَّا الجَنَّةُ" رواهما البخاريُّ
ومَنْ لم يتيسّر له الحَجُّ فأمَامَه عباداتٌ عظيمةٌ، تتأكّدُ في هذه العشرِ، وهي عباداتٌ فاضلةٌ في كلِّ أيامِ السنَّةِ، وفضيلتها تتأكدُ وتعْظُمُ في هذه العشرِ المباركةِ، فصيامُ أيّامِها، وقيامُ ليالِيها؛ مستحبٌّ؛ فَعَلَه السلفُ.
وكثرةُ ذِكْرِ اللهِ مِنْ آكدِ العملِ فيها، قالَ ابنُ رجبٍ الحنبليُّ: وأمّا استحبابُ الإكثارِ مِنْ الذِّكرِ فيها؛ فقدْ دلَّ عليهِ قولُ اللهِ عزّ وجلّ: "وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ" فإنَّ الأيامَ المعلوماتِ هي أيامُ العَشْرِ عند جمهورِ العلماءِ، ورَوَى البخاريُّ في صحِيحِه فقالَ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ يَخْرُجَانِ إِلَى السُّوقِ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ يُكَبِّرَانِ وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِمَا، ورَوَى أيضا فقالَ: وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُكَبِّرُ فِي قُبَّتِهِ بِمِنًى، فَيَسْمَعُهُ أَهْلُ الْمَسْجِدِ، فَيُكَبِّرُونَ وَيُكَبِّرُ أَهْلُ اْلأَسْوَاقِ، حَتَّى تَرْتَجَّ مِنًى تَكْبِيرًا. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُكَبِّرُ بِمِنًى تِلْكَ اْلأَيَّامَ، وَخَلْفَ الصَّلَوَاتِ، وَعَلَى فِرَاشِهِ، وَفِي فُسْطَاطِهِ وَمَجْلِسِهِ وَمَمْشَاهُ تِلْكَ اْلأَيَّامَ جَمِيعًا، وَكَانَتْ مَيْمُونَةُ تُكَبِّرُ يَوْمَ النَّحْرِ، وَكُنَّ النِّسَاءُ يُكَبِّرْنَ خَلْفَ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَيَالِيَ التَّشْرِيقِ مَعَ الرِّجَالِ فِي الْمَسْجِدِ.
وحريٌّ بِنَا نَحْنُ المُسْلمين أنْ نُحْييَ هذه السُّنَةَ التي قدْ أُضِيْعَتْ في هذهِ الأزمانِ، وتكادُ تُنسى حتى مِنْ أهلِ الصلاحِ والخيرِ.
فالذِّكرُ سهلٌ يسيرٌ على مَنْ يسّره الله عليه، ووفقه إليه، يستطيعه كلُّ أحدٍ، ولا يمنعُ منه مِهْنَةٌ ولا وَظيْفَةٌ، ولا يَحْتَاجُ جهداً بالبدنِ أو العقلِ، قالَ عليه الصلاةُ والسلامُ عن الذِّكْرِ وعَظِيمِ فضلِهِ وأجرِه: "ألا أنبِّئُكُم بخيرِ أعمالِكُم، وأزكاها عندَ مليكِكُم، وأرفعِها في درجاتِكُم وخيرٌ لَكُم مِن إنفاقِ الذَّهبِ والوَرِقِ، وخيرٌ لَكُم من أن تلقَوا عدوَّكُم فتضرِبوا أعناقَهُم ويضربوا أعناقَكُم؟ قالوا: بلَى، قالَ: ذِكْرُ اللَّهِ تَعالى" قالَ معاذُ بنُ جبلٍ: ما شَيءٌ أنجى مِن عذابِ اللَّهِ من ذِكْرِ اللَّهِ. رواه الترمذيُّ وصححه الألبانيُّ.
ومِنَ الأعمالِ الصالحةِ في هذه العشرِ؛ المحافظةُ على صلاةِ الجماعةِ، والسننِ الرواتبِ، والإكثارِ مِنْ قراءةِ القرآنِ، والزيادةُ في برِّ الوالدينِ، وصلةِ الأرحامِ، والإكثارُ مِنَ الصدقةِ، ومِنْ فِعْلِ المعروفِ في شتّى أنواعِ البرِّ ومجالاتِ الخيرِ.
باركَ اللهُ لي ولكم بالكتابِ والسنّة، ونفعنا بما فيهما من العبرِ والحكمةِ.
أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم إنّه كانَ غفّاراً.
الخطبةُ الثانيةُ:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وأشهدُ أنْ لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له القويُّ المتينُ، وأشهدُ أنَّ محمَّداً عبدُه ورسولُه؛ رسولُ الثقلينِ، صلى اللهُ وسلمَ عليه وعلى آلهِ وصحبه أجمعينَ، ومِنْ تبِعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ..
أمّا بعدُ: فيا عبادَ اللهِ: أوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ تعالى، قالَ تعالى: "الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ"
معاشرَ المؤمنينَ: ومّما يتأكدُ في هذه العشرِ المباركةِ مِنَ الأعمالِ الصالحةِ؛ صومُ يومِ عرفةَ، وذبحُ الأضحيةِ، وعلى مَنْ أرادَ الأضحيةَ الإمساكُ عن الأخذِ مِنْ شعرِه وأظفارِه وبشرتِه مِنْ دخولِ عشرِ ذي الحجّةِ، عملاً بقولِ رسولِ اللهِ صلى اللهُ وسلم، " إذا رَأَيْتُمْ هِلالَ ذِي الحِجَّةِ، وأَرادَ أحَدُكُمْ أنْ يُضَحِّيَ، فَلْيُمْسِكْ عن شَعْرِهِ وأَظْفارِهِ" رواه مسلمٌ.
والإمساكُ عن ذلكَ مِنَ العملِ الصالحِ الذي يَحْتَسِبُه المسلمُ ويتعبّدُ للهِ بهِ في هذه العشرِ، ومَنْ لمْ يُرِدِ الأضحيةَ إلَّا في أثناءِ العشرِ؛ فيمسكُ مِنْ حينِ نِيَّته، ولا يَضرُّ ما أخذَ قبلَ ذلك، وكذلك مَنْ أرادَ الأضحيةَ وأخذَ مِنْ شعرِه وظفرِه وبشرتِه متعمِّداً؛ فعليه الاستغفارُ والتّوبةُ، ولا يَمنعُه ذلك مِنْ الأضحيةِ.
وبعدُ عبادَ اللهِ: إنَّها فرصةٌ عظيمةٌ أنْ يُدركَ المسلمُ عَمَلَ مُجاهِدٍ خرجَ بمالِه ونَفْسِهِ في سبيلِ اللهِ؛ فلم يرجع مِنْ مالِه لا قليلٌ ولا كثيرٌ، وأزْهِقتْ نفسُه في سبيلِ اللهِ، يدركُ المسلمَ أجرَ ذلكَ كلَّه ومالُه باقٍ عندَه، وروحُه بينَ جَنْبَيْه حيَّةٌ ترزقُ.
قالَ تعالى: "وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ"
وقالَ جلَّ شأنُه: "وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ"
وقالَ سبحانَه: "سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ"
هذا وصلّوا وسلموا على مَنْ أمركم بالصلاةِ والسلامِ عليه اللهُ حيث يقولُ: "إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا"
المشاهدات 952 | التعليقات 2
الله يبارك فيك شيخ تركي وجزاك الله خيراً
تركي العتيبي
خطبة مباركة
تعديل التعليق