وأظلمت المدينة .. عن وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم
عبدالله اليابس
1437/03/13 - 2015/12/24 12:47PM
وأظلمت المدينة
الحمد لله الذي أكمل لنا الدين وأتمَّ علينا النعمة، وجعل أمتنا ــ والحمد له ــ خير أمة، وبعث فينا رسولاً منا يتلو علينا آياته ويزكينا ويعلمنا الكتاب والحكمة, أحمده على نعمه الجمَّة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تكون لمَنِ اعتصم بها خير عصمة.
وأشهد أنَّ مُحمَّدًا عبده ورسوله أرسله للعالمين رحمة، وفرض عليه بيان ما أنزل إلينا فأوضح لنا كل الأمور المهمَّة، وخصَّه بجوامع الكَلِم فربما جمع أشتات الحكم والعلوم في كلمة أو شطر الكلمة! فصلى الله عليه وعلى آله وأصحابه صلاةً تكون لنا نورًا من كل ظلمة، وسلم تسليمًا.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. ها نحن في السنة الثامنة من الهجرة النبوية, وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل مكة فاتحًا, مطئطًا رأسه تواضعًا لله تعالى, حتى يكاد يلمس ذِقنُه راحلتَه .. صلى الله عليه وسلم, ثم تنزل عليه آيات عظيمة: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً}, فَعَلِم رسول الله صلى الله عليه وسلم اقتراب أجله.
ويعود صلى الله عليه وسلم إلى المدينة, ويمكث برهة من الزمن, حتى أتت السنة الحادية عشرة من الهجرة, ويخرج إلى أحد ذات يوم ويصلي على قتلى أحد بعد مقتلهم بثمان سنين, ثم يعود ويدخل بيت ميمونة أم المؤمنين رضي الله عنها, فتظهر عليه أعراض المرض, ويشتد مرضه حتى أغمي عليه.
ويستدعي رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه فاجتمعن, فقال: إني لا أستطيع أن أدور بينكن, فإن رأيتنَّ أن تأذنَّ لي فأكونَ عند عائشةَ فعلتُنَّ" فأذِنَّ له في ذلك رضي الله عنهنَّ جميعاً، ودخل الحبيب إلى بيت عائشة وهو يتكئ على الفضل بن العباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما من شدة الألم والوجع.
تقول عائشة رضي الله عنها: "ما رأيت أحدًا أشد عليه الوجع من رسول الله صلى الله عليه وسلم" رواه البخاري.
ويشتد الوجع والحمى برسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر, فيقول لأهله: "هريقوا عليَّ من سبع قِرَب لم تُحلل أوكيتهنَّ ــ أي لم تفتح أغطيتها لتكون أبرد ــ لعلي أعهَد إلى الناس" قالت عائشة رضي الله عنها: فأجلسناه في مِخضَب لحفصة ثم طفقنا نصب عليه من تلك القرب حتى طفق يشير بيده أن قد فعلتُنَّ.
وبعد أن برد جسم رسول الله صلى الله عليه وسلم, وسكنت عنه الحمى قليلاً حانت صلاة المغرب .. ويَخْرُجُ لِيُصَلِّيَ بِالْمُسْلِمِينَ صَلَاتَهُ الأَخِيرَةَ، إِنَّهَا آخِرُ صَلَاةٍ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمُسْلِمِينَ، وَآخِرُ آيَاتٍ يسمعها الصحابة بِصَوْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – خرج متوكئاً على أسامة, مرتدياً ثوب قطن قد خالف بين طرفيه, فصلى بالناس.
تقول أُمُّ الْفَضْلِ بِنْتُ الْحَارِثِ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا: (سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِـ"الْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا"، ثُمَّ مَا صَلَّى لَنَا بَعْدَهَا حَتَّى قَبَضَهُ اللهُ).
ثم صعد المنبر وقد أثقل المرض كاهله, وأَثَرُ التعب ظاهر على صوته ومحياه, فلما استقبل الصحابة ورأوه على تلك الهيئة المحزنة.. قال: (إن عبدًا خَيَّرَهُ اللهُ بينَ أن يؤتيَه من زَهرةِ الدنيا ما شاء، وبين ما عِندَه، فاختار ما عِندَه ). فبكى أبو بكرٍ وقال: فَدَيْناكَ بآبائِنا وأمهاتِنا. قال أبو سعيد الخدري: فعَجِبْنا له، وقال الناسُ : انظُروا إلى هذا الشيخِ، يُخْبِرُ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم عن عبدٍ خَيَّرَهُ اللهُ بينَ أن يؤتيَه من زَهرةِ الدنيا وبينَ ما عندَه، وهو يقولُ : فَدَيْناكَ بآبائِنا وأمهاتِنا، فكان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم هو المُخَيَّرَ، وكان أبو بكرٍ هو أعلمَنا به.
ويعود صلى الله عليه وسلم إلى بيت عائشة رضي الله عنها, ويتباشر الناس في المدينة بتحسن صحة النبي صلى الله عليه وسلم فقد حضر صلاة المغرب بعد أن انقطع عن المسجد أيامًا, فلما حضرت صلاة العشاء اجتمع الصحابة ليحضروا الصلاة خلف النبي صلى الله عليه وسلم, وليطمئنوا على صحته, لكن المرض يشتد أكثر على النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – تقول عائشة رضي الله عنها: "ثقُل النبي صلى الله عليه وسلم َفقَالَ: "أَصَلَّى النَّاسُ؟ قُلْنَا: لَا، هُمْ يَنتظِرُونَكَ، قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ", قَالَتْ: فَفَعَلنَا، فَاغتَسَل فَذَهَبَ لِيَنُوءَ ــ أي ليقوم ــ فَأُغمِيَ عَليْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أَصَلَّى النَّاسُ؟ ", قُلْنَا: لَا، هُمْ يَنتظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: "ضَعُوا لِي مَاءً فِي المِخْضَبِ", قالتْ: فَقَعَدَ فاغتَسَل، ثمَّ ذهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغمِيَ عَليْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ: "أَصَلَّى النَّاسُ؟ ", فَقُلْنَا: لَا، هُمْ يَنتظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللهِ.
وَالنَّاسُ عُكُوفٌ فِي الْمَسْجِدِ يَنتظِرُونَ النَّبِيَّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لِصَلَاةِ الْعِشَاءِ الآخِرَةِ، فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى أَبِي بَكْرٍ بِأَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، فَأَتَاهُ الرَّسُولُ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُكَ أَنْ تُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَكَانَ رَجُلًا رَقِيقًا: يَا عُمَرُ، صَلِّ بِالنَّاسِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَنْتَ أَحَقُّ بِذَلِكَ، فَصَلَّى أَبُو بَكْرٍ تِلْكَ الأَيَّامَ.
وَيَرْوِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ بَعْضَ مَا وَقَعَ لَهُمْ فِي تِلْكَ الْفَتْرَةِ مِنْ أَخْبَارِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَقُولُ: (إِنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يُصَلِّي لَهُمْ فِي وَجَعِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ الإِثْنَيْنِ وَهُمْ صُفُوفٌ فِي الصَّلَاةِ, فَكَشَفَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سِتْرَ الْحُجْرَةِ يَنْظُرُ إلَيْنَا وَهُوَ قَائِمٌ كَأَنَّ وَجْهَهُ وَرَقَةُ مُصْحَفٍ، ثُمَّ تَبَسَّمَ يَضْحَكُ، فَهَمَمْنَا أَنْ نَفْتَتِنَ مِنَ الْفَرَحِ بِرُؤْيَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَنَكَصَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى عَقِبَيْهِ لِيَصِلَ الصَّفَّ، وَظَنَّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَارِجٌ إِلَى الصَّلَاةِ, فَكَادَ الْنَّاسُ أَنْ يَضْطَرِبُوا, فَأَشَارَ إِلَيْنَا الْنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنْ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ، وَأَرْخَى الْسِّتْرَ".
ولعل تلك النظرة كانت آخرَ نظرة ينظرها الصحابة إلى حبيبهم صلى الله عليه وسلم, وآخرَ ابتسامة يشاهدونها من رسول الله, ذلك الإنسان الذي يفدونه بنفوسهم ومهجهم, ويتمنى الواحد منهم أن ينشر بالمناشير ولا يصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بشوكة, لكن أجل الله إذا جاء لا يؤخر { إنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}.
ويشتد المرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم شدة عظيمة, وقد روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفث على نفسه في المرض الذي مات فيه بالمعوذات, فلما ثقل كنت أنفثُ عليه بهنَّ, وأمسحُ بيد نفسه لبركتها . فكأنه لم يكن يقوى على القراءة من شدة المرض صلى الله عليه وسلم.
ويدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته فاطمة .. الوحيدة الباقية من ذريته على قيد الحياة, فتدخل عليه, وترى منظره الذي يُقطِّع نياط القلوب, ترى أباها وهو يصارع الحمى والألم, وتدنو منه صلى الله عليه وسلم فيهمس في أذنها بكلمات.. فتبكي رضي الله عنها, ثم يدعوها مرَّة أخرى ويهمس في أذنها بكلمات فتضحك .. فتسألها عائشة رضي الله عنها عن ذلك, فتقول فاطمة: "سارني النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقبض في وجعه الذي توفي فيه فبكيت, ثم سارني فأخبرني أني أول أهل بيته اتبعه فضحكت".
بارك الله لي ولكم بالقرآن والسنة, ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة, قد قلت ما سمعتم, وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ لِلَّـهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ .
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يثقل عليه الكلام مما نزل به, ويدخل عليه عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا وَمَعَهُ سِوَاكٌ يَسْتَنُّ بِهِ، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا: (فَرَأَيْتُهُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَعَرَفْتُ أَنَّهُ يُحِبُّ السِّوَاكَ، فَقُلْتُ: آخُذُهُ لَكَ؟ فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ: أَنْ نَعَمْ، فَتَنَاوَلْتُهُ، فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ، وَقُلْتُ: أُلَيِّنُهُ لَكَ؟ فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ: أَنْ نَعَمْ، فَلَيَّنْتُهُ).
ويدخل أسامة بن زيد رضي الله عنه .. حِب رسول الله وابن حِبه عليه في هذه اللحظات العصيبة, ورسول الله لم يعد يقوى على الكلام, يَقُولُ أُسَامَةُ: (لَمَّا ثَقُلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَبَطْتُ وَهَبَطَ النَّاسُ الْمَدِينَةَ، فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَقَدْ أصْمَتَ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَضَعُ يَدَيْهِ عَلَيَّ وَيَرْفَعُهُمَا فَأَعْرِفُ أَنَّهُ يَدْعُو لِي.
وتبدأ روح النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج, ويبدأ صلى الله عليه وسلم الوصية لأمته بأهم المهمات, فيبدأ بالتوحيد:
روت عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ قَالَا: لَمَّا نَزَلَ بِرَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .. طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً لَهُ عَلَى وَجْهِهِ، فَإِذَا اغْتَمَّ .. كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ، وَهُوَ كَذَلِكَ يَقُولُ: "لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؛ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ" يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا.
وعَنْ أَنسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: كَانَتْ عَامَّةُ وَصِيَّةِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ وَهُوَ يُغَرْغِرُ بِنَفْسِهِ: "الصَّلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ".
وكانت فاطمة رضي الله عنها .. تشاهد هذه المناظر, تشاهد أباها صلى الله عليه وسلم وهو يفارق الحياة أمام عينيها, تشاهده وهو في كرب شديد, فَقَالَتْ رضي الله عنها: وَاكَرْبَ أَبَاهُ! فَقَالَ لَهَا: "لَيْسَ عَلَى أَبِيكِ كَرْبٌ بَعْدَ الْيَوْمِ".
وَيَرْوِي ذَكْوَانُ مَوْلَى عَائِشَةَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا كَانَتْ تَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ، أَوْ عُلْبَةٌ فِيهَا مَاءٌ، فَجَعَلَ يُدْخِلُ يَدَيْهِ فِي الْمَاءِ فَيَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ وَيَقُولُ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ" ثُمَّ نَصَبَ يَدَهُ فَجَعَلَ يَقُولُ: "فِي الرَّفِيقِ الأَعْلَى" حَتَّى قُبِضَ، وَمَالَتْ يَدُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}
تقول عائشة رضي الله عنها: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ صَحِيحٌ يَقُولُ: "إِنَّهُ لَمْ يُقْبَضْ نَبِيٌّ قَطُّ حَتَّى يَرَى مَقْعَدَهُ منَ الْجَنَّةِ، ثُمَّ يُحَيَا أوْ يُخَيَّرَ, فَلَمَّا اشْتَكَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَضَرَهُ الْقَبْضُ وَرَأْسُهُ عَلَى فَخِذِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا .. غُشِيَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَفَاقَ .. شَخَصَ بَصَرُهُ نَحْوَ سَقْفِ الْبَيْتِ ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ؛ فِي الرَّفِيقِ الأَعْلَى", قَالَتْ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا: ,إذًا لَا يَخْتَارُنَا, إِذًا لَا يُجَاوِرُنَا، قَالَتْ: فَعَرَفْتُ أَنَّهُ حَدِيثُهُ الَّذِي كَانَ يُحَدِّثُنَا وَهُوَ صَحِيحٌ.
وَتَصْعَدُ الرُّوحُ الطَّيِّبَةُ إِلَى جِوَارِ رَبِّهَا، فَلَا تَجِدُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا أَطْيَبَ مِنْ رَائِحَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ تُقْبَضُ رُوحُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَتْ: فَبَيْنَمَا رَأْسُهُ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى مَنْكِبَيَّ إِذْ مَالَ رَأْسُهُ نَحْوَ رَأْسِي، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يُرِيدُ مِنْ رَأْسِي حَاجَةً، فَخَرَجَتْ مِنْ فِيهِ نُطْفَةٌ بَارِدَةٌ، فَوَقَعَتْ عَلَى ثُغْرَةِ نَحْرِي، فَاقْشَعَرَّ لَهَا جِلْدِي، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ غُشِيَ عَلَيْهِ، فَسَجَّيْتُهُ ثَوْبًا, فَلَمَّا خَرَجَتْ نَفْسُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .. لَمْ أَجِدْ رِيحًا قَطُّ أَطْيَبَ مِنْهَا.
ولما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بكت فاطمة رضي الله عنها, وقالت: "يَا أَبَتَاهْ، أَجَابَ رَبًّا دَعَاهُ! يَا أَبَتَاهْ، مَنْ جَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ مَأْوَاهْ! يَا أَبَتَاهُ، إِلَى جِبْرِيلَ نَنْعَاهْ".
وَيَأْتِي عُمَرُ وَالمُغِيرَةُ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا لِعِيَادَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَرَيَانهِ مَيْتًا، تَدُلُّ كُلُّ الأَمَارَاتِ عَلَى ذَلِكَ، لكِنَّ عمر رضي الله عنه دَفَعَ تِلْكَ الْفِكْرَةَ، وحاول ألا يصدق ما يراه, حاول إقناع نفسه أن ما يشاهده مجرد إغماء, فيقول: مَا أَشَدَّ غَشْيَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَتَهَامَسَ النَّاسُ بِمَوْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيقول لهم عمر: لَا أَسْمَعَنَّ أَحَدًا يَقُولُ: إِنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ مَاتَ، إِنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَمُتْ، لكِنْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ رَبُّهُ كَمَا أَرْسَلَ إِلَى مُوسَى، فَلَبِثَ عَنْ قَوْمِهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً.
صدمة عظيمة .. جعلت عمر لا يصدق خبر وفاة النبي صلى الله عليه وسلم, مع أنه يراه حقًا ماثلاً أمام عينيه.
يقول سالم بن عبيد رضي الله عنه: فَقَالَ النَّاسُ: (يَا سَالِمُ؛ انْطَلِقْ إِلَى صَاحِبِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَادْعُهُ, قال: فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ أَبْكِي دَهَشًا، فَلَمَّا رَآنِي .. قَالَ لِي: أَقُبِضَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قُلْتُ: إِنَّ عُمَرَ يَقُولُ: لَا أَسْمَعُ أَحَدًا يَذْكُرُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ قُبِضَ إِلَّا ضَرَبْتُهُ بِسَيْفِي هَذَا، فَقَالَ لِي: انْطَلِقْ، فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ فَجَاءَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ حَتَّى نَزَلَ فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَلَمْ يُكَلِّمِ الناسَ حَتَّى دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا وَالنَّاسُ قَدْ دَخَلُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ؛ أَفْرِجُوا لِي، فَأَفْرَجُوا لَهُ فتيَمَّمَ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مُغَشّىً بِثَوْبِ حِبَرَةٍ، فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ حَتَّى أَكَبَّ عَلَيْهِ وَمَسَّهُ ونزلت من عينه دمعة, فَقَالَ: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} ثُمَّ أَكَبَّ عَلَيْهِ فَقَبَّلَهُ وَبَكَى، ثُمَّ قَالَ: إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، مَاتَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فَخَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ وَعُمَرُ يُكَلِّمُ النَّاسَ، فَقَالَ أبو بكر: اجْلِسْ، فَأَبَى عُمَرُ أَنْ يَجْلِسَ، فَقَالَ: اجْلِسْ، فَأَبَى أَنْ يَجْلِسَ، فَتَشَهَّدَ أَبُو بَكْرٍ، فَمَالَ النَّاسُ إِلَيْهِ، وَتَرَكُوا عُمَرَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ: أَيُّهَا النَّاسُ؛ مَنْ كَانَ فِيكُمْ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا .. فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللهَ .. فَإِنَّ اللهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: وَاللهِ؛ لَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- أَنْزَلَهَا حَتَّى تَلَاهَا أَبُو بَكْرٍ رَضيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، فتلَقَّاهَا مِنْهُ النَّاسُ كُلُّهُمْ، فَمَا يُسْمَعُ بَشَرٌ إِلَّا يَتْلُوهَا.
قَالَ عُمَرُ رَضيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ: وَاللهِ؛ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ تَلَاهَا، فَعَقِرْتُ حَتَّى مَا تُقِلُّنِي رِجْلَايَ، وَحَتَّى أَهْوَيْتُ إِلَى الأَرْضِ حِينَ سَمِعْتُهُ تَلَاهَا .. وعَلِمْتُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ مَاتَ.
يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: لما كان اليومُ الذي دخلَ فيهِ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم المدينة أضاءَ منَها كلُّ شيءٍ فلما كان اليومُ الذي ماتَ فيهِ أظْلَمَ منها كل شيء"
وهكذا مات رسول الله صلى الله عليه وسلم, وغادر الدنيا بعد أن بلغ رسالة ربه أتم بلاغ, فصلى الله وسلم عليه, فاللهم ثبتنا على دينه حتى نلقاه, واجمعنا معه في دار كرامتك, واجعلنا بجواره في الجنة, واسقنا من حوضه الشريف شربة هنيئة لا نظمأ بعدها أبدًا يا رب العالمين.
عباد الله .. إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى, وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي, يعظكم لعلكم تذكرون, فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم, واشكروه على نعمه يزدكم, ولذكر الله أكبر, والله يعلم ما تصنعون.
الحمد لله الذي أكمل لنا الدين وأتمَّ علينا النعمة، وجعل أمتنا ــ والحمد له ــ خير أمة، وبعث فينا رسولاً منا يتلو علينا آياته ويزكينا ويعلمنا الكتاب والحكمة, أحمده على نعمه الجمَّة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تكون لمَنِ اعتصم بها خير عصمة.
وأشهد أنَّ مُحمَّدًا عبده ورسوله أرسله للعالمين رحمة، وفرض عليه بيان ما أنزل إلينا فأوضح لنا كل الأمور المهمَّة، وخصَّه بجوامع الكَلِم فربما جمع أشتات الحكم والعلوم في كلمة أو شطر الكلمة! فصلى الله عليه وعلى آله وأصحابه صلاةً تكون لنا نورًا من كل ظلمة، وسلم تسليمًا.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. ها نحن في السنة الثامنة من الهجرة النبوية, وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل مكة فاتحًا, مطئطًا رأسه تواضعًا لله تعالى, حتى يكاد يلمس ذِقنُه راحلتَه .. صلى الله عليه وسلم, ثم تنزل عليه آيات عظيمة: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً}, فَعَلِم رسول الله صلى الله عليه وسلم اقتراب أجله.
ويعود صلى الله عليه وسلم إلى المدينة, ويمكث برهة من الزمن, حتى أتت السنة الحادية عشرة من الهجرة, ويخرج إلى أحد ذات يوم ويصلي على قتلى أحد بعد مقتلهم بثمان سنين, ثم يعود ويدخل بيت ميمونة أم المؤمنين رضي الله عنها, فتظهر عليه أعراض المرض, ويشتد مرضه حتى أغمي عليه.
ويستدعي رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه فاجتمعن, فقال: إني لا أستطيع أن أدور بينكن, فإن رأيتنَّ أن تأذنَّ لي فأكونَ عند عائشةَ فعلتُنَّ" فأذِنَّ له في ذلك رضي الله عنهنَّ جميعاً، ودخل الحبيب إلى بيت عائشة وهو يتكئ على الفضل بن العباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما من شدة الألم والوجع.
تقول عائشة رضي الله عنها: "ما رأيت أحدًا أشد عليه الوجع من رسول الله صلى الله عليه وسلم" رواه البخاري.
ويشتد الوجع والحمى برسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر, فيقول لأهله: "هريقوا عليَّ من سبع قِرَب لم تُحلل أوكيتهنَّ ــ أي لم تفتح أغطيتها لتكون أبرد ــ لعلي أعهَد إلى الناس" قالت عائشة رضي الله عنها: فأجلسناه في مِخضَب لحفصة ثم طفقنا نصب عليه من تلك القرب حتى طفق يشير بيده أن قد فعلتُنَّ.
وبعد أن برد جسم رسول الله صلى الله عليه وسلم, وسكنت عنه الحمى قليلاً حانت صلاة المغرب .. ويَخْرُجُ لِيُصَلِّيَ بِالْمُسْلِمِينَ صَلَاتَهُ الأَخِيرَةَ، إِنَّهَا آخِرُ صَلَاةٍ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمُسْلِمِينَ، وَآخِرُ آيَاتٍ يسمعها الصحابة بِصَوْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – خرج متوكئاً على أسامة, مرتدياً ثوب قطن قد خالف بين طرفيه, فصلى بالناس.
تقول أُمُّ الْفَضْلِ بِنْتُ الْحَارِثِ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا: (سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِـ"الْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا"، ثُمَّ مَا صَلَّى لَنَا بَعْدَهَا حَتَّى قَبَضَهُ اللهُ).
ثم صعد المنبر وقد أثقل المرض كاهله, وأَثَرُ التعب ظاهر على صوته ومحياه, فلما استقبل الصحابة ورأوه على تلك الهيئة المحزنة.. قال: (إن عبدًا خَيَّرَهُ اللهُ بينَ أن يؤتيَه من زَهرةِ الدنيا ما شاء، وبين ما عِندَه، فاختار ما عِندَه ). فبكى أبو بكرٍ وقال: فَدَيْناكَ بآبائِنا وأمهاتِنا. قال أبو سعيد الخدري: فعَجِبْنا له، وقال الناسُ : انظُروا إلى هذا الشيخِ، يُخْبِرُ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم عن عبدٍ خَيَّرَهُ اللهُ بينَ أن يؤتيَه من زَهرةِ الدنيا وبينَ ما عندَه، وهو يقولُ : فَدَيْناكَ بآبائِنا وأمهاتِنا، فكان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم هو المُخَيَّرَ، وكان أبو بكرٍ هو أعلمَنا به.
ويعود صلى الله عليه وسلم إلى بيت عائشة رضي الله عنها, ويتباشر الناس في المدينة بتحسن صحة النبي صلى الله عليه وسلم فقد حضر صلاة المغرب بعد أن انقطع عن المسجد أيامًا, فلما حضرت صلاة العشاء اجتمع الصحابة ليحضروا الصلاة خلف النبي صلى الله عليه وسلم, وليطمئنوا على صحته, لكن المرض يشتد أكثر على النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – تقول عائشة رضي الله عنها: "ثقُل النبي صلى الله عليه وسلم َفقَالَ: "أَصَلَّى النَّاسُ؟ قُلْنَا: لَا، هُمْ يَنتظِرُونَكَ، قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ", قَالَتْ: فَفَعَلنَا، فَاغتَسَل فَذَهَبَ لِيَنُوءَ ــ أي ليقوم ــ فَأُغمِيَ عَليْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أَصَلَّى النَّاسُ؟ ", قُلْنَا: لَا، هُمْ يَنتظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: "ضَعُوا لِي مَاءً فِي المِخْضَبِ", قالتْ: فَقَعَدَ فاغتَسَل، ثمَّ ذهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغمِيَ عَليْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ: "أَصَلَّى النَّاسُ؟ ", فَقُلْنَا: لَا، هُمْ يَنتظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللهِ.
وَالنَّاسُ عُكُوفٌ فِي الْمَسْجِدِ يَنتظِرُونَ النَّبِيَّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لِصَلَاةِ الْعِشَاءِ الآخِرَةِ، فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى أَبِي بَكْرٍ بِأَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، فَأَتَاهُ الرَّسُولُ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُكَ أَنْ تُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَكَانَ رَجُلًا رَقِيقًا: يَا عُمَرُ، صَلِّ بِالنَّاسِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَنْتَ أَحَقُّ بِذَلِكَ، فَصَلَّى أَبُو بَكْرٍ تِلْكَ الأَيَّامَ.
وَيَرْوِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ بَعْضَ مَا وَقَعَ لَهُمْ فِي تِلْكَ الْفَتْرَةِ مِنْ أَخْبَارِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَقُولُ: (إِنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يُصَلِّي لَهُمْ فِي وَجَعِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ الإِثْنَيْنِ وَهُمْ صُفُوفٌ فِي الصَّلَاةِ, فَكَشَفَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سِتْرَ الْحُجْرَةِ يَنْظُرُ إلَيْنَا وَهُوَ قَائِمٌ كَأَنَّ وَجْهَهُ وَرَقَةُ مُصْحَفٍ، ثُمَّ تَبَسَّمَ يَضْحَكُ، فَهَمَمْنَا أَنْ نَفْتَتِنَ مِنَ الْفَرَحِ بِرُؤْيَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَنَكَصَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى عَقِبَيْهِ لِيَصِلَ الصَّفَّ، وَظَنَّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَارِجٌ إِلَى الصَّلَاةِ, فَكَادَ الْنَّاسُ أَنْ يَضْطَرِبُوا, فَأَشَارَ إِلَيْنَا الْنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنْ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ، وَأَرْخَى الْسِّتْرَ".
ولعل تلك النظرة كانت آخرَ نظرة ينظرها الصحابة إلى حبيبهم صلى الله عليه وسلم, وآخرَ ابتسامة يشاهدونها من رسول الله, ذلك الإنسان الذي يفدونه بنفوسهم ومهجهم, ويتمنى الواحد منهم أن ينشر بالمناشير ولا يصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بشوكة, لكن أجل الله إذا جاء لا يؤخر { إنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}.
ويشتد المرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم شدة عظيمة, وقد روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفث على نفسه في المرض الذي مات فيه بالمعوذات, فلما ثقل كنت أنفثُ عليه بهنَّ, وأمسحُ بيد نفسه لبركتها . فكأنه لم يكن يقوى على القراءة من شدة المرض صلى الله عليه وسلم.
ويدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته فاطمة .. الوحيدة الباقية من ذريته على قيد الحياة, فتدخل عليه, وترى منظره الذي يُقطِّع نياط القلوب, ترى أباها وهو يصارع الحمى والألم, وتدنو منه صلى الله عليه وسلم فيهمس في أذنها بكلمات.. فتبكي رضي الله عنها, ثم يدعوها مرَّة أخرى ويهمس في أذنها بكلمات فتضحك .. فتسألها عائشة رضي الله عنها عن ذلك, فتقول فاطمة: "سارني النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقبض في وجعه الذي توفي فيه فبكيت, ثم سارني فأخبرني أني أول أهل بيته اتبعه فضحكت".
بارك الله لي ولكم بالقرآن والسنة, ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة, قد قلت ما سمعتم, وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ لِلَّـهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ .
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يثقل عليه الكلام مما نزل به, ويدخل عليه عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا وَمَعَهُ سِوَاكٌ يَسْتَنُّ بِهِ، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا: (فَرَأَيْتُهُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَعَرَفْتُ أَنَّهُ يُحِبُّ السِّوَاكَ، فَقُلْتُ: آخُذُهُ لَكَ؟ فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ: أَنْ نَعَمْ، فَتَنَاوَلْتُهُ، فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ، وَقُلْتُ: أُلَيِّنُهُ لَكَ؟ فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ: أَنْ نَعَمْ، فَلَيَّنْتُهُ).
ويدخل أسامة بن زيد رضي الله عنه .. حِب رسول الله وابن حِبه عليه في هذه اللحظات العصيبة, ورسول الله لم يعد يقوى على الكلام, يَقُولُ أُسَامَةُ: (لَمَّا ثَقُلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَبَطْتُ وَهَبَطَ النَّاسُ الْمَدِينَةَ، فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَقَدْ أصْمَتَ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَضَعُ يَدَيْهِ عَلَيَّ وَيَرْفَعُهُمَا فَأَعْرِفُ أَنَّهُ يَدْعُو لِي.
وتبدأ روح النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج, ويبدأ صلى الله عليه وسلم الوصية لأمته بأهم المهمات, فيبدأ بالتوحيد:
روت عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ قَالَا: لَمَّا نَزَلَ بِرَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .. طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً لَهُ عَلَى وَجْهِهِ، فَإِذَا اغْتَمَّ .. كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ، وَهُوَ كَذَلِكَ يَقُولُ: "لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؛ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ" يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا.
وعَنْ أَنسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: كَانَتْ عَامَّةُ وَصِيَّةِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ وَهُوَ يُغَرْغِرُ بِنَفْسِهِ: "الصَّلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ".
وكانت فاطمة رضي الله عنها .. تشاهد هذه المناظر, تشاهد أباها صلى الله عليه وسلم وهو يفارق الحياة أمام عينيها, تشاهده وهو في كرب شديد, فَقَالَتْ رضي الله عنها: وَاكَرْبَ أَبَاهُ! فَقَالَ لَهَا: "لَيْسَ عَلَى أَبِيكِ كَرْبٌ بَعْدَ الْيَوْمِ".
وَيَرْوِي ذَكْوَانُ مَوْلَى عَائِشَةَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا كَانَتْ تَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ، أَوْ عُلْبَةٌ فِيهَا مَاءٌ، فَجَعَلَ يُدْخِلُ يَدَيْهِ فِي الْمَاءِ فَيَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ وَيَقُولُ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ" ثُمَّ نَصَبَ يَدَهُ فَجَعَلَ يَقُولُ: "فِي الرَّفِيقِ الأَعْلَى" حَتَّى قُبِضَ، وَمَالَتْ يَدُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}
تقول عائشة رضي الله عنها: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ صَحِيحٌ يَقُولُ: "إِنَّهُ لَمْ يُقْبَضْ نَبِيٌّ قَطُّ حَتَّى يَرَى مَقْعَدَهُ منَ الْجَنَّةِ، ثُمَّ يُحَيَا أوْ يُخَيَّرَ, فَلَمَّا اشْتَكَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَضَرَهُ الْقَبْضُ وَرَأْسُهُ عَلَى فَخِذِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا .. غُشِيَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَفَاقَ .. شَخَصَ بَصَرُهُ نَحْوَ سَقْفِ الْبَيْتِ ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ؛ فِي الرَّفِيقِ الأَعْلَى", قَالَتْ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا: ,إذًا لَا يَخْتَارُنَا, إِذًا لَا يُجَاوِرُنَا، قَالَتْ: فَعَرَفْتُ أَنَّهُ حَدِيثُهُ الَّذِي كَانَ يُحَدِّثُنَا وَهُوَ صَحِيحٌ.
وَتَصْعَدُ الرُّوحُ الطَّيِّبَةُ إِلَى جِوَارِ رَبِّهَا، فَلَا تَجِدُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا أَطْيَبَ مِنْ رَائِحَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ تُقْبَضُ رُوحُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَتْ: فَبَيْنَمَا رَأْسُهُ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى مَنْكِبَيَّ إِذْ مَالَ رَأْسُهُ نَحْوَ رَأْسِي، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يُرِيدُ مِنْ رَأْسِي حَاجَةً، فَخَرَجَتْ مِنْ فِيهِ نُطْفَةٌ بَارِدَةٌ، فَوَقَعَتْ عَلَى ثُغْرَةِ نَحْرِي، فَاقْشَعَرَّ لَهَا جِلْدِي، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ غُشِيَ عَلَيْهِ، فَسَجَّيْتُهُ ثَوْبًا, فَلَمَّا خَرَجَتْ نَفْسُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .. لَمْ أَجِدْ رِيحًا قَطُّ أَطْيَبَ مِنْهَا.
ولما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بكت فاطمة رضي الله عنها, وقالت: "يَا أَبَتَاهْ، أَجَابَ رَبًّا دَعَاهُ! يَا أَبَتَاهْ، مَنْ جَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ مَأْوَاهْ! يَا أَبَتَاهُ، إِلَى جِبْرِيلَ نَنْعَاهْ".
وَيَأْتِي عُمَرُ وَالمُغِيرَةُ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا لِعِيَادَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَرَيَانهِ مَيْتًا، تَدُلُّ كُلُّ الأَمَارَاتِ عَلَى ذَلِكَ، لكِنَّ عمر رضي الله عنه دَفَعَ تِلْكَ الْفِكْرَةَ، وحاول ألا يصدق ما يراه, حاول إقناع نفسه أن ما يشاهده مجرد إغماء, فيقول: مَا أَشَدَّ غَشْيَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَتَهَامَسَ النَّاسُ بِمَوْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيقول لهم عمر: لَا أَسْمَعَنَّ أَحَدًا يَقُولُ: إِنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ مَاتَ، إِنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَمُتْ، لكِنْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ رَبُّهُ كَمَا أَرْسَلَ إِلَى مُوسَى، فَلَبِثَ عَنْ قَوْمِهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً.
صدمة عظيمة .. جعلت عمر لا يصدق خبر وفاة النبي صلى الله عليه وسلم, مع أنه يراه حقًا ماثلاً أمام عينيه.
يقول سالم بن عبيد رضي الله عنه: فَقَالَ النَّاسُ: (يَا سَالِمُ؛ انْطَلِقْ إِلَى صَاحِبِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَادْعُهُ, قال: فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ أَبْكِي دَهَشًا، فَلَمَّا رَآنِي .. قَالَ لِي: أَقُبِضَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قُلْتُ: إِنَّ عُمَرَ يَقُولُ: لَا أَسْمَعُ أَحَدًا يَذْكُرُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ قُبِضَ إِلَّا ضَرَبْتُهُ بِسَيْفِي هَذَا، فَقَالَ لِي: انْطَلِقْ، فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ فَجَاءَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ حَتَّى نَزَلَ فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَلَمْ يُكَلِّمِ الناسَ حَتَّى دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا وَالنَّاسُ قَدْ دَخَلُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ؛ أَفْرِجُوا لِي، فَأَفْرَجُوا لَهُ فتيَمَّمَ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مُغَشّىً بِثَوْبِ حِبَرَةٍ، فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ حَتَّى أَكَبَّ عَلَيْهِ وَمَسَّهُ ونزلت من عينه دمعة, فَقَالَ: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} ثُمَّ أَكَبَّ عَلَيْهِ فَقَبَّلَهُ وَبَكَى، ثُمَّ قَالَ: إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، مَاتَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فَخَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ وَعُمَرُ يُكَلِّمُ النَّاسَ، فَقَالَ أبو بكر: اجْلِسْ، فَأَبَى عُمَرُ أَنْ يَجْلِسَ، فَقَالَ: اجْلِسْ، فَأَبَى أَنْ يَجْلِسَ، فَتَشَهَّدَ أَبُو بَكْرٍ، فَمَالَ النَّاسُ إِلَيْهِ، وَتَرَكُوا عُمَرَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ: أَيُّهَا النَّاسُ؛ مَنْ كَانَ فِيكُمْ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا .. فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللهَ .. فَإِنَّ اللهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: وَاللهِ؛ لَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- أَنْزَلَهَا حَتَّى تَلَاهَا أَبُو بَكْرٍ رَضيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، فتلَقَّاهَا مِنْهُ النَّاسُ كُلُّهُمْ، فَمَا يُسْمَعُ بَشَرٌ إِلَّا يَتْلُوهَا.
قَالَ عُمَرُ رَضيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ: وَاللهِ؛ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ تَلَاهَا، فَعَقِرْتُ حَتَّى مَا تُقِلُّنِي رِجْلَايَ، وَحَتَّى أَهْوَيْتُ إِلَى الأَرْضِ حِينَ سَمِعْتُهُ تَلَاهَا .. وعَلِمْتُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ مَاتَ.
يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: لما كان اليومُ الذي دخلَ فيهِ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم المدينة أضاءَ منَها كلُّ شيءٍ فلما كان اليومُ الذي ماتَ فيهِ أظْلَمَ منها كل شيء"
وهكذا مات رسول الله صلى الله عليه وسلم, وغادر الدنيا بعد أن بلغ رسالة ربه أتم بلاغ, فصلى الله وسلم عليه, فاللهم ثبتنا على دينه حتى نلقاه, واجمعنا معه في دار كرامتك, واجعلنا بجواره في الجنة, واسقنا من حوضه الشريف شربة هنيئة لا نظمأ بعدها أبدًا يا رب العالمين.
عباد الله .. إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى, وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي, يعظكم لعلكم تذكرون, فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم, واشكروه على نعمه يزدكم, ولذكر الله أكبر, والله يعلم ما تصنعون.
المرفقات
وأظلمت المدينة 7-3-1437.docx
وأظلمت المدينة 7-3-1437.docx