(هو بنت الجبل) الإمعة

سامي بن محمد العمر
1441/05/20 - 2020/01/15 20:00PM

هو بنت الجبل

(الإمعة)

إن الحمد لله ...

أما بعد:

(هو بنت الجبل) مثلٌ لمن ينقاد لكل متكلم؛ كالصدى يجيب بين الجبال كلّ ذي صوت بمثل كلامه([1]).

(هو بنت الجبل) حيث لا تفكير في الكلمةِ التي تُعاد، ولا المعنى الذي يراد، ولا المبدأِ الذي يصاد، ولا الخلقِ الذي يباد.

(هو بنت الجبل) يتبع كل ناعق، ويميل مع كل ريح، منهومًا للَّذَّات، سَلِسَ القياد للشهوات، ينقدحُ الشك في قلبه بأول عارضٍ من شبهة؛ لأنه إمعة: كلما سار إنسان بشيء سار معه.

عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تكونوا إمعة، تقولون: إن أحسن الناس أحسنّا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا "([2]).

الإمعة: كما قَالَ اللَّيْث: هُوَ الَّذِي يَقُول لكل أحد أَنا مَعَك، وَقَالَ أَبُو عبيد: أصل الإمعة الرجل لَا رَأْي لَهُ وَلَا عزم فَهُوَ يُتَابع كل أحد عَلَى رَأْيه([3]).

قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه يوصي الكميل بن زياد: "يا كميل، القلوبُ أوعية، فخيرُها أوعاها للخير، احفظْ عنِّي ما أقول: الناسُ ثلاثة؛ فعالمٌ ربَّاني، ومتعلمٌ على سبيل نجاة، وهَمَجٌ رعاعٌ أتباعُ كلِّ ناعق، يميلون مع كلِّ ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركنٍ وثيق"([4]).

فالإمعة إذاً؛ نفس قابلة للتأثر والتحول، ومستجيبة للتغير والتبدل، حين خوت عن المبادئ، وخلت من القناعات.

الإمعة: ضعف في العقل وهشاشة في الدين، وذل في الاتباع، ولهث وراء السراب، حتى ورود الهاوية.

وهاكم مثالا لإمعة قيد إلى الهاوية:

عن ابن عباس قال: كان عقبة بن أبي معيط لا يَقدَم من سفر إلا صنع طعاما فدعا عليه الناس؛ جيرانَه وأهلَ مكة كلَّهم، وكان يكثر مجالسة النبي صلى الله عليه وسلم ويعجبه حديثه ويغلب عليه الشقاء، فقدم ذات يوم من سفره فصنع طعاما ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى طعامه فقال: " ما أنا بالذي آكل طعامك حتى تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فقال: اطعم يا ابن أخي، قال: ما أنا بالذي أفعل حتى تقول. فشهد بذلك، فطعم رسول الله صلى الله عليه وسلم من طعامه، فبلغ ذلك أبيَّ بن خلف وكان خليلا له، فأتاه فقال: صبوت يا عقبة؟. فقال: لا والله ما صبوت ولكن دخل إلي رجل فأبى أن يطعم من طعامي إلا أن أشهد له فاستحييت أن يخرج من بيتي قبل أن يطعم؛ فشهدت له فطعم. فقال: ما أنا بالذي أرضى عنك أبدا حتى تأتيه فتبزق في وجهه وتطأ على عنقه. قال: ففعل به ذلك.

فنزلت هذه الآية: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)} [الفرقان:27-29].

نعم، لقد كان عقبة إمعة وهو يُقاد للهاوية، ولكن: لقد كان أبي بن خلف مثالا لكثير من الدعوات التي تطرح هنا وهناك، وللصيحات التي تقود المرء لموارد الهلاك.

وأشد أنواع الإمعية خطراً؛ الإمعية مع دعاة هدم العقيدة والتوحيد {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ } [البقرة: 170]

وسواء عند الله أن يكون أولئك الدعاة أحباراً أو رهباناً أو سادة وكبراءً أو أصدقاء وقرناء..

{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [التوبة: 31]

{ يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا } [الأحزاب: 66 - 68]

{فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ } [الصافات: 52 - 61]

ومن صور الإمعية الواقعة اليوم: مجاراة الناس في الضلال، واتباع الأكثرية في الانحلال، ومسايرة الواقع على أي حال.

ومن قرأ القرآن وتدبر آياته؛ عَلم عِلم اليقين أن الكثرة لا تدل على الصواب، وأن القلة ليست مما يعاب.. فالله تعالى قد قال:

   {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116]، وقال: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103]، وقال الله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]، وقال: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24].

فعليك أن تستعمل فكرك في استخلاص الحق، وتبصر وتتبصر في كل رعد وبرق، فما كل داعٍ بأهلٍ لأن يستمع له، ولا كل جمعٍ يدل على أن الصواب معه، فأهل النار وهم يعدون أسباب العذاب المهين يقولون: {وكنا نخوض مع الخائضين}

 عن الفضيل بن عياض- رحمه الله- قال: «اتّبع طريق الهدى، ولا يضرّك قلّة السّالكين وإيّاك وطرق الضّلالة ولا تغترّ بكثرة الهالكين».

 

بارك الله لي ولكم..

 

الخطبة الثانية:

أما بعد:

فإن ذمّ الإسلام للمرء الإمعة؛ إنما كان من جهة إهماله للنظر في المآلات، وعدمِ تأمله للعواقب، وإيثارِه الدنيا الفانية على الآخرة الباقية.. حتى إذا جاء أوان البصيرة، وظهر نور الحق، وأبصر الإمعة العاقبة، فستكون له حسرات كحسرات هؤلاء:

{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)} [البقرة:166-167]

وسوف يعلم أيضا: أنه لا يصح إلا الصحيح، ولا يدوم إلا الأصلح ...

"وأن الباقي هو كتاب الله الذي أنزله وتعهد بحفظه، وستذهب ضلالات العصر كما ذهبت من قبلها مئات من الضلالات. ... وأن للباطل جولة، ولكن العاقبة للحق"([5])

فيا عبد الله:

شمِّرْ وكنْ في أمورِ الدينِ مجتهداً *** ولا تكنْ مثلَ عَيرٍ قِيدَ فانقادَا

 اللهم أعز الإسلام والمسلمين ...

([1]) الأمثال لابن سلام (ص: 128)

([2]) الترمذي (2007) وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه

([3]) غريب الحديث لابن الجوزي (1/ 41)

([4]) مفتاح دار السعادة لابن القيم ط عالم الفوائد (1/ 347)

([5]) نور وهداية (ص: 235)

...

المشاهدات 1891 | التعليقات 0