هو الله
علي القرني
الخطبة الأولى: هو الله
معاشر المؤمنين: حديثنا إليكم في هذا اليوم عن عظمة رب الأرض والسماء، وعن حكمة المولى وقوته، عن جبروته، عن سلطانه وملكوته، لاإله إلا هو الرحمن الرحيم {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }1
معاشر المؤمنين: يحدو بي الشوق وأنا أتحدث عن عظمة الرحيم اللطيف، صاحب الأمر والتصريف، إنه الله أعرف المعارف لا يحتاج إلى تعريف، ارتفع ميزانه، وجَمُلَ إحسانه، وكَثُرَ امتنانه.
إلهي: إليك وإلا لا تشد الركائب ومنك وإلا فالمؤمل خائب
وفيك وإلا فالغرام مضيـع وعنك وإلا فالمحدث كاذب
حزبه منصور، وعدوه مدحور، وخصمه مبتور، يسحق الطغاة، ويدمر العتاة، ويمزق من آذاه
عبد الله: أما علمت أنه الله الذي عظم مقامه، وقوي سلطانه، أكبر من كل شيء، ويقدر على كل شيء، ويخلق كل شيء، فلا إله إلا الله والله أكبر، الله أكبر تنسف معاقل المنافقين؛ الله أكبر تهزم جيوش الخائنين؛ الله أكبر ما أشد بطشه بمن عاداه معاشر المؤمنين: لقد فقدت عظمة الله في نفوس بعض المسلمين اليوم، وعظم في نفوسهم قدر قوى الأرض البشرية؛ حين رأوا مُنجزات الحضارة المادية ونتاجها العلمي وهذا التطور السريع، والنمو الكبير في آليات التقدم المادي؛ جعل فئاماً من الخلق يصابون بالانبهار، وتتسرب إلى دواخلهم الرهبة والهلع, وتضطرب نفوسهم, وتهزم عزائمهم، وهذا يحطم المجتمعات, ويزلزل بنيانها, ويحولها إلى مجتمعات حزينة منكسرة، يائسة ضائعة, وحريٌّ بالمسلمين حين تهزهم عظمة البشر استحضار عظمة خالق البشر سبحانه الذي يدبر الامر, يأمر وينهى، يخلق ويرزق، يميت ويحيي، يداول الأيام بين الناس، ويقلب الدول، فيسحب بدولة ويأتي بأخرى. إن تعظيم الله – عز وجل – من أجلِّ العبادات القلبية, وأهم أعمال القلوب التي يتعين ترقيقها وتزكية النفوس بها، لاسيما وأنه ظهر في زماننا ما يخالف تعظيم الله – تعالى – من الاستخفاف والاستهزاء بشعائر الله، والتطاول على الثوابت, والتسفيه والازدراء لدين الله، قال تعالى: {مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً}2. إن الإيمان بالله – عباد الله – مبني على التعظيم والإجلال له – عز وجل – قال تعالى: {تَكَادُ ٱلسَّمَـٰوٰتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ}3، قال المفسرون: "يتشققن من عظمة الله – عز وجل -".ومنزلة التعظيم تابعة للمعرفة, فعلى قدر المعرفة يكون تعظيم الرب – تعالى – في القلب، وأعرف الناس به أشدهم له تعظيماً وإجلالاً, وقد ذم الله – تعالى – من لم يعظمه حق عظمته, ولا عرفه حق معرفته، ولا وصفه حق صفته؛ فقال: {مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً}4، قال المفسرون: "ما لكم لا تعظمون الله حق عظمته". وتعظيم الله وإجلاله لا يتحقق إلا بإثبات الصفات له كما يليق به سبحانه، ولقد كان نبينا يدرك ذلك فيربي أمته على وجوب تعظيم الله ففي حديث5 ابن مسعود – رضي الله عنه – قال: "جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله فقال: يا محمد إنا نجد أن الله يجعل السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، فيقول: أنا الملك، فضحك النبي حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر, ثم قرأ رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}6، وورد من حديث ابن عمر – رضي الله عنهما – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قرأ هذه الآية ذات يوم على المنبر: { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} ورسول الله – – صلى الله عليه وسلم – يقول هكذا بيده ويحركها، يقبلُ بها ويدبر، يمجد الرب نفسه: أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا الملك, أنا العزيز، أنا الكريم، فرجف برسول الله المنبر حتى قلنا: ليخرن به"7. إن الله – تعالى – هو الكريم العظيم الذي هو أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، أجلُّ وأعلى، هو وحده الخالق لهذا العالم، لا يقع شيء في الكون من حركة أو سكون, أو رفعٍ أو خفض, أو عز أو ذل, أو عطاءٍ أو منع؛ إلا بإذنه – سبحانه -، يفعل ما يشاء, ويحكم ما يريد، لا يُمانع ولا يُغالب، ولما قال الأعرابي لرسول الله – صلى الله عليه وسلم -: "فإنا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك"، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((ويحك أتدري ما تقول؟))، وسبّحَ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فما زال يسبح حتى عُرف ذلك في وجوه أصحابه, ثم قال: ((ويحك، أنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه, شأن الله أعظم من ذلك))8. تأمل آيات الله وإعجازه في الكون في كتاب مقروء، وصفحات مشرقة منظورة، ليمتلئ قلبك إجلالاً وعظمة لله سبحانه: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}9؛ تجد أمامك نافذة واسعة سعة الكون كله، إعجاز باهر, وآيات كريمة قد كتبت بحروفٍ كبيرة واضحة على صفحات الكون كله {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ* لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}10. انظر إلى الشمس والقمر يدوران، والليل والنهار يتقلبان, بل انظر إلى تكوين نفسك، وتركيب جسمك، من ذا الذي جعله بهذا التركيب وهذا النظام العجيب {وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ}11.فكر في النبات والشجر, والفاكهة والثمر، وفي البحر والنهر، إذا طاف عقلك في الكائنات, ونظرك في الأرض والسموات؛ رأيت على صفحاتها قدرة الله, وامتلأ قلبك بالإيمان بالله، وانطلق لسانك بلا إله إلا الله، وخضعت مشاعرك لسلطان إن من تفكر في ذلك خاف الله – تعالى – لا محالة؛ لأن الفكر يوقعه على صفات جلال الله وكبريائه، فهو سبحانه العزيز الكريم المتعال، الواحد القهار، هو سبحانه القهار الذي قهر كل شيء وغلبه، والذي لا يطاق انتقامه، معاشر المؤمنين: إن امتلاء القلب بعظمة الله يولّد ثقة مطلقة بالله، ويجعل المسلم هادي البال، ساكن النفس مهما ادلهمت الخطوب، وإن استشعار عظمة الله تملأ القلب رضى وصبراً جميلاً، فلا يحزننا تقلّب الذين كفروا في البلاد، إن معرفتنا بعظمة الله تورث القلب الشعور الحي بمعيّته سبحانه التي تفيض السكينة في المحن، والبصيرة في الفتن، إن استشعار عظمة الله ومعيته تبعث في النفس معنى الثبات والعزة, وتقوي العزائم حتى في أشد حالات الضنك، وقد كانت هذه الحقائق جلية عند الصحابة
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, أقول قولي هذا, وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية: الحمد لله وكفى, وصلاة وسلاماً على عباده الذين اصطفى, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العلي الأعلى, وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله, صاحب النهج السوي، والخلق الأسمى, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، أما بعد: إن الذين يسخرون من الدين، ويحاربون أولياء الله, ويستهزئون بسنة سيد البشر, ما قدروا الله حق قدره، من شهد قلبه عظمة الله وكبرياءه علم شأن تحذيره – جل وعلا – في قوله: {وَيُحَذّرْكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ}14 قال المفسرون: "أي: فخافوه واخشوه". إلا أنَّ من المصائب الكبرى ظاهرةُ الإلحادِ وإنكارِ وجودِ الخالقِ جلّ وعلا .. حيث نلاحظُ ازديادَ الجُرأةِ على التصريح بالمعتقدات والأفكار الشاذة التي تحمل معاني الإلحادِ والكفرِ والزندقةِ، والتشكيك في الثوابت والمقدسات الإلحادُ فكرٌ ضالٌ مُدمِّر، له آثارٌ ونتائج دنيويةٍ سيئةٌ جداً، خلافاً لما ينتظرُ الملحِدَ من جزاءٍ أخروي مُروع، قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} .. فمن أسوءِ نتائجِ الإلحادِ الدنيوية: أن يقعَ الملحِد فريسةً سهلةً للقلق والصراع النفسي الانفلات من القيود الدينية .. والاستعدادُ لأن يضحي عمداً بتدينه ليتمكن من تلبية شهواتهِ المحرمة بلا أيِّ قيودٍ أو تأنيبِ نفس .. يعني أن يقتل الانسان ضميره، ونفسه اللوامة، حتى لا يبقى في نفسه من ينازعه في المعصية. إن التطرف و الانحلال هما نقيضَي خطر يصيب المجتمعات , وإن الوسطية والاعتدال هما الطريق السوي والصراط المستقيم الذي تنتهجه هذه الدولة المباركة مستنيرين بتوجيه قائدنا و إمامنا خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز حفظه الله حين قال : "لا مكان بيننا لمتطرف يرى الاعتدال انحلالا ويستغل عقيدتنا السمحة لتحقيق أهدافه، ولا مكان لمنحل يرى في حربنا على التطرف وسيلة لنشر الانحلال . رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْوَهَّابُ