{هنَّ لباسٌ لكمْ وأنتمْ لباسٌ لهنَّ} متسقةٌ مع التعميم

عاصم بن محمد الغامدي
1444/04/24 - 2022/11/18 09:56AM

الحمد لله، شَرَحَ صدورَ المؤمنينَ فانقادوا لطاعَتِهِ، وحَبَّبَ إليهمُ الإيمانَ وزيَّنَهُ في قلوبِهم، فلم يَجِدُوا حَرَجًا في الاحتكامِ إلى شريعتِهِ، وأشهدُ أنْ لَا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ وسلَّم وباركَ عليهِ، وعلى آلهِ وصحْبِهِ، والتابعينَ ومنْ تَبِعَهُمْ بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ، أما بعد:

فاتقوا الله تعالى -أيها الناس-؛ فالتقوى خيرُ زادٍ وخيرُ لِباسٍ ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾.

إنَّ الدنيا تفنَى، وإنَّ الآخرةَ تبقَى، فلا تُلهِيَّنَّكم الفانية، ولا تُشغِلنَّكم عن الباقِية، الدنيا مُنقطِعة، والمصيرُ إلى الله.

عباد الله: لم يسْلَمْ خيرُ البيوتِ بيتُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم من الخلافاتِ الزوجيةِ، حتى وصل الأمرُ بالنبي عليه الصلاة والسلام إلى هجرِ نسائه شهرًا، ثم تخييرهن بين البقاء معه، أو فراقه، عنْ عَائِشَةَ أمِّ المؤمنينَ رضيَ الله عنْها - قَالَتْ: لَمَّا أُمِرَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِتَخْيِيرِ أَزْوَاجِهِ بَدَأَ بِي، فَقَالَ: إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا، فَلَا عَلَيْكِ أَنْ لَا تَعْجَلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَانِي بِفِرَاقِهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَالَ: ﴿يا أيها النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ ‌إِنْ ‌كُنْتُنَّ ‌تُرِدْنَ ‌الْحَيَاةَ ‌الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا* وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ فَقُلْتُ: «فِي هَذَا أَسْتَأْمِرُ ‌أَبَوَيَّ، فَإِنِّي أُرِيدُ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ» ثُمَّ فَعَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلَ مَا فَعَلْتُ.

وقد تكررت في القرآنِ أحكامُ الأسرةِ، وأكثر ذكرها في سورة النساء وسورة الطلاق، ومن ذلك في سورةِ النساءِ قاعدةٌ مهمةٌ في التعاملِ، ﴿‌وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾، والمعروفُ ضدُّ المنكرِ، وهو هنا ما حدَّدَهُ الشرعُ، ووصفَهُ عرفُ مثيلاتِها منَ النساءِ، وفيها أحكامٌ تفصيليةٌ لمسائلَ زوجيةٍ عديدةٍ، ﴿الرِّجَالُ ‌قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾، وتشملُ القوامَةُ الحفظَ، والدفاعَ، والإنفاقَ المالي.

وفيها إشارةٌ إلى حدودِ أهلِ الزوجينِ مع خلافاتِهما، ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا ‌حَكَمًا ‌مِنْ أَهْلِهِ ‌وَحَكَمًا ‌مِنْ أَهْلِهَا﴾، ومفهومُ الآيةِ عدمُ التدخلِ إنْ لمْ يخافوا الشقاقَ، ولهذَا لمَّا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْتَ ‌فَاطِمَةَ فَلَمْ يَجِدْ عَلِيًّا، قَالَ: «أَيْنَ ابْنُ عَمِّكِ؟» قَالَتْ: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ شَيْءٌ، فَغَاضَبَنِي، فَخَرَجَ، فَلَمْ يَقِلْ عِنْدِي -أي: ينمْ وقتَ القيلولةِ-، فَلم يسألِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ عنْ سببِ المغاضَبةِ التي خرجَ بها الزوجُ من منزلِه وقتَ القيلولةِ -وهو الأبُ، وابن العمِّ، والنبيُّ- بل قَالَ لِإِنْسَانٍ عندَه: «انْظُرْ أَيْنَ هُوَ؟» فَجَاءَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هُوَ فِي المَسْجِدِ رَاقِدٌ، فَجَاءَه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ، قَدْ سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ شِقِّهِ، وَأَصَابَهُ ‌تُرَابٌ، فَجَعَلَ يَمْسَحُهُ عَنْهُ، وَيَقُولُ: «قُمْ أَبَا ‌تُرَابٍ، قُمْ أَبَا ‌تُرَابٍ»، فكانت أحبَّ كُنى عليٍ إليهِ.

وفي سورة الطلاقِ، أحكامُ الطلاقِ، والرجعةِ، والعدةِ، والنفقةِ على الزوجةِ والأولادِ ﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾.

والملفتُ في هاتينِ السورتينِ، وفي كثيرٍ من الآيات التي تتحدث عن أحكامِ الأسرةِ، تكررُ ربطِها بتقوى الله تعالى ومراقَبَتِه، ففي أولِ سورةِ النساء: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾، فأمرَ بالتقوى مرتينِ، وختمَ الآيةَ بتحذيرٍ يخلعُ القلوبَ الحيَّةَ ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾، أيْ: مراقبًا لجميعِ أحوالِكمْ وأعمالِكُمْ، وكأنَّه سبحانه يُمهِّد بذلك لما سيأتي في السورةِ من تكاليفَ فيها مشقةٌ على النفس، وربما يَضْعُفُ لدى الزوجينِ أو أحدِهما دافعُ الالتزامِ بها، لسماتٍ شخصيةٍ، أو مؤثراتٍ خارجيَّةٍ، فكانَ في الأمرِ بالتقوى توطئةً لنفوسِ المؤمنينَ، لقَبولِ هذه الأحكامِ-وإنْ كانتْ شاقَّةً-؛ استسلامًا للهِ، وانقيادًا لأمرهِ، واستشعارًا لمراقبتهِ.

ويتكررُ الأمرُ بالتقوى في سورةِ الطلاق، ففي أولها: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ﴾، ثم في الآيات التي بعدها بيانُ آثارِ التقوى ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾، ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾، ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا﴾، وفي آخرها: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا﴾.

وفي سورة الأحزابِ لما أمرَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم زيدًا أنْ يمسِكَ زوجَهُ قال له: ﴿‌أَمْسِكْ ‌عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ﴾، وكأنَّ منْ لوازمِ الإمساكِ التقوى، فقدْ يكرهُ الزوجُ منْ زوجِه أمرًا يُغطِّي عليهِ بقيةَ محاسِنِها، فإذا عظُم في قلبِهِ تقوى ربِّه، دعاهُ ذلكَ إلى العدلِ والإنصافِ، ولهذا قالَ النبيُّ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: «‌لَا ‌يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ».

أيها المسلمون: إذا أنصفَ كلُّ زوجٍ من نفسِهِ، تنازلَ عنْ بعضِ رغباتِها، تحقيقًا لمصلحةِ الزواجِ الكبرى، وغرضِه الأعظمِ ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا ‌لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾، والمودةُ: المحبةُ، والرحمةُ: الرأفةُ، وسعيُ كلِّ زوجٍ لإدامةِ المحبةِ والرحمةِ، بحسنِ المعاشرةِ، وطِيبِ الكلامِ، وإِلانةِ الجانبِ، والبعدِ عن التعسُّفِ، وهجْرِ المناكفةِ، فيه امتثالٌ لأمرِ الربِّ سبحانَه بالتقوى، وإرساءٌ لقواعدِ السكينةِ في منزلِ الزوجية، وتركُ ذلكَ من خطواتِ الشيطانِ، التي قدْ يصْبِغُها أحيانًا بصبغةِ الدينِ أو العقلِ.

جعلنا الله من العالِمين العامِلين، ووقانا الخزي والخسار في يوم الدين.

 الحمدُ للهِ وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده، أما بعد عبادَ اللهِ:

فإنَّ في كتابِ اللهِ سبحانَهُ إشاراتٍ لطيفةً، تُبيِّنُ ما ينبغي أنْ تكونَ عليهِ علاقةُ الزوجينِ المؤمِنَيْنِ، ففي قوله تعالى: ﴿هُنَّ ‌لِبَاسٌ ‌لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ﴾، استعارةٌ بليغةٌ، فاللباسُ لا يفارقُ الجسدَ، ويتصلُ بصاحبِهِ اتصالاً شديدًا، وهكذا ينبغي أنْ تتصلَ قلوبُ الزوجينِ وعقولُهم، وأهدافُهم، ومشاعِرُهُم، وفي اللباسِ وقايةٌ من حرِّ الصيفِ وبردِ الشتاءِ، وحمايةٌ منَ بأسِ الأعداءِ، فحريٌ بكلِّ زوجٍ أنْ يقيَ شريكَهُ منَ الألمِ، ويحميَه منَ السوءِ، واللباسُ يسترُ العيوبَ، ويُغطِّي ما لا يحبُّ المرءُ أن يُظهرَه، فالأولى بكلِّ زوجٍ سَتْرُ عيوبِ شريكِه، وتغطيةُ أخطائِه، لا سيَّما أمامَ المقربينَ إليهِ منْ أهلٍ وولدٍ، واللباسُ زينةٌ ووقارٌ، وهكذا ينْبَغِي لكلِّ زوجٍ أنْ يُزيَّن الآخرَ، ويُظهرَ وقارَه، وفي تعبيرِ القرآنِ باللباسِ إشارةٌ إلى أنَّه بقدرِ اهتمامكَ بلباسِكَ وأناقَتِه، ينبغي أنْ يكونَ اهتمامُك بشريكِ حياتِكَ، وكلُّ ما يوغرُ الصدورَ، وليسَ في تركِه أمرٌ محظورٌ، ينبغي هَجْرُه حرصًا على صفاءِ القلوبِ، وتحققِ السكينةِ بينَ الزوجينِ، وإعراضُ الرجلِ عنْ ذلكَ فيهِ إعراضٌ عنْ وصيةِ النبيِّ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فقدْ قالَ في حَجةِ الوداعِ: "‌اسْتَوْصُوا ‌بِالنِّسَاءِ خَيْرًا، فَإِنَّهُنَّ عِنْدَكُمْ عَوَانٍ، لَيْسَ تَمْلِكُونَ مِنْهُنَّ شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ ... إِنَّ لَكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ حَقًّا، وَلِنِسَائِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا، فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ: فَلَا يُوَطِّئَنَّ فُرُشَكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ، وَلَا يَأْذَنَّ فِي بُيُوتِكُمْ لِمَنْ تَكْرَهُونَ، أَلَا وَحَقُّهُنَّ عَلَيْكُمْ أَنْ تُحْسِنُوا إِلَيْهِنَّ فِي كِسْوَتِهِنَّ وَطَعَامِهِنَّ"، والإحسانُ يشملُ ما يحفُّ تقديمَ الكسوةِ والطعامِ من ملاطفةٍ ومؤانسةٍ، ويشمل ذاتَ الكسوةِ والطعامِ، وتفريطُ المرأةِ فيمَا يحققُ السكينةَ منَ الطاعةِ، فيهِ تفويتٌ لسببٍ عظيمٍ من أسبابِ دخولِ الجنةِ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا صَلَّتِ الْمَرْأَةُ خَمْسَهَا، وَصَامَتْ شَهْرَهَا، وَحَفِظَتْ فَرْجَهَا، ‌وَأَطَاعَتْ ‌زَوْجَهَا، قِيلَ لَهَا: ادْخُلِي الْجَنَّةَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شِئْتِ".

ألا فاتَّقُوا اللهَ يا عبادَ اللهِ وكونوا منَ الذينَ يستمعونَ القولَ فيتَّبعونَ أحسنَه، وقوا أنفسَكُمْ وأهليكُمْ نارًا وقودُها الناسُ والحجارةُ؛ فإنَّ الشقيَّ من حُرِمَ رَحْمَةَ الله -عياذًا بالله-، ثمَّ صلُّوا وسلِّموا على خيرِ البرَايَا، فقدْ أمرَكُمُ اللهُ تعالى بذلكَ فقالَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ ‌يُصَلُّونَ ‌عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.

المرفقات

1668754573_{هنَّ لباسٌ لكمْ وأنتمْ لباسٌ لهنَّ}.docx

1668754583_{هنَّ لباسٌ لكمْ وأنتمْ لباسٌ لهنَّ} للجوال.pdf

1668754584_{هنَّ لباسٌ لكمْ وأنتمْ لباسٌ لهنَّ}.pdf

المشاهدات 566 | التعليقات 0