همُّ الديون

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

إخوة الإيمان والعقيدة ... قضية أدَّت بصاحبها همًّا بالليل، وذلّاً بالنهار، يشغل البال، ويكدر الحال، يكسر الفؤاد، ويستخفي صاحبه عن العباد، استعاذ منه النبي ﷺ وتساهلنا فيه، حتى غصَّت محاكمنا من التشاكي به.

إنها قضية الديون، تلك القضية التي أخافت قلوب الأمناء، وأذلَّت كرائم الشرفاء. قضية الدَيْن ظاهرةٌ فَشَتْ وعمَّت, وانتشرت وطمَّت, وارتفع سُعارها وتعالى لهيبها.

مكاتب تحصيل الديون في ازدياد, وشركات التقسيط تَعِدُ الناس بعيشٍ رغيدٍ وحياةٍ هنيئة, وعروض الاستدانة وتسهيلات الاستقراض من البنوك تؤزُّ الناس إليها أَزًّا، ناهيكم عن البطاقات الائتمانية التي تجرُّ المستهلك إلى سكرة الشراء، وشراهة الإسراف, ناسيًا أو متغافلاً مغبَّة الشراء, ومرارة التقسيط غدًا.

عباد الله ... لنا مع القضية وهذه الظاهرة عدة وقفات، علَّها تساعد في تذكير النَّفس، وإصلاح السيرة، وإكمال المسيرة.
إنَّ هذا الدِّين العظيم جاء بالحثِّ على التكافل بين أفراده، والحضِّ على التعاون بينهم, ومن صور هذا التكافل والتعاون: مشروعيَّة القرض؛ فأباح للمحتاج أن يستدين عند حاجته ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ).

وجعل الإسلام إقراض الآخرين قربةً يتقرَّب بها العبد لربه تعالى، قال ﷺ ( ما من مسلمٍ يُقرض مسلمًا قرضًا مرَّتَيْن إلا كان كصدقتها مرَّة ) بل وَعَدَ ربُّنا سبحانه وتعالى المستدين إذا صلحت نيَّته وصدق في قضاء دينه بالمعونة والسَّداد؛ قال ﷺ ( مَنْ أخذ أموال الناس يريد أداءها؛ أدَّى الله عنه، ومَنْ أخذها يريد إتلافها؛ أتلفه الله تعالى ) وهذا الإتلاف عباد الله قد يكون حِسِّيـًّا؛ فيُتلف الله عليه نفسه أو مكاسبه, وقد يكون معنويًّا، بأن يمحق الله بركة ما أخذه، ويضيِّق عليه أموره، ويعسره دون أسباب الرزق.
اعلموا – يا عباد الله - أن هذا الدَّيْن وإن كان في أصله مباحًا إلاَّ أنه قد حُفَّ بمخاطر مفزعة، ينبغي ألاَّ تغيب عن كل مَنْ طلب الدَّيْن وابتغى القرض.

وقف رجلٌ بين يدي رسول الله ﷺ فيقول: يا رسول الله، أرأيتَ إن قُتلتُ في سبيل الله؛ تُكَفَّرُ عنِّي خطاياي؟ فقال له رسول الهدى ( نعم، إن قُتلتَ في سبيل الله وأنت صابرٌ محتسبٌ، مقبِلٌ غير مُدْبِر ) فلمَّا ولَّى الرجل دعاه رسول الله ﷺ وقال ( كيف قُلْتَ؟ ) قال: أرأيتَ إن قُتلتَ في سبيل الله؛ أَتُكَفَّر عنِّي خطاياي؟ فقال رسول الله ﷺ ( نعم، وأنت صابرٌ محتسِبٌ، مُقبِلٌ غيرَ مُدْبِرٍ، إلاَّ الدَّيْن؛ فإن جبريل قال لي ذلك ) بل بلغ من الترهيب من أمر الدِّين أنَّ  أرحم الخَلْق بالخَلْق، وخير الخَلْق للخَلْق؛ محمدًا ﷺ كان إذا أُتي إليه برجلٍ متوفَّى ليصلِّي عليه؛ سأل ( هل عليه من دَيْنٍ؟ ) فإن قيل: نعم؛ سأل ( هل ترك وفاءً؟ ) فإن حُدِّثَ أنه ترك وفاءً صلَّى عليه، وإلا قال ( صلُّوا على صاحبكم ).

تُوفِّي رجلٌ من صحابة النبيِّ ﷺ وعليه دَيْنٌ، فلمَّا صلَّى النبي ﷺ الفجر سأل ( ها هنا من بني فلان أحدٌ؟ ) قالها ثلاثًا. فقام رجلٌ فقال: أنا منهم؛ فقال عليه الصلاة والسلام ( إن صاحبكم محبوسٌ عن الجنَّة بدَيْنه ).

ولذا عباد الله كان حبيبنا وقدوتنا ﷺ كثيرًا ما يستعيذ من الدَّيْن؛ ( اللهم إنِّي أعوذ بك من الهمِّ والحزن، والعجز والكسل، والبخل والجُبْن، وضَلْع الدَّيْن وغَلَبَة الرِّجال ) وهاهو الفاروق رضي الله عنه بلغ من استشعاره لخطر الدَّيْن أنه كان كثيرًا ما ينهى الناس عنه، فكان يقول :إياكم والدَّيْن، فإن أوَّله هَمٌّ وآخره حربٌ.

لذا عباد الله فإن من سعادة العَيْش وطيب الحياة أن يسلم المرء من هواجس الدَّيْن ومخاطره، وتنام عينه بعد ذلك ملء جفونها بلا دَيْنٍ مُقلِقٍ ولا غرمٍ مُنتَظر.

عباد الله ... ليس عيبًا أن يستدين المرء ويقترض إذا ألجأته الظروف أو نزلت به حاجة؛ فرسول الهدى استدان من حاجةٍ وقضى دَيْنَه، واشترى طعامًا من يهوديٍّ إلى أجلٍ، ورهن درعًا من حديدٍ عند اليهودي.

معذورٌ أن يستدين المرء لأجل علاج مرضه أو مداوة مريضه. مقبولٌ أن يقترض الإنسان لإكمال أمر زواجه وإعفاف نفسه. لا تثريب أن يستلف الرجل لإتمام بناء منزله وإكماله.

ولكن العجب من أناس ولجوا لجج الدَّيْن وذاقوا علقمه لأجل مجاراةٍ في كماليَّات، أو تنافسٍ في مظهريَّات!! فهذا يستدين من أجل تغيير أثاثه، وآخر له في كل إجازة موعدٌ مع القروض للسفر والسياحة، وثالثٌ يقترض لمواكبة كل جديد، وامتلاك ما رآه عند غيره، ورابعٌ جعل الاستدانة مهنته كلما لاحت إليه رغبة، أو هامت بخاطره نزوة، فتراه يقترض من هذا، ويستدين من ذاك، ثم لا يعبأ بعد ذلك بإراقة ماء وجهه؛ فيقرع الأبواب، ويلحف في المسألة، ويَتَمَسْكَن في الكلام، وقد كان في سَعَةٍ وغنى عن مثل هذه المواقف.

إن من التعقُّل والاتِّزان الذي يدعو إليه الشرع والعُرْف: ألاَّ يلجأ الإنسان للدَّيْن إلا عند الاضطرار، وأن يكبح المرء جماح هوى نفسه، ويؤطِرها على العفاف أَطْرًا، وأن يمدَّ عينه إلى مَنْ هو دونه؛ فهو أحرى ألاَّ يزدري نعمة ربِّه عليه، قال رسول الله ﷺ ( ارضَ بما قسم الله لكَ؛ تكن أغنى الناس ).

أسأل الله الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، أن يفرِّج همَّ المهمومين، وينفِّس كرْب المكروبين، ويقضي الدَيْن عن المدينين.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب ...

 

 

 

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

يا عبد الله ... إن ألجأتك حاجتك للدَّيْن فأصلِح النيَّة، واصدق العزيمة في سداده، وتذكر أن الدَّيْن أمانةٌ يجب المسارعة في قضائها ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ).

ظلمٌ شنيعٌ وجُرْمٌ فظيعٌ أن تُماطِل في قضاء دَيْنك؛ قال ﷺ ( مَطَلُ الغنيِّ ظلمٌ ) فالمماطلة خُلُقٌ تأباه شِيَم النفوس العزيزة.

لا تضجر من تظلُّم وعتاب صاحب الحقِّ عليك؛ فإن لصاحب الحقِّ مقالاً.

يا مَنْ أقلقه دَيْنه وأثقله وفاؤه، خُذْ بالأسباب، وضاعف العمل والتكسُّب، اجعل قضاء الدَّيْن همّك الأول والأخير، ولا تستقلل المدفوع؛ فالقليل مع القليل يكون كثيرًا، استعن على وفاء دَيْنك بتقوى الله تعالى، اتقِّ الله فيما أخذتَ وما أعطيتَ، فما اتَّقى عبدٌ ربَّه إلاَّ جعل له من أمره يسرًا، وجعل له مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب.

إذا ضاقت بك الهموم، واستثقلتَ الغموم؛ فيَمِّم وجهك شطر السماء، وبُثَّ شِكايتك لربِّ البَشَر، واطرح ضرَّك بين يديه؛ فهو سبحانه مُزيل اللأواء، وكاشف البأساء.

رَدِّدْ في صبحٍ ومساءٍ هذه الكلمات التي قال عنها خير البَرِيَّة ﷺ ( ألا أعلمك كلماتٍ لو كان عليك مثل جبل صَبيرٍ دينًا لأدَّاه الله عنك: اللهم اكفني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمَّن سِواك ).

فبادر أخي المَدين بوفاء دينك قبل أن تبادرك المنايا، وتذكَّر موقفًا تجثو فيه الرُّكَب، وتشيب منه مفارق الوِلْدان، وليس ثمَّة إلا الحسنات والسيِّئات. قال ﷺ ( مَنْ مات وعليه دينار أو درهم؛ قُضِيَ من حسناته، ليس ثمَّ دينارٌ ولا درهمٌ))؛ رواه أحمد وابن ماجه، وهو حديثٌ صحيحٌ.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

المشاهدات 952 | التعليقات 0