هَمُّ الدَّين
إبراهيم بن صالح العجلان
1435/07/15 - 2014/05/14 13:49PM
معاشر المسلمين:
هم بالليل، وذلٌّ بالنهار، يشغل البال، ويكدر الحال، يكسر الفؤاد، ويستخفي صاحبه عن العباد .
استعاذ منه النبي rوتساهلنا فيه، حتى غصَّت محاكمنا من التشاكي به.
إنها قضية الديون, تلك القضية التي أخافت قلوب الأمناء، وأذلَّت كرائم الشرفاء.
قضية الدين ظاهرة فَشَتْ وعمَّت, وارتفع سُعارها, وتعالى لهيبها.
مكاتب تحصيل الديون في ازدياد, وشركات التقسيط تَعِدُ الناس بعيشٍ رغيدٍ وحياةٍ هنيئة, وعروض الاستدانة وتسهيلات الاستقراض من البنوك تؤزُّ الناس إليها أَزًّا، ناهيكم عن البطاقات الائتمانية التي تجرُّ المستهلك إلى سكرة الشراء، وشراهة الإسراف, ناسيًا أو متغافلاً مغبَّة الشراء, ومرارة التقسيط غدًا!!
عباد الله:
ولنا مع ظاهرة الاستقراض والاستدانة وقفات وتذكيرات:
الوقفة الأولى:
أّنَّ هذا الدِّين العظيم جاء بالحثِّ على التكافل بين أفراده، والحضِّ على التعاون بينهم, ومن صور هذا التكافل والتعاون: مشروعيَّة القرض؛ فأباح للمحتاج أن يستدين عند حاجته:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ.} وجعل الإسلام إقراض الآخرين قربةً يتقرَّب بهاالعبد لربه تعالى، وفي الحديث: (ما من مسلمٍ يُقرض مسلمًا قرضًا مرَّتَيْن إلا كان كصدقتها مرَّة)رواه ابن ماجه وصحَّحه الألباني.
وخير البشر صلى الله عليه وسلم استدان وقضى دَيْنه؛ فاستدان من رجل بَكْرًا، فقُدِّمت إليه إبلٌ من إبل الصَّدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بَكْرَهُ، فلم يجد إلا خَيارًا رباعيًّا؛ فقال النبي r: (أَعْطِهِ إيَّاه؛ فإنَّ خيار الناس أحسنهم قضاءً).
بل وَعَدَ rالمستدين إذا صلحت نيَّته وصدق في قضاء دينه بالمعونة والسَّداد؛ فقال: (مَنْ أخذ أموال الناس يريد أداءها؛ أدَّى الله عنه، ومَنْ أخذها يريد إتلافها؛ أتلفه الله تعالى) رواه البخاريُّ.
وهذا الإتلاف قد يكون حِسِّيـًّا؛فيُتلف الله عليه نفسه أو مكاسبه ... وقد يكون معنويًّا،بأن يمحق الله بركة ما أخذه، ويضيِّق عليه أموره، ويعسره دون أسباب الرزق.
الوقفة الثانية:
أن هذا الدَّيْن - وإن كان في أصله مباحًا - إلاَّ أنه قد حُفَّ بمخاطر مفزعة، ينبغي ألاَّ تغيب عن كل مَنْ طلب الدَّيْن وابتغى القرض.
اسمع إلى خبر ذلك الرجل الذي مشى إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم قد رخصت عليه نفسه، وحداه شوقه إلى جنَّاتٍ ونَهَرٍ، وتعالت همَّته لاسترضاء مليك مقتدر، فيقف بين يدي رسول الله rفيقول: يا رسول الله، أرأيتَ إن قُتلتُ في سبيل الله؛ تُكَفَّرُ عنِّي خطاياي؟ فقال له رسول الهدى: (نعم، إن قُتلتَ في سبيل الله وأنت صابرٌ محتسبٌ، مقبِلٌ غير مُدْبِر). فلمَّا ولَّى الرجل دعاه رسول الله r وقال:
(كيف قُلْتَ؟)؛ قال: أرأيتَ إن قُتلتَ في سبيل الله؛ أَتُكَفَّر عنِّي خطاياي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نعم، وأنت صابرٌ محتسِبٌ، مُقبِلٌ غيرَ مُدْبِرٍ، إلاَّ الدَّيْن؛ فإن جبريل قال لي ذلك)).
بل بلغ من الترهيب من أمر الدِّين أنَّ أرحم الخَلْق بالخَلْق، وخير الخَلْق للخَلْق؛ محمدًا صلى الله عليه وسلم كان إذا أُتي إليه برجلٍ متوفَّى ليصلِّي عليه؛ سأل : هل عليه من دَيْنٍ؟)، فإن قيل: نعم؛ سأل : هل ترك وفاءً؟)، فإن حُدِّثَ أنه ترك وفاءً صلَّى عليه، وإلا قال : صلُّوا على صاحبكم).
تُوفِّي رجلٌمن صحابة النبيِّ rوعليه دَيْنٌ، فلمَّا صلَّى النبي صلى الله عليه وسلم الفجر سأل : ها هنا من بني فلان أحدٌ؟) قالها ثلاثًا. فقام رجلٌ فقال: أنا منهم؛ فقال عليه الصلاة والسلام : إن صاحبكم محبوسٌ عن الجنَّة بدَيْنه)رواه أحمد بسندٍ صحيحٍ
وفي لفظٍ عند أبي داود: ((نَفْس المؤمن معلَّقةٌ بدَيْنه حتى يُقضي عنه)).
( ما أكثر ما تستعيذ من المَغْرَم يا رسول الله !!) ...
بهذه الكلمات يُسأل المصطفى - صلى الله عليه وسلم - فيأتي الجواب: ((إن الرجل إذا غَرِمَ حَدَّث فكذب، ووَعَد فأَخْلَف)).
وهاهو الفاروق - رضي الله عنه - بلغ من استشعاره لخطر الدَّيْن أنه كان كثيرًا ما ينهى الناس عنه، ومن مأثور قوله: "إياكم والدَّيْن، فإن أوَّله هَمٌّ وآخره حربٌ".
لذا عباد الله فإن من سعادة العَيْش وطيب الحياة أن يسلم المرء من هواجس الدَّيْن ومخاطره، وتنام عينه بعد ذلك ملء جفونها بلا دَيْنٍ مُقلِقٍ ولا غرمٍ مُنتَظر.
الوقفة الثالثة:
ما هو واقعنا مع الدَّيْن، وكيف التجأنا إليه، ولماذا طرقنا بابه؟
ليس عيبًا إخوة الإيمان أن يستدين المرء ويقترض إذا ألجأته الظروف أو نزلت به حاجة؛ فرسول الهدى استدان من حاجةٍ وقضى دَيْنَه، واشترى طعامًا من يهوديٍّ إلى أجلٍ، ورهن درعًا من حديدٍ عند اليهودي.
معذورٌ أن يستدين المرء لأجل علاج مرضه أو مداوة مريضه.
مقبولٌ أن يقترض الإنسان لإكمال أمر زواجه وإعفاف نفسه.
لا تثريب أن يستلف الرجل لإتمام بناء منزله وإكماله.
ولكن العجب من أناس ولجوا لجج الدَّيْن وذاقوا علقمه لأجل مجاراةٍ في كماليَّات، أو تنافسٍ في مظهريَّات!!
فهذا يستدين من أجل تغيير أثاثه ،،، وآخر له في كل إجازة موعدٌ مع القروض للسفر والسياحة،،، وثالثٌ يقترض لمواكبة كل جديد، وامتلاك ما رآه عند غيره،
ورابعٌ جعل الاستدانة مهنته كلما لاحت إليه رغبة، أو هامت بخاطره نزوة، فتراه يقترض من هذا، ويستدين من ذاك، ثم لا يعبأ بعد ذلك بإراقة ماء وجهه؛ فيقرع الأبواب، ويلحف في المسألة، ويَتَمَسْكَن في الكلام، وقد كان في سَعَةٍ وغنى عن مثل هذه المواقف!!!
عباد الله:
إن من التعقُّل والاتِّزان الذي يدعو إليه الشرع والعُرْف: ألاَّ يلجأ الإنسان للدَّيْن إلا عند الاضطرار، وأن يكبح المرء جماح هوى نفسه، ويؤطِرها على العفاف أَطْرًا، وأن يمدَّ عينه إلى مَنْ هو دونه؛ فهو أحرى ألاَّ يزدري نعمة ربِّه عليه، وفي الحديث: ((ارضَ بما قسم الله لكَ؛ تكن أغنى الناس))؛ أخرجه أحمد، وهو حديثٌ حسنٌ.
الوقفة الرابعة:
يا أيها العبد المؤمن، إن ألجأتك حاجتك للدَّيْن فأصلِح النيَّة، واصدق العزيمة في سداده.
تذكر يا صاحب الدَّيْن: أن الدَّيْن أمانةٌ يجب المسارعة في قضائها: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}.
ظلمٌ شنيعٌ وجُرْمٌ فظيعٌ أن تُماطِل في قضاء دَيْنك؛ قال r: ((مَطَلُ الغنيِّ ظلمٌ)).
تذكر - رعاك الله - أن هذه المماطلة خُلُقٌ تأباه شِيَم النفوس العزيزة، وأنه لا حُرمة لعِرْضِك بعد ذلك؛ قال r (لَيُّ الواجِد يُحِلُّ عِرْضَه وعقوبته) رواهالبخاريُّ
لا تضجر من تظلُّم وعتاب صاحب الحقِّ عليك؛ فإن لصاحب الحقِّ مقالاً.
أعرابيٌّ استدان منه النبيُّ rدَيْنًا؛ فجاء يطلب من النبيِّ rالسَّداد؛ فقال له رسولنا r، وهو لايملك شيئًا: (ليس عندنا اليوم شيءٌ، فإن شئتَ أخَّرْتَ عنَّا) فصاح الإعرابيُّ: واغَدْرَاه! فنهره الناس، ودارت عينا عمر في رأسه، وصاح بالرجل:
أيَغْدُرُ رسول الله! فقال رسول الله r لعمر : دَعْهُ؛ فإن لصاحب الحقِّ مقالاً).
يا مَنْ أقلقه دَيْنه وأثقله وفاؤه:خُذْ بالأسباب، وضاعف العمل والتكسُّب: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا }.
اجعل قضاء الدَّيْن همّك الأول والأخير، ولا تستقلل المدفوع؛ فالقليل مع القليل يكون كثيرًا، وما السَّيْل إلا اجتماع النُّقَط.
أخي صاحب الدَّيْن:استعن على وفاء دَيْنك بتقوى الله تعالى، اتقِّ الله فيما أخذتَ وما أعطيتَ، فما اتَّقى عبدٌ ربَّه إلاَّ جعل له من أمره يسرًا، وجعل له مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب.
أخي المكروب بدَيْنه:إذا ضاقت بك الهموم، واستثقلتَ الغموم؛ فيَمِّم وجهك شطر السماء، وبُثَّ شِكايتك لربِّ البَشَر، واطرح ضرَّك بين يديه؛ فهو سبحانه مُزيل اللأواء، وكاشف البأساء.
يا من أعياه دَيْنُه:رَدِّدْ في صبحٍ ومساءٍ هذه الكلمات التي قال عنها خير البَرِيَّة صلى الله عليه وسلم: (ألا أعلمك كلماتٍ لو كان عليك مثل جبل صَبيرٍ دينًا لأدَّاه الله عنك:اللهم اكفني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمَّن سِواك) أخرجه التِّرمذي،وحسَّنه الألباني.
فبادر أخي المَدين بوفاء دينك قبل أن تبادرك المنايا، وتذكَّر موقفًا تجثو فيه الرُّكَب،
وليس ثمَّة إلا الحسنات والسيِّئات، قال r: (مَنْ مات وعليه دينار أو درهم؛ قُضِيَ من حسناته، ليس ثمَّ دينارٌ ولا درهمٌ) رواه أحمد، وهو حديثٌ صحيحٌ.
أقول ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم.
أما بعد، فيا أخوة الإيمان:
ووقفة خامسة:
نقف فيها مع أصحاب الأيادي البيضاء، الذين طابت أنفسهم وطابت أيديهم؛ فأقرضوا إخوانهم قرضًا حسنًا، وكانوا سببًا في تفريج همومهم، وإعانتهم على قضاء حوائجهم.
اعلم يا مَنْ حباك الله هذه النعمة: أن خدمة الناس والوقوف معهم في نوائبهم برهانٌ على طيب المعدِن، ونقاء الأصل، وشهامة الطَّبْع، وسخاء النَّفْس.
نعمةٌ من الرحمن على العبد في دنياه؛ أن يجعله مفتاحًا للخير، صانعًا للمعروف، مُفرِّجًا لضائقة أخوانه ومداويًا لضرهم، ((ومن فَرَّج عن مسلمٍ كربةً من كرب الدنيا؛ فرَّج الله عنه كربةً من كُرَب يوم القيامة)).
قال صلى الله عليه وسلم : صنائع المعروف تقي مصارع السوء والآفات والهلكات وأهل المعروف في الدينا هم أهل المعروف في الآخرة)رواه الحاكم، وصحَّحه الألباني
يا أصحاب المعروف: أتبعوا المعروف بالمعروف، وأنْظِروا المُعْسِر إلى حال الميسرة، واستمعوا إلى مَنْ أعطاكم ومنع، وسَنَّ لكم وشَرَع؛ فقال سبحانه:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ
فيا من يرجو الله واليوم الآخر: خفِّفْ عن أخوانك المُعْسرين، وأَنْظِرهم إلى حال ميسرتهم. اصبر واحتسب، وأبشِر بأجرِك ممَّن لا يُضيع أجر مَنْ أحسن عملاً.
قال صلى الله عليه وسلم : ((مَنْ أَنْظَر مُعْسِرًا أو وضع عنه؛ أَظَلَّه الله في ظلِّه، يوم لا ظِلَّ إلا ظِلّه))؛ أخرجه مسلم في "صحيحه".
تذكر أخي الكريم أن هذه الأيام التي تؤخِّرها عن غريمك مدَّخرةٌ لك، وحسناتك في ميزانك.
قال r (مَنْ أَنْظَر مُعْسِرًا؛ فله بكلِّ يومٍ مِثْلُهُ صَدَقَةٌ)، رواه الإمام أحمد بسندٍ صحيحٍ.
وقَصَّ لنا نبيُّنا rخبرَ ذلك التاجر الذي كان يُداين الناس، فإذا رأى مُعْسِرًا قال لفيتانه: "تجاوزوا عنه؛ لعلَّ الله أن يتجاوز عنَّا"!؛ قال r(فتجاوز اللهُ عنه).
يا أهل المعروف: يسِّروا، وسامحوا، وارحموا؛ فإنما يرحم الله من عباده الرُّحماء؛ وفي الحديث: ((رحم الله رجلاً سَمْحًا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى)).
فحقٌّ على مَنْ بلغه عن نبيِّه rهذا الأجر والفضل، أن تطيب نفسه، ويحتسب أجره، وتمتدَّ عينه لثواب الآخرة، {وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}
نسأل الله تعالى أن يجزيَ كلَّ صاحب معروف على معروفه، وأن يبارك له في ولده وماله، ويُديم عليه صحته وعافيته، وأن يحفظه بعنايته ويكلؤه برعايته.
هم بالليل، وذلٌّ بالنهار، يشغل البال، ويكدر الحال، يكسر الفؤاد، ويستخفي صاحبه عن العباد .
استعاذ منه النبي rوتساهلنا فيه، حتى غصَّت محاكمنا من التشاكي به.
إنها قضية الديون, تلك القضية التي أخافت قلوب الأمناء، وأذلَّت كرائم الشرفاء.
قضية الدين ظاهرة فَشَتْ وعمَّت, وارتفع سُعارها, وتعالى لهيبها.
مكاتب تحصيل الديون في ازدياد, وشركات التقسيط تَعِدُ الناس بعيشٍ رغيدٍ وحياةٍ هنيئة, وعروض الاستدانة وتسهيلات الاستقراض من البنوك تؤزُّ الناس إليها أَزًّا، ناهيكم عن البطاقات الائتمانية التي تجرُّ المستهلك إلى سكرة الشراء، وشراهة الإسراف, ناسيًا أو متغافلاً مغبَّة الشراء, ومرارة التقسيط غدًا!!
عباد الله:
ولنا مع ظاهرة الاستقراض والاستدانة وقفات وتذكيرات:
الوقفة الأولى:
أّنَّ هذا الدِّين العظيم جاء بالحثِّ على التكافل بين أفراده، والحضِّ على التعاون بينهم, ومن صور هذا التكافل والتعاون: مشروعيَّة القرض؛ فأباح للمحتاج أن يستدين عند حاجته:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ.} وجعل الإسلام إقراض الآخرين قربةً يتقرَّب بهاالعبد لربه تعالى، وفي الحديث: (ما من مسلمٍ يُقرض مسلمًا قرضًا مرَّتَيْن إلا كان كصدقتها مرَّة)رواه ابن ماجه وصحَّحه الألباني.
وخير البشر صلى الله عليه وسلم استدان وقضى دَيْنه؛ فاستدان من رجل بَكْرًا، فقُدِّمت إليه إبلٌ من إبل الصَّدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بَكْرَهُ، فلم يجد إلا خَيارًا رباعيًّا؛ فقال النبي r: (أَعْطِهِ إيَّاه؛ فإنَّ خيار الناس أحسنهم قضاءً).
بل وَعَدَ rالمستدين إذا صلحت نيَّته وصدق في قضاء دينه بالمعونة والسَّداد؛ فقال: (مَنْ أخذ أموال الناس يريد أداءها؛ أدَّى الله عنه، ومَنْ أخذها يريد إتلافها؛ أتلفه الله تعالى) رواه البخاريُّ.
وهذا الإتلاف قد يكون حِسِّيـًّا؛فيُتلف الله عليه نفسه أو مكاسبه ... وقد يكون معنويًّا،بأن يمحق الله بركة ما أخذه، ويضيِّق عليه أموره، ويعسره دون أسباب الرزق.
الوقفة الثانية:
أن هذا الدَّيْن - وإن كان في أصله مباحًا - إلاَّ أنه قد حُفَّ بمخاطر مفزعة، ينبغي ألاَّ تغيب عن كل مَنْ طلب الدَّيْن وابتغى القرض.
اسمع إلى خبر ذلك الرجل الذي مشى إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم قد رخصت عليه نفسه، وحداه شوقه إلى جنَّاتٍ ونَهَرٍ، وتعالت همَّته لاسترضاء مليك مقتدر، فيقف بين يدي رسول الله rفيقول: يا رسول الله، أرأيتَ إن قُتلتُ في سبيل الله؛ تُكَفَّرُ عنِّي خطاياي؟ فقال له رسول الهدى: (نعم، إن قُتلتَ في سبيل الله وأنت صابرٌ محتسبٌ، مقبِلٌ غير مُدْبِر). فلمَّا ولَّى الرجل دعاه رسول الله r وقال:
(كيف قُلْتَ؟)؛ قال: أرأيتَ إن قُتلتَ في سبيل الله؛ أَتُكَفَّر عنِّي خطاياي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نعم، وأنت صابرٌ محتسِبٌ، مُقبِلٌ غيرَ مُدْبِرٍ، إلاَّ الدَّيْن؛ فإن جبريل قال لي ذلك)).
بل بلغ من الترهيب من أمر الدِّين أنَّ أرحم الخَلْق بالخَلْق، وخير الخَلْق للخَلْق؛ محمدًا صلى الله عليه وسلم كان إذا أُتي إليه برجلٍ متوفَّى ليصلِّي عليه؛ سأل : هل عليه من دَيْنٍ؟)، فإن قيل: نعم؛ سأل : هل ترك وفاءً؟)، فإن حُدِّثَ أنه ترك وفاءً صلَّى عليه، وإلا قال : صلُّوا على صاحبكم).
تُوفِّي رجلٌمن صحابة النبيِّ rوعليه دَيْنٌ، فلمَّا صلَّى النبي صلى الله عليه وسلم الفجر سأل : ها هنا من بني فلان أحدٌ؟) قالها ثلاثًا. فقام رجلٌ فقال: أنا منهم؛ فقال عليه الصلاة والسلام : إن صاحبكم محبوسٌ عن الجنَّة بدَيْنه)رواه أحمد بسندٍ صحيحٍ
وفي لفظٍ عند أبي داود: ((نَفْس المؤمن معلَّقةٌ بدَيْنه حتى يُقضي عنه)).
( ما أكثر ما تستعيذ من المَغْرَم يا رسول الله !!) ...
بهذه الكلمات يُسأل المصطفى - صلى الله عليه وسلم - فيأتي الجواب: ((إن الرجل إذا غَرِمَ حَدَّث فكذب، ووَعَد فأَخْلَف)).
وهاهو الفاروق - رضي الله عنه - بلغ من استشعاره لخطر الدَّيْن أنه كان كثيرًا ما ينهى الناس عنه، ومن مأثور قوله: "إياكم والدَّيْن، فإن أوَّله هَمٌّ وآخره حربٌ".
لذا عباد الله فإن من سعادة العَيْش وطيب الحياة أن يسلم المرء من هواجس الدَّيْن ومخاطره، وتنام عينه بعد ذلك ملء جفونها بلا دَيْنٍ مُقلِقٍ ولا غرمٍ مُنتَظر.
الوقفة الثالثة:
ما هو واقعنا مع الدَّيْن، وكيف التجأنا إليه، ولماذا طرقنا بابه؟
ليس عيبًا إخوة الإيمان أن يستدين المرء ويقترض إذا ألجأته الظروف أو نزلت به حاجة؛ فرسول الهدى استدان من حاجةٍ وقضى دَيْنَه، واشترى طعامًا من يهوديٍّ إلى أجلٍ، ورهن درعًا من حديدٍ عند اليهودي.
معذورٌ أن يستدين المرء لأجل علاج مرضه أو مداوة مريضه.
مقبولٌ أن يقترض الإنسان لإكمال أمر زواجه وإعفاف نفسه.
لا تثريب أن يستلف الرجل لإتمام بناء منزله وإكماله.
ولكن العجب من أناس ولجوا لجج الدَّيْن وذاقوا علقمه لأجل مجاراةٍ في كماليَّات، أو تنافسٍ في مظهريَّات!!
فهذا يستدين من أجل تغيير أثاثه ،،، وآخر له في كل إجازة موعدٌ مع القروض للسفر والسياحة،،، وثالثٌ يقترض لمواكبة كل جديد، وامتلاك ما رآه عند غيره،
ورابعٌ جعل الاستدانة مهنته كلما لاحت إليه رغبة، أو هامت بخاطره نزوة، فتراه يقترض من هذا، ويستدين من ذاك، ثم لا يعبأ بعد ذلك بإراقة ماء وجهه؛ فيقرع الأبواب، ويلحف في المسألة، ويَتَمَسْكَن في الكلام، وقد كان في سَعَةٍ وغنى عن مثل هذه المواقف!!!
عباد الله:
إن من التعقُّل والاتِّزان الذي يدعو إليه الشرع والعُرْف: ألاَّ يلجأ الإنسان للدَّيْن إلا عند الاضطرار، وأن يكبح المرء جماح هوى نفسه، ويؤطِرها على العفاف أَطْرًا، وأن يمدَّ عينه إلى مَنْ هو دونه؛ فهو أحرى ألاَّ يزدري نعمة ربِّه عليه، وفي الحديث: ((ارضَ بما قسم الله لكَ؛ تكن أغنى الناس))؛ أخرجه أحمد، وهو حديثٌ حسنٌ.
الوقفة الرابعة:
يا أيها العبد المؤمن، إن ألجأتك حاجتك للدَّيْن فأصلِح النيَّة، واصدق العزيمة في سداده.
تذكر يا صاحب الدَّيْن: أن الدَّيْن أمانةٌ يجب المسارعة في قضائها: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}.
ظلمٌ شنيعٌ وجُرْمٌ فظيعٌ أن تُماطِل في قضاء دَيْنك؛ قال r: ((مَطَلُ الغنيِّ ظلمٌ)).
تذكر - رعاك الله - أن هذه المماطلة خُلُقٌ تأباه شِيَم النفوس العزيزة، وأنه لا حُرمة لعِرْضِك بعد ذلك؛ قال r (لَيُّ الواجِد يُحِلُّ عِرْضَه وعقوبته) رواهالبخاريُّ
لا تضجر من تظلُّم وعتاب صاحب الحقِّ عليك؛ فإن لصاحب الحقِّ مقالاً.
أعرابيٌّ استدان منه النبيُّ rدَيْنًا؛ فجاء يطلب من النبيِّ rالسَّداد؛ فقال له رسولنا r، وهو لايملك شيئًا: (ليس عندنا اليوم شيءٌ، فإن شئتَ أخَّرْتَ عنَّا) فصاح الإعرابيُّ: واغَدْرَاه! فنهره الناس، ودارت عينا عمر في رأسه، وصاح بالرجل:
أيَغْدُرُ رسول الله! فقال رسول الله r لعمر : دَعْهُ؛ فإن لصاحب الحقِّ مقالاً).
يا مَنْ أقلقه دَيْنه وأثقله وفاؤه:خُذْ بالأسباب، وضاعف العمل والتكسُّب: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا }.
اجعل قضاء الدَّيْن همّك الأول والأخير، ولا تستقلل المدفوع؛ فالقليل مع القليل يكون كثيرًا، وما السَّيْل إلا اجتماع النُّقَط.
أخي صاحب الدَّيْن:استعن على وفاء دَيْنك بتقوى الله تعالى، اتقِّ الله فيما أخذتَ وما أعطيتَ، فما اتَّقى عبدٌ ربَّه إلاَّ جعل له من أمره يسرًا، وجعل له مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب.
أخي المكروب بدَيْنه:إذا ضاقت بك الهموم، واستثقلتَ الغموم؛ فيَمِّم وجهك شطر السماء، وبُثَّ شِكايتك لربِّ البَشَر، واطرح ضرَّك بين يديه؛ فهو سبحانه مُزيل اللأواء، وكاشف البأساء.
يا من أعياه دَيْنُه:رَدِّدْ في صبحٍ ومساءٍ هذه الكلمات التي قال عنها خير البَرِيَّة صلى الله عليه وسلم: (ألا أعلمك كلماتٍ لو كان عليك مثل جبل صَبيرٍ دينًا لأدَّاه الله عنك:اللهم اكفني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمَّن سِواك) أخرجه التِّرمذي،وحسَّنه الألباني.
فبادر أخي المَدين بوفاء دينك قبل أن تبادرك المنايا، وتذكَّر موقفًا تجثو فيه الرُّكَب،
وليس ثمَّة إلا الحسنات والسيِّئات، قال r: (مَنْ مات وعليه دينار أو درهم؛ قُضِيَ من حسناته، ليس ثمَّ دينارٌ ولا درهمٌ) رواه أحمد، وهو حديثٌ صحيحٌ.
أقول ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم.
الخطبة الثانية
ووقفة خامسة:
نقف فيها مع أصحاب الأيادي البيضاء، الذين طابت أنفسهم وطابت أيديهم؛ فأقرضوا إخوانهم قرضًا حسنًا، وكانوا سببًا في تفريج همومهم، وإعانتهم على قضاء حوائجهم.
اعلم يا مَنْ حباك الله هذه النعمة: أن خدمة الناس والوقوف معهم في نوائبهم برهانٌ على طيب المعدِن، ونقاء الأصل، وشهامة الطَّبْع، وسخاء النَّفْس.
نعمةٌ من الرحمن على العبد في دنياه؛ أن يجعله مفتاحًا للخير، صانعًا للمعروف، مُفرِّجًا لضائقة أخوانه ومداويًا لضرهم، ((ومن فَرَّج عن مسلمٍ كربةً من كرب الدنيا؛ فرَّج الله عنه كربةً من كُرَب يوم القيامة)).
قال صلى الله عليه وسلم : صنائع المعروف تقي مصارع السوء والآفات والهلكات وأهل المعروف في الدينا هم أهل المعروف في الآخرة)رواه الحاكم، وصحَّحه الألباني
يا أصحاب المعروف: أتبعوا المعروف بالمعروف، وأنْظِروا المُعْسِر إلى حال الميسرة، واستمعوا إلى مَنْ أعطاكم ومنع، وسَنَّ لكم وشَرَع؛ فقال سبحانه:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ
فيا من يرجو الله واليوم الآخر: خفِّفْ عن أخوانك المُعْسرين، وأَنْظِرهم إلى حال ميسرتهم. اصبر واحتسب، وأبشِر بأجرِك ممَّن لا يُضيع أجر مَنْ أحسن عملاً.
قال صلى الله عليه وسلم : ((مَنْ أَنْظَر مُعْسِرًا أو وضع عنه؛ أَظَلَّه الله في ظلِّه، يوم لا ظِلَّ إلا ظِلّه))؛ أخرجه مسلم في "صحيحه".
تذكر أخي الكريم أن هذه الأيام التي تؤخِّرها عن غريمك مدَّخرةٌ لك، وحسناتك في ميزانك.
قال r (مَنْ أَنْظَر مُعْسِرًا؛ فله بكلِّ يومٍ مِثْلُهُ صَدَقَةٌ)، رواه الإمام أحمد بسندٍ صحيحٍ.
وقَصَّ لنا نبيُّنا rخبرَ ذلك التاجر الذي كان يُداين الناس، فإذا رأى مُعْسِرًا قال لفيتانه: "تجاوزوا عنه؛ لعلَّ الله أن يتجاوز عنَّا"!؛ قال r(فتجاوز اللهُ عنه).
يا أهل المعروف: يسِّروا، وسامحوا، وارحموا؛ فإنما يرحم الله من عباده الرُّحماء؛ وفي الحديث: ((رحم الله رجلاً سَمْحًا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى)).
فحقٌّ على مَنْ بلغه عن نبيِّه rهذا الأجر والفضل، أن تطيب نفسه، ويحتسب أجره، وتمتدَّ عينه لثواب الآخرة، {وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}
نسأل الله تعالى أن يجزيَ كلَّ صاحب معروف على معروفه، وأن يبارك له في ولده وماله، ويُديم عليه صحته وعافيته، وأن يحفظه بعنايته ويكلؤه برعايته.
المرفقات
هم الدَّين.docx
هم الدَّين.docx
المشاهدات 3891 | التعليقات 4
جزاك الله خيرًا شيخنا الكريم ونفع بك
جزاك الله خيرا وفرج الله هم كل مدين وقضى دينه انه جواد كريم
@اساس متين 21757 wrote:
جزاك الله خيرا وفرج الله هم كل مدين وقضى دينه انه جواد كريمآمين....
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق