هَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ... خطبة للشيخ عبد الله الطريف
الفريق العلمي
هَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ. 15/5/1441هـ
أيها الإخوة: حقيقةٌ عُظْمَى لا ينكرُ وقوعَها بشرٌ.. وموقفٌ رهيبٌ لن يُفْلِتَ منه أحد.. وبقدر يقين كل الناس التام بحدوثه نجدُ من الجميعِ الغفلة عنه..
أحبتي: إنه الخطبُ الجلل.. ونهايةُ الأجلِ.. إنه الموت ذلِكم الغائبُ المنتظر الذي قال عنه المصطفى ﷺ: «مَا ذَكَرَهُ عَبْدٌ قَطُّ وَهُوَ فِي ضِيقٍ إِلَّا وَسَعَهُ عَلَيْهِ، وَلَا ذَكَرُهُ وَهُوَ فِي سَعَةٍ إِلَّا ضَيِّقَهُا عَلَيْهِ» رواه ابن حبان وحسنه الألباني عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضيَ اللهُ عَنْهُ.. ويقول الحق تبارك وتعالى مؤكداً حصوله: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران:185]
ومع ذلك نغفل وننسى.. ولذلك حثنا المصطفى ﷺ: الإكثار من تذكره فقال: «أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ الْمَوْتِ» وفي رواية «أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَادِمِ اللَّذَّاتِ» رواه الترمذي وابن ماجة رَضيَ اللهُ عَنْهُ وقال الألباني حسن صحيح هَادِمِ اللَّذَّاتِ وهو حديث صحيح..
ومعنى هَاذِمِ قاطع، وهَادِمِ مزيل الشيء من أصله. والمراد الموتُ، إما لأن مَنْ يذكُرُه يزهدُ في الدنيا، أو لأنه إذا جاء ما يُبْقِي مِن لذائذها شيئاً..
أحبتي: ديننا لا يريدُ ذكراً للموتِ يوقفُ الحياة.. ولا غفلةً عنه تفسدُ الحياة بالمعاصي والموبقات والمشاحنات.. ما يدعو إليه ديننا وينشده ذكر للموت يُصْلِحُ الحياة ويبنيها.. ويحفزُ النفوسَ للخيرِ ويُعلِيها.. لذلك كان حقٌ على كلِ مسلمٍ يريدُ السعادةَ في الدارين أن يعلمَ أن الموتَ حقٌ لا ريبَ فيه ويقينٌ لا شكَ فيه، فمن يُجادِلُ في الموتِ وسكرتَه، ومن يخاصمُ في القبرِ وضَمَّتَه، ومن يقدرُ على تأخيرِ موتِه وتَأجِيلِ سَاعتِه، (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) [النحل:61] ويقول (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) [آل عمران:185].
وحثَّ اللهُ ورسولُه ﷺ على العَملِ والجدِ والنشاطِ واستفراغُ الوسعِ في الضربِ بالأرضِ والسعي فيها.. وصحَ عَنْهُ ﷺ أنَّهُ قَالَ: «إِنْ قَامَتْ الَسَاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُم فَسِيلَةٌ فإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لا تَقُوْمَ حتى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا» رواه أحمد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضيَ اللهُ عَنْهُ وإسناده صحيح على شرط مسلم. وهذه مبالغةٌ في الحثِ على غرسِ الأشجارِ وحفرِ الأنهارِ لتبقى هذه الدارُ عامرةً إلى آخرِ أمدِها المحدودُ المعدودُ المعلوم عند خالِقِها؛ فكما غرسَ لك غيرك فانتفعت به فاغرس لمن يجئ بعدك لينتفع، وإن لم يبق من الدنيا إلا صبابة وذلك بهذا القصد لا ينافي الزهد والتقلل من الدنيا..
ولذلك كان سلفُ الأمةِ يتذاكرون الموتَ في مجالِسهم بين الفينةِ والأخرى مع ما كانوا يقومون به من عمارة الأرض والجهاد في سبيل الله حتى صاروا سادة العالم.. فهذا عمر بن عبد العزيز رحمه الله يجمع العلماء فيتذاكرون الموت والقيامة والآخرة فيبكون حتى كأن بين أيديهم جنازة..
وقَالَ الدقاقُ: مَنْ أكثرَ مِنْ ذكرِ الموتِ أُكرِمَ بثلاثةِ أشياء: تَعْجيلُ التوبةِ وقناعةُ القلبِ، ونشاطُ العبادةِ، ومن نسي الموت عُوقِبَ بثلاثةِ أشياء: تسويفُ التوبةِ وتركُ الرضى بالكفافِ والتكاسلُ في العبادةِ..
وقبلَ ذلك كانَ رسُولُ اللهِ ﷺ يذكرُ أصحابَه بهذا المصيرِ من ذلك.. حَديثُ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ الله ﷺ فِي جِنَازَةِ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ وَلَمَّا يُلْحَدْ، فَجَلَسَ رَسُولُ الله ﷺ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ كَأَنَّمَا عَلَى رَؤُوسِنَا الطَّيْرُ.. فَجَعَلَ يَرْفَعُ بَصَرَهُ وَيَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ، وَيَخْفِضُ بَصَرَهُ وَيَنْظُرُ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ قَالَ: أَعُوذُ بِالله مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ -قَالَهَا مِرَارًا- ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي قُبُلٍ مِنَ الآخِرَةِ وَانْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا جَاءَهُ مَلَكٌ فَجَلَسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولُ: اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنَ الله وَرِضْوَانٍ فَتَخْرُجَ نَفْسُهُ وَتَسِيلَ كَمَا يَسِيلُ قَطْرُ السِّقَاءِ.. قَالَ أَحَدُ الرُوَاةِ: وَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ غَيْرَ ذَلِكَ. وَتَنْزِلُ مَلاَئِكَةٌ مِنَ الْجَنَّةِ بِيضُ الْوُجُوهِ كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الشَّمْسُ مَعَهُمْ أَكْفَانٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ، وَحَنُوظٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّةِ، فَيَجْلِسُونَ مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ، فَإِذَا قَبَضَهَا الْمَلَكُ لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) قَالَ: فَتَخْرُجَ نَفْسُهُ كَأَطْيَبِ رِيحٍ وُجِدَتْ، فَتَعْرُجَ بِهِ الْمَلاَئِكَةُ فَلاَ يَأْتُونَ عَلَى جُنْدٍ فِيمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلاَّ قَالُوا: مَا هَذَا الرُوحُ.؟! فَيُقَالُ: فُلاَنٌ بِأَحْسَنِ أَسْمَائِهِ حَتَّى يَنْتَهُوا بِهِ إلَى أبوابَ سَمَاءِ الدُّنْيَا، فَيُفْتَحُ لَهُ وَيُشَيِّعُهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَيُقَالُ: اكْتُبُوا كِتَابَهُ فِي عِلِّيِّينَ: وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ فَيُكْتَبُ كِتَابُهُ فِي عِلِّييِّنَ، ثُمَّ يُقَالُ: رُدُّوهُ إِلَى الأَرْضِ فَإِنِّي وَعَدْتُهُمْ أَنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ وَفِيهَا نُعِيدُهُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى قَالَ: فَيُرَدُّ إِلَى الأَرْضِ وَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ، فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ شَدِيدَا الاِنْتِهَارِ فَيَنْهَرَانِهِ وَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولاَنِ: مَنْ رَبُّكَ.؟ وَمَا دِينُكَ.؟ فَيَقُولُ: رَبِيَ الله وَدِينِي الإِسْلاَمُ فَيَقُولاَنِ: مَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ.؟ فَيَقُولُ: هُوَ رَسُولُ الله ﷺ فَيَقُولاَنِ: وَمَا يُدْرِيكَ.؟ فَيَقُولُ: جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ من ربنا فَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُهُ وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: (يُثَبِّتُ الله الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ) وَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: قَدْ صَدَقَ عَبْدِي فَأَلْبِسُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَافْرِشُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَأَرُوهُ مَنْزِلَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، فَيُلْبَسُ مِنَ الْجَنَّةِ وَيُفْرَشُ مِنْهَا، وَيُرَى مَنْزِلَهُ مِنْهَا، وَيُفْسَحُ لَهُ مَدَّ بَصَرِهِ، وَيُمَثَّلُ لَهُ عَمَلُهُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ حَسَنِ الْوَجْهِ طَيِّبِ الرِّيحِ حَسَنِ الثِّيَابِ فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِمَا أَعَدَّ الله لَكَ ، أَبْشِرْ بِرِضْوَانٍ مِنَ الله وَجَنَّاتٍ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ فَيَقُولُ: بَشَّرَكَ الله، الله بِخَيْرٍ، مَنْ أَنْتَ.؟ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ الحسن الَّذِي جَاءَ بِالْخَيْرِ، فَيَقُولُ: هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ، فَوَالله مَا عَلِمْتُكَ إِلاَّ كُنْتَ سَرِيعًا فِي طَاعَةِ الله بَطِيئًا عَنْ مَعْصِيَتِهِ، فَجَزَاكَ الله خَيْرًا فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَقِمِ السَّاعَةَ كَيْ أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي وَمَالِي، قَالَ: وَإِنْ كَانَ فَاجِرًا فكَانَ فِي قُبُلٍ مِنَ الآخِرَةِ وَانْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا جَاءَهُ مَلَكٌ، فَجَلَسَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَقَالَ: اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ، أَبْشِرِي بِسَخَطِ من الله وَغَضَبِهِ.. فَتَنْزِلُ مَلاَئِكَةٌ سُودُ الْوُجُوهِ مَعَهُمْ مُسُوحٌ فَإِذَا قَبَضَهَا الْمَلَكُ قَامُوا فَلَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، فَتُفَرَّقُ فِي جَسَدِهِ، فَيَسْتَخْرِجُهَا فَتُقَطَّعَ مَعَهَا الْعُرُوقُ وَالْعَصَبُ، كَالسَّفُودِ الْكَثِيرِ الشِّعَبِ فِي الصُّوفِ الْمَبْلُولِ، فَتُؤْخَذَ مِنَ الْمَلَكِ، فَيَخْرُجُ كَأَنْتَنِ رِيحٍ وُجِدَت، فَلاَ تَمُرُّ عَلَى جُنْدٍ فِيمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلاَّ قَالُوا: مَا هَذَا الرَّوح الْخَبِيثُ.؟! فَيَقُولُونَ: فُلاَنٌ -بِأَسْوَإِ أَسْمَائِهِ- حَتَّى يَنْتَهُونَ بِهِ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَلاَ تُفْتَحُ لَهُ فَيَقُولُ: رُدُّوهُ إِلَى الأَرْضِ إِنِّي وَعَدْتُهُمْ أَنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ وَفِيهَا نُعِيدُهُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى، قَالَ: فَيُرْمَى بِهِ مِنَ السَّمَاءِ وَتَلاَ هَذِهِ الآيَةَ (وَمَنْ يُشْرِكْ بِالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) قَالَ: فَيُعَادُ إِلَى الأَرْضِ وَتُعَادُ فِيهِ رُوحُهُ، وفي رواية: فَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِ أَصْحَابِهِ إِذَا وَلَّوْا عَنْهُ.. وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ شَدِيدَا الاِنْتِهَارِ، فَيَنْهَرَانِهِ وَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولاَنِ: مَنْ رَبُّكَ.؟ وَمَا دِينُكَ.؟ فَيَقُولُ: لاَ أَدْرِي فَيَقُولاَنِ: فَمَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ.؟ فَلاَ يهْتدي لاِسْمِهِ فَيَقُولُ: لاَ أَدْرِي سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ ذَلِكَ فَيَقُولُونَ: لاَ دَرَيْتَ فَيَضِيقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ أَضْلاَعُهُ، وَيُمَثَّلَ لَهُ عَمَلُهُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ قَبِيحِ الْوَجْهِ مُنْتِنِ الرِّيحِ قَبِيحِ الثِّيَابِ، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِعَذَابِ الله وَسَخَطِهِ، فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ.؟ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ الَّذِي جَاءَ بِالشَّرِّ، فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ وَالله مَا عَلِمْتُكَ إِلاَّ كُنْتَ بَطِيئًا عن طَاعَةِ الله سَرِيعًا إِلَى مَعْصِيَتِهِ..
وفي رواية: «فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: أَنْ كَذَبَ، فَأَفْرِشُوهُ مِنَ النَّارِ، وَأَلْبِسُوهُ مِنَ النَّارِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى النَّارِ، فَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّهَا وَسَمُومِهَا، ويُضَيَّق عليه قبرُه حَتَى تختلفَ فيه أَضْلَاعُهُ». وفي رواية «فَيُقَيِّضُ لَهُ ملك أَصَمَّ أَبْكَمَ مَعَهُ مَرْزَبَةٌ لَوْ ضُرِبَ بِهَا جَبَلٌ صَارَ تُرَابًا أَوْ قَالَ: رَمِيمًا فَيَضْرِبُهُ ضَرْبَةً يَسْمَعُهَا الْخَلاَئِقُ إِلاَّ الثَّقَلَيْنِ، ثُمَّ تُعَادُ فِيهِ الرُّوحُ فَيَضْرِبُهُ ضَرْبَةً أُخْرَى». اللهم أعذنا من عذاب القبر وفتنته..
الثانية:
(قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الجمعة:8]
أيها الإخوة: تأملت هذه الآية فوجدت فيها لفتة من اللفتات القرآنية الموحية للمخاطبين بها وغير المخاطبين..
فهي تقرر في خلدِ متأمِلها حقيقةً ينساها الناسُ.. حقيقةٌ عجيبةٌ.. فالأصل أن ما يخافه الإنسان يهربُ منه لأنه يلحقه.. لكن المفزعُ الأكبرُ لمن هربَ مما يخاف أن يتلقَاه ما هَربَ منه! إذاً لا مَهربَ ولا فِكَاكَ منه.. وكفى بهذه الصورة موعظة.
أحبتي: صور زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم ورحمهم هذا الموقف فقال:
كَأَنَّنِي بَينَ جُـــــــــــــلِّ الأَهلِ مُنطَرِحاً ***** عَلى الــــــــــفِراشِ وَأَيْديهِمْ تُقَلِّبُني
وَقَدْ تَجَمَّعَ حَوْلي مَنْ يَنوحُ ومَنْ ***** يَبْكي عَلَيَّ ويَنْعـــــــــاني ويَنْدُبُني
وَقَدْ أَتَوْا بِطَبيبٍ كَــــــيْ يُعالِجَني ***** وَلَمْ أَرَ الطِّبَّ هذا اليومَ يَنْفَعُني
واشَتد نَزْعِي وَصَار المَوتُ يَجْذِبُها ***** مِن كُلِّ عِرْقٍ بِلا رِفقٍ ولا هَوَنِ
واستَخْرَجَ الرُّوحَ مِني في تَغَرْغُرِها ***** وصارَ رِيقي مَريراً حِينَ غَرْغَرَني
وَقامَ مَنْ كانَ حِبُّ النّاسِ في عَجَلٍ ***** نَحْوَ الـمُغَسِّلِ يَأْتيني يُغَسِّلُني
وَقالَ يا قَوْمِ نَبْغِي غاسِلاً حَذِقاً ***** حُراً أَديبًا أَريباً عَارِفاً فَطِنِ
فَجاءَني رَجُلٌ مِنْهُمْ فَجَرَّدَني ***** مِنَ الثِّيابِ وَأَعْـــــــــــــرَاني وأَفْرَدَني
وَأَوْدَعوني عَلى الأَلْواحِ مُنْطَرِحاً ***** وَصارَ فَوْقي خَرِيرُ الماءِ يُنْظِفُني
وَأَسْكَبَ الماءَ مِنْ فَوقي وَغَسَّلَني ***** غُسْلاً ثَلاثاً وَنَادَى القَوْمَ بِالكَفَنِ
وَأَلْبَسُوني ثِياباً لا كِمـــــــــــــامَ لها ***** وَصارَ زَادِي حَنُوطِي حِينَ حَنَّطَني
وأَخْـــــرَجُوْنِي مِنَ الدُّنيــــا فَوا أَسَفاًى***** عَلى رَحِيــــــــــــــــلٍ بِلَا زادٍ يُبَلِّغُني
وَحَمَّلوني على الأْكتافِ أَربَعَةٌ ***** مِنَ الرِّجالِ وَخَلْفِي مَنْ يُشَيِّعُني
وَقَدَّمُونِي إِلى المِحْرَابِ وانصَرَفوا *****خَلْفَ الإِمامِ فَصَلَّى ثُمَّ وَدَّعَني
صَلَّوْا عَلَيَّ صَلاةً لا رُكوعَ لها ***** ولا سُجودَ لَعَلَّ اللهَ يَرْحَمُني
وَأَنْزَلوني إلى قَبري على مَهَلٍ ***** وَقَدَّمُوا واحِداً مِنهم يُلَحِّدُني
وَكَشَّفَ الثّوْبَ عَن وَجْهي لِيَنْظُرَني *****وَأَسْكب الدَّمْعَ مِنْ عَيْنيهِ أَغْرَقَني
فَقامَ مُحتَرِماً بِالعَزْمِ مُشْتَمِلاً ***** وَصَفَّفَ اللَّبْنَ مِنْ فَوْقِي وفارَقَني
وقَالَ هُلُّوا عليه التُّرْبَ واغْتَنِموا ***** حُسْنَ الثَّوابِ مِنَ الرَّحمنِ ذِي المِنَنِ
في ظُلْمَةِ القبرِ لا أُمٌّ هناك ولا ***** أَبٌ شَفيقٌ ولا أَخٌ يُؤَنِّسُني
تَقاسمَ الأهْلُ مالي بعدما انْصَرَفُوا ***** وَصَارَ وِزْرِي عَلى ظَهْرِي فَأَثْقَلَني
واستَبْدَلَتْ زَوجَتي بَعْلاً لها بَدَلي ***** وَحَكَّمَتْهُ على الأَمْوَالِ والسَّكَنِ
فَــــــــــلا تَغُرَّنَّكَ الدُّنْيا وَزِينَتُها ***** وانْظُرْ إلى فِعْلِها بالأَهْلِ والوَطَنِ
وانْظُرْ إِلى مَنْ حَوَى الدُّنْيا بِأَجْمَعِها ***** هَلْ رَاحَ مِنْها بِغَيْرِ الحَنْطِ والكَفَنِ
خُذِ القَناعَةَ مِنْ دُنْيَاك وارْضَ بِها ***** لَوْ لم يَكُنْ لَكَ إِلا رَاحَةُ البَدَنِ
نسأل الله العفو والعافية....