هل تبكي من خشية الله تعالى؟

هلال الهاجري
1433/09/14 - 2012/08/02 21:55PM
إن الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه, ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالِنا, من يهدِه اللهُ فلا مضلَ له, ومن يضلل فلا هاديَ له, وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) أما بعدُ:

دخلَ عطاءٌ وعبيدُ بنُ عميرٍ على عائشةَ رضي اللهُ عنها فقالَ عبيدُ بنُ عميرٍ: يا أماه حدثينا بأعجبِ شيءٍ رأيتِه من رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم، فبكت وقالت: قامَ ليلةً من الليالي فقال: (يا عائشةُ ذريني أتعبدُ لربي)
قالت: قلتُ: واللهِ إني لأحبُ قربَك، وأحبُ ما يسرُك.
قالت: فقامَ فتطهرَ، ثم قامَ يصلي؛ فلم يزل يبكي حتى بَّلَ حجرَه، ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بَّلَ الأرضَ، وجاءَ بلالٌ يؤذنُه بالصلاةِ؛ فلما رآه يبكي قال:
يا رسولَ اللهِ، تبكي وقد غفرَ اللهُ لك ما تقدمَ من ذنبِك وما تأخرَ؟
قال: (أفلا أكونُ عبدًا شكورًا، لقد نزلت علي الليلةَ آياتٌ ويلٌ لمن قرأَها ولم يتفكرْ فيها:
(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ).

عبادَ الله ..

متى نبكي؟ .. وما الذي يبكينا؟ .. هل نبكي إذا تُليت علينا آياتُ القرآنِ؟ .. هل نبكي إذا سمعنا كلامَ اللهِ كما قالَ تعالى عن أهلِ العلمِ: (قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً)

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابن مسعود قَالَ: قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اقْرَأْ عَلَيَّ) قُلْتُ: أقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ، قَالَ: فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي. فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى بَلَغْتُ (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا) قَال:َ أَمْسِكْ فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ)

هل نتدبرُ الآيةَ الواحدةَ فتؤثرُ بنا؟ .. عن أبي ذرٍ رضي اللهُ عنه قال: قرأ النبيُ صلى اللهُ عليه وسلمَ هذه الآيةَ فرددَها حتى أصبحَ (إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

وهكذا كانَ السلفُ الصالحُ .. فبينما محمدُ بنُ المنكدرِ ذاتَ ليلةٍ قائمٌ يصلي إذ استبكى، فكثرَ بكاؤُه حتى فزعَ له أهلُه، وسألوه، فاستعجمَ عليهم، وتمادى في البكاءِ، فأرسلوا إلى أبي حازمٍ –صاحبُه- فجاءَ إليه، فقال: ما الذي أبكاك؟ قال: مرّت بي آيةٌ، قالَ: وما هي؟ قالَ: (وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) فبكى أبو حازمٍ معه ، فاشتد بكاؤُهما.

هل نربطُ ما نشاهدُه في حياتِنا اليوميةِ بكتابِ اللهِ تعالى، شربَ عبدُ اللهِ بنُ عمرَماءًَ بارداً، فأخذ يبكي واشتدَ بكاؤُه، فقيلَ له: ما يبكيك؟ فقال: ذكرتُ قولَ اللهِ تعالى: (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ) قال: فعلمتُ أن أهلَ النارِ يشتهون في النارِ الماءَ، فينادون في النارِ: (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ) ثم اشتدَ بكاؤُه مرةً أخرى.

كيف بك يا عبدَ الله إذا زرت القبورَ .. هل تجدُ في قلبِك رقةً؟ .. هل تفكرت في بيتِ المستقبلِ فتدمعُ عينُك؟ عن البراءِ رضي اللهُ عنه قالَ: كنّا مع رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ في جنازةٍ فجلسَ على شفيرِ القبرِ فبكى حتى بلَّ الثرى ثم قالَ: (يا إخواني لمثلِ هذا فأعدوا).

وكان عثمانُ رضي اللهُ عنه إذا وقفَ على قبرٍ بكى حتى يبلَ لحيتَه، فقيلَ له: تذكرُ الجنةَ والنارَ فلا تبكي، وتبكي من هذا؟ فقال إن رسولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم قالَ: (إن القبرَ أولُ منزلٍ من منازلِ الآخرةِ، فإن نجا منه، فما بعدَه أيسرُ منه، وإن لم ينجُ منه؛ فما بعدَه أشدُ منه) قال: وقال رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: (مَا رَأَيْتُ مَنْظَرًا قَطُّ إِلَّا وَالْقَبْرُ أَفْظَعُ مِنْهُ).

أيها المؤمنون ..

هل نبكي على خطايانا؟ فإن البكاءَ على الخطيئةِ من أسبابِ النجاةِ .. جاءَ عقبةُ بنُ عامرٍ رضي اللهُ عنه إلى النبيِ صلى اللهُ عليه وسلم يسألُه: ما النجاةُ؟ أي كيف ننجو من عذابِ اللهِ؟ فقالَ له: (أمسكْ عليك لسانَك، وليسعْك بيتُك، وابكِ على خطيئتِك).

قالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ حَبِيبٍ وكانَ قريباً لمَالِكِ بْنِ دِينَارٍ: قُلْتُ لِنَفْسِي: يَمُوتُ مَالِكٌ وَأَنَا مَعَهُ فِي الدَّارِ وَلا أَعْلَمُ مَا عَمَلُهُ؟ قَالَ: فَصَلَّيْتُ مَعَهُ عِشَاءَ الآخِرَةِ، وَجَاءَ مَالِكٌ فَدَخَلَ فَقَرَّبَ رَغِيفَهُ فَأَكَلَ، ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلاةِ فَاسْتَفْتَحَ، ثُمَّ أَخَذَ بِلِحْيَتِهِ، فَجَعَلَ يَقُولُ: يَا رَبِّ، إِذَا جَمَعْتَ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ فَحَرِّمْ شَيْبَةَ مَالِكٍ عَلَى النَّارِ، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا زَالَ كَذَلِكَ حَتَّى غَلَبَتْنِي عَيْنِي، قَالَ: ثُمَّ انْتَبَهْتُ، فَإِذَا هُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ يُقَدِّمُ رِجْلاً وَيُؤَخِّرُ رِجْلاً، وَيَقُولُ: يَا رَبِّ، إِذَا جَمَعْتَ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ فَحَرِّمْ شَيْبَةَ مَالِكٍ عَلَى النَّارِ، قَالَ: فَمَا زَالَ كَذَلِكَ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ.

وعظَ مالكُ بنُ دينارٍ رحمه اللهُ يوماً، فبكى حوشبٌ، فضربَ مالكٌ بيدِه على منكبِه، وقالَ: (ابكِ يا أبا بشرٍ، فإنه بلغني أن العبدَ لا يزالُ يبكي؛ حتى يرحمَه سيدُه، فيعتقَه من النارِ).

وهكذا كانَ الصحابةُ رضي اللهُ عنهم تخشعُ قلوبُهم وتدمعُ أعينُهم إذا سمعوا الموعظةَ .. فعن العرباضِ بنِ ساريةَ رضي اللهُ عنه قالَ: (وَعَظَنا رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم موعظةً بليغةً ذرفت منها العيونُ، ووَجِلت منها القلوبُ).

قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: (عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ).

أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ تعالى لي ولكم من كلِ ذنبٍ فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.



الحمدُ للهِ ربِ العالمينَ وأصلي وأسلمُ على رسولِ اللهِ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ و على آلِه وصحبِه و من اقتدى به إلى يومِ الدينِ ... أما بعد:

عبادَ اللهِ ..

من وجدَ في هذا الزمانِ أناساً يذَكِّرونَهُ باللهِ عز وجل ويخَوِّفونه .. فإنها نعمةٌ من اللهِ عظيمةٌ فليصبرْ نفسَه معهم .. قَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ مُخَادِشٍ ذَاتَ يَوْمٍ إِلَى الْحَسَنِ: كَيْفَ نَصْنَعُ بِأَقْوَامٍ يُخَوِّفُونَنَا حَتَّى تَكَادَ قُلُوبُنَا تَطِيرُ؟ فَقَالَ الْحَسَنُ: (وَاللَّهِ لأَنْ تَصْحَبَ أَقْوَامًا يُخَوِّفُونَكَ حَتَّى يُدْرِكَكَ الأَمْنُ، خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَصْحَبَ أَقْوَامًا يُؤَمِّنُونَكَ حَتَّى يَلْحَقَكَ الْخَوْفُ).

وإن وجدتَ صاحباً لك على ذلك فالزمْهُ فإنك لا تجدْ مثلَه.. بَاتَ هَرِمُ بْنُ حَيَّانَ عِنْدَ حُمَمَةَ، فَبَاتَ حُمَمَةُ بَاكِيًا حَتَّى أَصْبَحَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ لَهُ هَرِمٌ: يَا أَخِي، مَا أَبْكَاكَ اللَّيْلَةَ؟ قَالَ: (ذَكَرْتُ لَيْلَةً صَبِيحَتُهَا تَنَاثَرُ الْكَوَاكِبُ) ، وَبَاتَ حُمَمَةُ عِنْدَ هَرِمٍ لَيْلَةً أُخْرَى، فَبَاتَ هَرِمُ بْنُ حَيَّانَ بَاكِيًا حَتَّى أَصْبَحَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ لَهُ حُمَمَةُ: يَا أَخِي، مَا أَبْكَاكَ اللَّيْلَةَ؟ قَالَ: (يَا أَخِي ذَكَرْتُ لَيْلَةً صَبِيحَتُهَا تَبَعْثَرُ الْقُبُورُ لَلْمَحْشَرِ إِلَى اللَّهِ) وَكَانَا إِذَا أَصْبَحَا غَدَوَا, فَمَرَّا بِأَكْوِرَةِ الْحَدَّادِينَ كَيْفَ يُنْفَخُ عَلَيْهَا، فَيَقْعُدَانِ، وَيَبْكِيَانِ، وَيَسْتَجِيرَانِ اللَّهَ مِنَ النَّارِ. ثُمَّ يَأْتِيَانِ أَصْحَابَ الرَّيَاحِينِ، فَيَقِفَانِ، فَيَسْأَلانِ اللَّهَ الْجَنَّةَ. ثُمَّ يَدْعُوانِ بِدَعَوَاتٍ، وَيَفْتَرِقَانِ).

فإن لم تجدْ أحداً يذكرُك باللهِ تعالى وتبكي معه من خشيةِ اللهِ .. فذكرْ نفسَك وتعاهدْ قلبَك .. يقولُ رجلٌ: كنتُ أتعجبُ من حياةِ سُفيانَ الثوريِ ومن خشيتِه وبكاءِه .. فكنتُ أتبعُه في خلواتِه وجلواتِه، فرأيتُ منه عجباً، رأيتُ أنه يقفُ في اليومِ مراتٍ يخرجُ من جيبِه رقعةً فينظرُ إليها ثم يعيدُها، يفعلُ ذلك في اليومِ مراتٍ، يقولُ: فازددتُ إصراراً في معرفةِ سرِ الورقةِ، فما زلتُ خلفَه حتى وقعت الورقةُ في يدي، فنظرتُ فيها فإذا مكتوبٌ فيها ..
(يا سفيانُ، اذكرْ وقوفكَ بين يدي اللهِ عز وجل).

اللهم إنا نعوذُ بك من علمٍ لا ينفعُ، ومن قلبٍ لا يخشعُ، ومن عينٍ لا تدمعُ ومن دعوةٍ لا يستجابُ لها .. رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ..
المشاهدات 3007 | التعليقات 1

بارك الله فيك..