هل الوباءُ مؤامرةٌ؟ د. أحمد بن عبد الرحمن العمر

الفريق العلمي
1441/10/08 - 2020/05/31 16:13PM

 

الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبِه.

في عام 1430 هجريًّا 2009 ميلاديًّا قدَّر الله الحكيمُ الخبير سبحانه انتشارَ إنفلونزا A/H1N1 واشتهرت باسم (إنفلونزا الخنازير)، وتداول الناسُ مقابلةً لإحدى القنواتِ الفضائيَّةِ العربيَّة مع أحد الباحثين الأمريكيين مفادُها أنَّ الوباءَ مؤامرةٌ مُدبَّرة، والفيروس مُصَنَّع، كما انتشرت رسالة SMS تحمِلُ تحذيرًا من وزيرة الصِّحَّة الفنلنديَّة بأنَّ الوباءَ مُدَبَّرٌ، واللِّقاح الذي تمَّ إنتاجُه يرادُ به تقليلُ عدد سكَّان الأرض بنسبة الثُّلثَين من خلال تأثيرِه على الجيناتِ البشريَّة، وحذَّرت تلك الرسائلُ من أنَّ المقصودَ بتلك المؤامرة بالدَّرجةِ الأولى هم دولُ العالمِ الثَّالثِ، ومنهم العربُ والمسلمون!

 

حالةُ الخوف والهَلَع التي انتشرت من الوباءِ ومن تلك الرَّسائل انتهت بفَضلِ اللهِ ولُطفِه حين هدأت موجةُ الوباء، ولم تظهرْ مشكلاتٌ صِحِّيَّةٌ على الذين أخذوا اللِّقاحَ، وما زال اللِّقاحُ يُستعمَلُ إلى الآن ضِمنَ لقاح الإنفلونزا الموسميَّة؛ لأنَّ الفيروس بعد الحالة الوبائيَّة اندرج في قائمةِ الفيروسات التي تُسبِّب إنفلونزا موسميَّة. تبيَّن عدمُ صِحَّة رسائل المؤامرةِ، لكنَّها نجحت في زيادةِ الخوف والقلَقِ، ورَفْضِ شريحةٍ كبيرة في مجتمعنا للَّقاحِ، وانتشر الشَّكُّ في مصداقيَّة مسؤولي الصِّحَّة والهيئاتِ الطبيَّةِ.

لماذا يميلُ البعضُ للشُّعورِ بوجودِ مؤامرة مُدَبَّرة (يَشَمُّ رائحةَ المؤامرة) بمجرَّد ظهور الوباءِ، وقبل معرفةِ تفاصيلِه؟!

تشيرُ بعضُ البحوث الغربيَّة التي درَسَت تنامِيَ فكرةِ المؤامرة عندهم إلى وجودِ أسبابِ نفسيَّةٍ ومعرفيَّةٍ وشخصيَّةٍ لهذا الميلِ:

 بعضُ الأشخاص يعتنقون فكرةَ المؤامرة عند شعورِهم بالقَلَق أو قِلَّة الحيلة، أو بسبب شعورِهم بالتهميشِ وبُعدِهم عن مواقعِ التأثير.

لذلك تظهَرُ دعوى أنَّ الوباءَ واللِّقاحاتِ مؤامرةٌ لدى الأفراد والمجموعات الأقَلِّ سيطرةً اقتصاديًّا وسياسيًّا، كما يتحمَّسُ لها أنصارُ مدرسة الطبيعة الذين يتبنَّون التداويَ بالأعشابِ والمستحضراتِ الطبيعيَّةِ، ويرفضون تصَدُّرَ الطبِّ الحديثِ للممارسةِ العلاجيَّةِ، ويرفُضونَ أنشطةَ شركات الأدويَة، وتصنيع العقاقير واللِّقاحات.


الاعتقادُ بفكرة المؤامَرةِ في هذه الحالةِ يخدُمُ كوسيلةٍ دفاعيَّةٍ نفسيَّةٍ عند شعورِ الفردِ بالعَجزِ، فيتَّهِمُ القُوى المسيطِرةُ بالمؤامرة؛ ليمنَحَ نَفسَه شعورًا بالرِّضا والتنفيس، لكِنَّ الدراساتِ بيَّنت أنَّ الأثر عكسيٌّ؛ فبدلًا من شعوره بالرِّضا يصبِحُ أكثَرَ قلقًا وأقَلَّ تفاعُلًا مع الأحداثِ؛ لأنَّه يراها مُدبَّرةً، ولا يملِكُ تغييرَها أو مقاوَمتَها.

 

الحُكمُ على الوباء بأنَّه مؤامرةٌ فورَ ظُهورِه هو اختيارٌ نفسيٌّ مُسبقٌ لإشباع مشاعر الحَنَق من القُوى الأكثر نفوذًا، أو حيلةٌ نفسيَّةٌ ليظهَرَ المرءُ أمام نفسِه والآخَرين بمظهرٍ إيجابيٍّ؛ فالمصائب التي تقع عليه سببُها كيدُ الأعداء والخُصوم، وعدمُ قدرتِه على مقاومتِها ليس دليلًا على نقصِه، وإنَّما بسبب شدَّة مكر ونفوذ قوى الشَّرِّ!

 

السَّببُ المعرفيُّ لاعتناق فكرة المؤامرة هو العادةُ العقليَّةُ لدى البعضِ بضرورة الرَّبط بين الأشياء وإيجادِ المعاني لكلِّ ما يحدثُ، ومِن ثَمَّ عدم قَبول التفسيرات التلقائيَّة والعَفويَّة للأحداثِ، وخصوصًا الكبيرةَ، وعدم الارتياح لبقاء أسئلةٍ عالقةٍ غيرِ معروفةِ الإجابة، فالأوبئةُ العامَّةُ عندهم لا بدَّ لها من ترتيبٍ مُسبقٍ ضَخمٍ، ولا تحدث فقط هكذا، وتفسيرُها بالمؤامرة يجيبُ على كلِّ الأسئلة التي لا يجيبُ عليها المتخصِّصون؛ لأنَّهم يحتاجون الكثيرَ من الوقت لدراسة الجائحة الوبائيَّة قبل الإجابةِ.

السَّبَبُ الآخَرُ لدى طائفةٍ قليلة من معتَنِقي فكرة المؤامرة هو نمطُ الشخصيَّةِ النَّرجسيَّة؛ فاعتقاد المؤامرة يعطي صاحِبَ هذه الشخصيَّة الشُّعورَ بالفوقيَّةِ ومعرفة ما لا يعرفه عامَّةُ الناس، وهؤلاء لديهم نزعةٌ لاحتقار الآخَرين واتهامِهم بالتغفيل والغباء.

 

لا تقومُ فِكرةُ المؤامرة على البراهين، ولكِنَّها تعتمد على الرَّبطِ بين الأحداث والمستفيدين منها، أو التوقُّعاتِ الاستباقيَّةِ لبعض الرُّموز السياسيَّة والاقتصاديَّة، أو الثُّغراتِ في الأخبار الرَّسميَّة، أو حالات الأخطاء والفساد التي تقع أحيانًا في بعض الدَّوائر الصحيَّة.
 

يَصعُبُ إقناعُ أصحاب فكرةِ المؤامرةِ بخلاف فِكرتِهم، حتى لو ظهرت تفاصيلُ تُثبِت أنَّ الوباءَ كان أمرا طبيعيًّا وغيرَ مُدَبَّرٍ؛ لأنَّهم يفسِّرون النتائجَ تبعًا لفكرة المؤامرة، فإذا حدث ما يعتبرونه دليلًا، كوفاة عالمٍ مهتمٍّ بالوباءِ، أو تمَّ عقدُ صفقات دوائيَّة، قالوا: هذا يُثبِتُ المؤامرة، وإذا ظهر ما يُثبِتُ العكسَ، كالدراسات المتخصِّصة التي تؤكِّدُ مصدرَ الميكروب، وكونَه غيرَ مُصَنَّع، واتفاق كافَّة دول العالمِ الغربيَّة والشرقيَّة والحياديَّة (والتي لا يُعقَلُ تواطؤُها على الكَذِبِ) على مواجهةِ الأزمة كوباءٍ طبيعيٍّ، قالوا: المتآمِرون يُزَيِّفون الأدلَّةَ لإخفاء المؤامرة، وإذا لم يظهَرْ أيُّ دليل قالوا: المتآمِرون يلتزِمونَ الحذَرَ؛ كي لا تنكَشِفَ مؤامرتُهم! بل لا يتورَّعُ بعضُهم عن اتِّهام من خالفه الرأيَ بأنَّه جزءٌ من المؤامرة!

ولذلك فكثيرٌ ممَّن قالوا: إن إنفلونزا الخنازير واللِّقاح الخاصَّ بها كانت مؤامرةً لتقليل سكَّان الأرض، لم يتراجعوا بسبب ما آلت إليه تلك الجائحةُ، وبادروا بفكرة المؤامرةِ على وباء (كورونا) الحالي منذ ظهوره، وعلى الأرجح لن يقتنعوا بكلِّ التفاصيل التي أثبتت خلافَ نظريَّتِهم.

 

في العالَمِ الإسلاميِّ توجَدُ نفس المبرِّرات النفسيَّة والمعرفيَّة والشخصيَّة لدى البعض لتصديق فكرةِ المؤامرة باعتبار تشابهِ البشَرِ في أصل الخِلقةِ، وقد نكونُ أكثرَ عُرضةً لانتشارها نظرًا للظُّروف السلبيَّة التي يعيشها العالمُ الإسلاميُّ عَقَديًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا وأمنيًّا منذ أن تسلَّط عليه الاستعمارُ الرُّوسي والغربي، فنحَّى الشريعةَ وزرع اللادينيَّةَ والفِرَقَ الباطنيَّةَ المنحرِفةَ، ونَزَع الحِشمةَ، ونَشَر الفواحِشَ، وقسَّم الشعوبَ، وسلب الخيراتِ، وأثار النَّعراتِ والخلافات، وما خرج من العالمِ الإسلاميِّ بجسَدِه إلَّا وقد ترك فيه نظرياتِه وثقافتَه وتلاميذَه، وصفحاتٍ من الذِّكرياتِ المؤلِمةِ دَوَّنَها الغيُورون على دينِهم وبلادِهم؛ لتقرأَها الأجيالُ مِن بعدِهم، فيروا الكثيرَ من تلك الآثار ما زالت تنهشُ جسدَ الأمَّةِ، فالمسلِمُ المعاصِرُ ما زال موجوعًا من غدرة الاستعمارِ، ولا غرابةَ أن ينظر للأحداثِ العالميَّة الكبرى بعينِ التوَجُّسِ والقَلَق والرِّيبة، إلَّا أنَّ بعضَ الأفاضل -وفَّقنا الله وإياهم- بالَغَ في معايشة الألم والسلبيَّات واستغرقته المأساةُ، ووجد لدى منَظِّري المؤامرة الغربيِّين والشرقيِّين ما يعتقدُ أنَّه يَشفي غليلَه، في حينِ لم يشعُرْ أنَّه يشرَبُ من ماء البحرِ! ولذلك فإن المتأمِّلَ لتغريدات ومقالات ومقاطع بعض الفُضلاء الذين يرون المؤامرةَ خلفَ الوباءِ يُدرِكُ حجم القلَقِ الذي يعيشونَه، ومِن ثمَّ يَنشُرونَه بين متابعيهم وهم لا يشعُرونَ!


 الأوبئةُ جزءٌ من الماضي والحاضر والمستقبل؛ فليس صعبًا توقُّعُها

من الناحيَةِ الشَّرعيَّةِ لدينا تنبيهٌ واضحٌ بأنَّ الأوبئةَ موجودةٌ من القِدَمِ؛ فأخبرنا النبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- أنَّ الطَّاعونَ رِجزٌ -أي: عذابٌ- وقع على قومٍ مِن قَبلِهم، وأنَّه لن يزال موجودًا رحمةً للمؤمنين، وقد أمر النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- بتغطيةِ الآنيَةِ، وقال: "فإنَّ في السَّنةِ يومًا يَنزِلُ فيه وباءٌ". قال اللَّيثُ بنُ سعدٍ رحمه الله، وهو من كبار تابعي التابعين، ومن رُواة هذا الحديثِ: الأعاجِمُ عندنا يتَّقون ذلك في كانونَ الأوَّلِ، أي: يتوقَّعون نزولَ الوباءِ في شَهرِ ديسمبر.

 

ومن الناحيَةِ التاريخيَّةِ تخبرُنا كتبُ التاريخِ عن العديد والعديد من الأوبئةِ في الماضي القريبِ والبعيدِ.

 

ومن الناحيَةِ الطبيَّةِ فالمتخصِّصون في الوبائيَّات والأمراض المُعْدِيَة ومكافحتِها أعرَفُ النَّاسِ بحجمِ وتَكرارِ الأوبئة المعاصِرة. في دراسة نُشِرت عام 2014  رَصَدت الأوبئةَ التي ظهرت بين عامي 1980 و 2013 (أي خلال 33 سنة) فكانت أكثر من 12 ألف متفشِّيَة وبائيَّة لـ 215 مرضًا وبائيًّا مختلفًا أصاب 44 مليونَ فردٍ في 219 دولة، وحجمُ المتفشِّيات متفاوِتٌ (وباء في مدينة واحدة أو عدة مُدُن في دولة واحدة، أو عدة دُول، أو جائحة عالميَّة)، ولوحِظَ أنَّ المتفَشِّيات الوبائيَّة تتزايد عَبْرَ السنوات؛ لذلك زادت المجلَّات الطبيَّة الدوريَّة المتخصِّصة في الأمراض المُعْدِيَة والأوبئة ومكافحتِها، كما زاد عددُ المؤتمرات الطبيَّة في ذات المجالِ، وأيضًا زاد عدد مراكز مكافحة الأوبئة في الدُّوَل، وقامت منظمةُ الصِّحَّة العالميَّة في عام 2015 بعقد ورشة عمل لخبراء مكافحة الأوبئة من مختلِف دُولِ العالم، وخرجت بتوصياتٍ مهمَّة؛ من أبرزها: زيادةُ التحضير للتعامُلِ مع أوبئة وجوائح متوقَّع ظهورُها.

 

قامت عدةُ مراكز بحثيَّة بإقامة تجارِبِ محاكاةٍ للأوبئة (سيناريو لحالة وبائيَّة كأنَّها حقيقيَّةٌ، وليست حقيقيَّةً؛ للتدريبِ على مكافحتِها، والتعَرُّف على الثُّغراتِ وسُبُل تحسين وسائل الوقايَةِ). تزامَنَ مع هذا الحراكِ العِلميِّ المكثَّفِ المنشورِ والمُعلَنِ ظهورُ العديد والعديد من التوقُّعات والتحذيرات العِلميَّة، والمئات من الأفلام السينمائيَّة (أكثر من 400 فيلم عن الأوبئة حسب جريدة اليوم السابع) والقصص الروائيَّة والتحذيرات الرسميَّة وغير الرسميَّة لعدد من رجالِ السياسة والاقتصاد، بل وتكهُّنات العرَّافين .. كلُّها تحكي سيناريوهات مختلفةً لأوبئة مستقبليَّة؛ قِسمٌ من التوقُّعات غريبٌ وخياليٌّ، وقِسمٌ يتَّسِمُ بالواقعيَّة والرزانة مستفيدًا من خبرةِ ورأي المتخصِّصين في الطِّبِّ الوقائي والأم

المشاهدات 803 | التعليقات 0