هَلْ استَشْعَرنَا كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ. 1440/8/14هـ
عبد الله بن علي الطريف
أيها الإخوة: يقولُ اللهُ تعالى مخاطباً نبيَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) [الذاريات:55] قال الشيخُ السعديُ رحمه الله في تفسيره: "من التذكيرِ تَذْكِيرٌ بما هو معلومٌ للمؤمنين، ولكن انسحبتْ عليه الغفلةُ والذُّهولُ، فيُذكَّرون بذلك، ويكرَّرُ عليهم ليرسخَ في أذهانِهم، وينتبهوا ويعملوا بما تَذَكَّرُوه من ذلك، وليحدثَ لهم نشاطًا وهمَّةً، توجبُ لهم الانتفاعَ والارتفاعَ".
وأخبرَ اللهُ أنَّ الذِّكرى تنفعُ المؤمنين؛ لأنَّ ما معهم من الإيمانِ والخشيةِ والإنابةِ، واتِّباعِ رضوان الله، يوجبُ لهم أَنْ تنفعَ فيهم الذِّكرى، وتقعَ الموعظةُ منهم موقعها كما قال تعالى: (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى).. ومن هذا المنطلقِ رأيتُ التذكيَر بأهمية رعاية الأسرة:
أيها الإخوة: نعيش في هذه الأيام في عالم انفتح على بعضه فأصبح العالم كقرية واحدة ما يحدث في مكان يعلم في أقاصي الدنيا، وتبِعَ هذا الانفتاحَ انكبابُ الناس على وسائل التواصل الاجتماعي، وتيسر الاطلاع على كل الثقافات والديانات والتوجهات والفعاليات، فكل ما يذكر من خير وشر يستعرضه أي فرد بلمسة زر واحدة، وهذا أحدث بعداً في الثقافات بين الجيل الجديد والجيل السابق، الذي تربى من خلال التوجيهِ المباشر والقدوةِ الصالحة وأصبح المربون من المعلمين والمعلمات والآباءِ والأمهات في حيرةٍ من أمرهم، فمنهم من ترك الحبل على الغارب، ومنهم من يحاول ويكافح وهؤلاء هم الموفقون والمهديون بإذن الله، وهم من فقه أمر الله وتوجيه رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوُلِهِ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» قَالَ: -وَحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ- «وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» رواه البخاري ومسلم عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. قَالَ الْعُلَمَاءُ الرَّاعِي هُوَ الْحَافِظُ الْمُؤْتَمَنُ الْمُلْتَزِمُ صَلَاحَ مَا قَامَ عَلَيْهِ، وَمَا هُوَ تَحْتَ نَظَرِهِ فَفِيهِ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ تَحْتَ نَظَرِهِ شَيْءٌ فَهُوَ مُطَالَبٌ بِالْعَدْلِ فِيهِ وَالْقِيَامِ بِمَصَالِحِهِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ وَمُتَعَلِّقَاتِهِ..
وقال شيخنا محمد العثيمين رحمه الله في شرح الحديث: هذا خطاب للأمة جميعاً يبينُ فيه الرسولُ صلى الله عليه وسلم أن كل إنسانٍ راع ومسؤولٌ عن رعيته. والراعي هو الذي يقوم على الشيء ويرعى مصالحه فيهيئها له، ويرعى مفاسده فيجنبه إياها، كراعي الغنم ينظر ويبحث عن المكان المربع حتى يذهب بالغنم إليه، وينظرُ في المكان المجدب فلا يتركها في هذا المكان.. هكذا بنو آدم كل إنسان راعٍ، وكل مسؤول عن رعيته..
وقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً، يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ، إِلَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» رواه مسلم عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ الْمُزَنِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. [يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً] يعني يفوض إليه رعاية رعية، وإذا لم يحطهم بنصيحته وضيع ما يجب عليه في حقهم فإنه لا يدخل معهم الجنة. وأهمها النصيحة في دين الله، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الخير.
ومن النصيحة لهم أن يسلك بهم الطرق التي فيها صلاحهم في معادهم ومعاشهم، فيمنع عنهم كل ما يضرهم في دينهم ودنياهم، يمنع عنهم الأفكار السيئة، والأخلاق السافلة، وما يؤدى إلى ذلك؛ ولهذا يجب على ولي الأمر في البيت وهو الرجل في بيته أن يمنع من وجود هذه الأشياء في بيته. أهـ. يعني يمنع كل سيء من الوسائل ويوجه من استرعاه الله إياهم للخير وسبله.
أيها الإخوة: إذا كانت هذه خطورة رعاية من استرعانا الله من الأهل والذرية؛ فجميل أن نتواصى بما يُعيننا على القيام بها، ومن أهم ما نتواصى به: تقوى الله تعالى فهي وصيته الدائمة والمنجية، قال الله تعالى: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ)[النساء:131] وهذه الوصية وصية عظيمة جامعة لحقوق الله تعالى وحقوق عباده، ووصى بها رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا ذَرٍ ومُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ وأَبَا هُرَيْرَةَ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم فقال لكل واحد منهم: «اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ» رواه الترمذي، وحسنه الألباني. ومراده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: «اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ» أي في السرِّ والعلانية حيث يراه الناسُ وحيث لا يرونه، وفي حديث أَبِيِ ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: «أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللهِ فِي سِرِّ أَمْرِكَ وَعَلَانِيَتِهِ» رواه أحمد وقال الألباني حسن لغيره. ودعا اللهُ للتقوى عبادَه المؤمنين دعوةً صريحة فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102] وفي الجملة، فإن تقوى الله هي وصيةُ الله تعالى لجميع خلقه، ووصيةُ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأمته، وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بَعَثَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ المُسْلِمِينَ خَيْرًا.
أيها الإخوة: ومن أهم ما ينبغي للراعي تركيزه بنفوس رعيته بدعوتهم إليه، وَتَمَثُل ذلك بنفسه، الاستقامة في الخلوات، فمن استقام في خلواته كان من المحسنين؛ والإِحْسَانِ «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» رواه البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وقد أثنى الله تعالى على خشيتِهِ بالغيبِ في غيرِ ما موضع من كتابه، ورتَّبَ عليها المغفرةَ ودخولَ الجنة، من ذلك قول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ). [الملك:12]، أي: في جميع أحوالهم، حتى في الحالة التي لا يطلع عليهم فيها إلا الله، فلا يُقْدِمُون على معاصِيه، ولا يُقَصِرون فيما أَمَرَ به.. وهؤلاء هم المتقون الذين جعل أبرز صفاتهم: (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ) [الأنبياء:49] أي: يخشونه في حال غيبتهم، وعدم مشاهدة الناس لهم، وهم في حال المشاهدة أولى، فيتورعون عما حرَّمَ، ويقومون بما ألزم.. ومن عظيم اهتمام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك ما رواه ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَلَّمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُومُ مِنْ مَجْلِسٍ حَتَّى يَدْعُوَ بِهَؤُلَاءِ الدَّعَوَاتِ لِأَصْحَابِهِ: «اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ..» اقسم أي بمعنى قَدِّر، والخشية هي الخوف المقرون بالعلم وقوله: "مَا يُحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ" ذلك أن الإنسان كلما خشي الله عز وجل منعته خشيته من الله أن ينتهك محارم الله.. فحري بنا أن ندعو بهذه الدعوات بحضرتهم في معظم مجالسنا فهذا له شأن كبير في نفوسهم.. بارك الله لي ولكم..
الثانية:
أيها الإخوة: ومن أهم الوصايا القرب من الأولاد والزوجة وعمومِ أهلِ البيت، ذلك أن الانشغالَ عنهم بعملٍ أو أنسٍ ورحلات، وإهدارِ الأوقات مع الأصحابِ وغيرِهم في البراري والاستراحات والمخيمات سببٌ كبيرٌ ببعدهم عنا، ومن ثم عدم معرفة الراعي بأحوالهم؛ فتحدث جفوةٌ بينهم.. وهذا والله هو الخسران المبين فكيف يُقَدِمُ العاقلُ الأغرابَ على فلذاتِ كبدِه فيمضي معهم سحابةَ نهارِه ومعظمَ ليلِه غيرَ آبهٍ بمستقبلِهم وبما فرَّطَ به من واجبٍ وأمانة..
وحريٌ بالأبِ والأمِ أن يقتربا من بعضِهما ومن أولادِهما، بالجلوسِ معهم والتنزهِ معهم ومشاركتهم المشيَ والرياضةَ وغيرَها، ويعلمُهم مهاراتِ الحياةِ ويسمعُ منهم ويتعرفُ على مَنْ يجالسون ومَنْ يصاحبون، ويشاورُ كبيرَهم ويتحدثُ لصغيرِهم ويلاعبِه، ويبدى وجهة نظره بما يرى من مواقف، ويتفقُ معهم على وضعِ ضوابطَ للجلساتِ وعمومِ الحياة، ويتفقدُهم في الوجباتِ، ويُثني عليهم في الأعمالِ الطيبات.. ويدعو لهم بمسمعٍ منهم وفي الخلوات، ويظهرُ لهم الودَ والأنسَ..
أيها الآباء: احذروا وحَذِّرُوا نساءَكم من الدعاءِ على الأولادِ؛ فقد نهى عنه رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لَا تُوَافِقُوا مِنَ اللهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءٌ، فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ» رواه مسلم وأبو داود، وزاد «وَلَا تَدْعُوا عَلَى خَدَمِكُمْ» عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.. ومما يجبُ تجنبُه في خطابِ الأولادِ وغيرِهم وصفُهم بأسماءِ الحيواناتِ أغيرِها من الصفاتِ الذميمةِ كالغباءِ وسوءِ التصرفِ والجنونِ فقد نهنا اللهُ تعالى عن ذلِك فقال: (وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الحجرات:11] قال الشيخُ ابنُ بازٍ رحمه الله: أي: لا يَقُلْ أحدُكم للآخرِ: يا حمار، يا قط، يا كلب، يا نيص، يا خنزير، يا كذا، يا كذا، لا.. يُخاطبُه بالتي هي أحسن.. يُخاطبُه بأحسنِ أسمائِه، وأطيبِ أسمائِه.. فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَتْ: بَيْنَا أَنَا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ اسْتَأْذَنَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ، فَأَذِنَ لَهُ، فَقَالَ: السَّامُ عَلَيْكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَعَلَيْكَ" قَالَتْ: فَهَمَمْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ، قَالَتْ: ثُمَّ دَخَلَ الثَّانِيَةَ، فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَعَلَيْكَ" قَالَتْ: ثُمَّ دَخَلَ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ: السَّامُ عَلَيْكَ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: بَلِ السَّامُ عَلَيْكُمْ وَغَضَبُ اللهِ إِخْوَانَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ، أَتُحَيُّونَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا لَمْ يُحَيِّهِ بِهِ اللهُ.؟ قَالَتْ: فَنَظَرَ إِلَيَّ، فَقَالَ: "مَهْ، إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَلَا التَّفَحُّشَ، قَالُوا قَوْلًا، فَرَدَدْنَاهُ عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يَضُرَّنَا شَيْءٌ، وَلَزِمَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" رواه أحمد وصححه الألباني.
اللهم وفقنا لحسنِ الرعايةِ، وأصلحْ ذريتِنا وذرياتِ المسلمين...