..هكذا فلتكن العدالة..

الشّيخ محمّد الشاذلي شلبي
1441/06/24 - 2020/02/18 22:10PM

 إنّ الحمد لله نحمده و نستعينه و نستغفره، و نعوذ بالله من شرور أنفسنا و سيّئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضلّ له و من يضلل فلا هادي له.. و أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، أشهد أنّك واحد في ذاتك و أسمائك و صفاتك و أفعالك لا إله إلاّ أنت، أشهد أنّك مستحقٌّ للعبادة، مستوجب للطّاعة، أشهد أنّك أهل لأن تذكر و تشكر، حقيقٌ أن تطاع و تُحَبّ، و تعظّم و تقدّس و تُسأل و تُقْصد، تعاليت عن الشريك و النديد و الضديد و الشبيه و الصاحبة و الولد، و أشهد أنّك أحدٌ صمد لم تلد و لم تولد و لم يكن لك كفوا أحد، سبحان الله.. سبحان الله انتشل ذا النون من الظلمات.. سبحان من نجى نوحا من الكربات، سبحان من أطفأ النار لإبراهيم.. و جمّد الماء للكليم..سبحان من أنشأ القرون و أعادها، و أحيا المم و أبادها، سبحان من ملأ القلوب من هيبته، و الأرواح من عظمته، و عمّر الأكوان بحكمته، و طوّق الأعناق بنعمته، سبحان من تفرّد بالبقاء، و جلّ عن الشركاء، و أبدع كلّ شيء كما يشاء.. وحّدوا الله.. لا إله إلا الله تُرضيه.. لا إله إلاّ الله بها نلاقيه.. لا إله إلاّ الله تملأ الكون و ما فيه.. لا إله إلاّ الله كلّما دجى الليل، و كلّما انكشف الهول و الويل، و كلّما انعقد السحاب و جرّ السيل..     

وأشهد أنّ سيدنا محمّدا عبده و رسوله، نبيّ أعطاه الله شجاعة موسى، و شفقة هارون، و إقدام داوود، و عظمة سليمان..و صبر أيوب، و بساطة يحي، و رحمة عيسى..

سيّدنا يا أبا القاسم، يا جلاء بصرنا و يا ذهاب غمّنا و همّنا و حزننا يا حبيبنا يا رسول الله.. صلّت عليك ملائك الرحمان، و سرى الضياء بسائر الأكوان لمّا طلعت على الوجود مُزَوَّدًا بحمى الإله و راية القرآن.. سيّدنا و حبيبنا يا طبّ القلوب و نور العيون، يا من ضُلّلت عليه الغمامة، يا من مشى على الرمل لم تظهر له علامة، يا موصا بالفقراء و المساكين و اليتامى، يا شفيع المذنبين يوم القيامة.. سيدي يا نور قلبي.. صلّى الله عليك يا علم الهدى، ما هبّت النسائم و ما ناحت الحمائم..

أمّا بعد، السلام عليكم و رحمة الله تعالى و بركاته، بعد أن تحدّثنا في مناسبة سابقة عن بطل المواجهة، عن الذي ولد و كفنه على يديه، عن الذي أحبّه الله و رسوله، الذي لقّب بسيف الرسول صلى الله عليه و سلم، سيفه في الحرب و في السلم، سيفه في المواجهة و في المناظرة، عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه، أحدّثكم اليوم بمشيئة الله تعالى عن رمز من رموز العدالة على مرّ تاريخ البشرية، أقدّمه لكم غظّا طريّا، و أنا أشعر بالحرج فوق هذا المنبر، لأنني مهما جمعت.. و مهما كتبت.. و مهما قلت فسوف أقصّر في إبراز سيرته، و ترجمته، إنّه حياة لضمير الأجيال، إنّه رمزٌ لعدالة الإسلام..

كان واليا تحبّه الرعيّة كأجلّ ما تحبّ الرعية الولاّة، لأنّه لم يفعل ما يدعو إلى السخط و البغض، لأنّه كان يُعظّم سنّة النبيّ صلوات ربّي و سلامه عليه، و يحبّ الفقراء و المساكين..

كان يحبّ أن يسمع الرأي الآخر و النصيحة، فسرى حبّه في قلوب الأطفال، و قلوب العجائز و في قلوب الفقراء و المساكين.. و لكن لماذا اخترت هذا الرجل بالذات في هذا اليوم بالذات ؟ لأنّي سمعت في بداية هذا الأسبوع تدخلا لزعيم اخوة القردة و الخنازير، رئيس وزراء الكيان الصهيوني، يتهجّم على العالم العربي و الإسلامي، و يصفه بأنّه عالم ظالم، ليس فيه حوار و لا حرية، و لا تحضّر و لا ديمقراطية.. فأردت أن أظهر لذاك المجرم السفّاح، صورة برّاقة وضيئة، لإمام ليس بالديمقراطي، و لكنّه عادل نفخر به و تفخر به البشرية قاطبة، و أسلوبه السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي يُدرّس اليوم في بلدان عدّة مثل تلك التي توجد في جنوب شرق آسيا.. إنّه الإمام العادل الذي لمّا مات، أمست مدن الإسلام في مصيبة و عزاء..

   و المسلمون مصابهم متفـــرّق    في كلّ بيت رنّــة و زفيــر

إنّه الرجل الذي قال فيه الإمام أحمد: ليس أحد من التابعين قوله حجّة إلاّ عمر بن عبد العزيز.. السلام عليك يا عمر بن عبد العزيز، و بيننا و بينك أكثر من ثلاثة عشر قرنا، السلام عليك اليوم و غدا و في المستقبل و حتّى نلقى الله بك، و أنت رمز من رموز العدالة و الزهد و الورع..

أيها الناس، يوم وصل عمر إلى سدّة الحكم، كان شابا مترفا من بني مروان، يغيّر في اليوم الواحد ثيابه أكثر من ثلاث مرّات، كان يسكن القصور في المدينة و عند والده قصر في الشام، و قصر في مصر، و قصر في العراق، و قصر في اليمن، و أراد الله لأمّة محمّد صلى الله عليه و سلم، خيرا فتولّى الخلافة وهو معرض عنها، زاهد فيها..

حضر وفاة الخليفة، فرأى كيف يصرع الموت الولاة، و كيف يعقر الموت الملوك، رأى سليمان بن عبد الملك وهو منطرح على سرير الملك كالطفل لا حول و لا قوة له: " و لقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أوّل مرّة و تركتم ما خوّلناكم وراء ظهوركم و ما نرى معكم شُفعاءكُمُ الذين زعمتم أنّهم فيكم شركاء ". الأنعام 34.  كان سليمان يعصره الموت عصرا، وهو منطرحا بين يدي ربّه يقول: يا من لا يزول ملكه ارحم من زال ملكه، و كان يصرخ قائلا:

    أفلح من كان له كبـــارُ   إنّ بَنِيَّ فتيـة صغـــارُ

أي يا ليت أبنائي كبارا، يتولّون الملك بعدي، قد أفلح من كان أبناؤه كبارا.. قال عمر أمامه: لا والله: " قد أفلح من تزكّى . و ذكر اسم ربّه فصلّى ".

فلمّا تلقّى عمر خبر تَوْلِيَتُهُ انصدع قلبه من البكاء، وهو في الصفّ الأوّل، فأقامه العلماء على المنبر وهو يرتجف و يرتعد، و أوقفوه أمام الناس، فما استطاع أن يتكلّم من البكاء: قال لهم: بيعتكم بأعناقكم، لا أريد خلافتكم، فبكى الناس و قالوا: لا نريد إلاّ أنت، فاندفع يتحدّث، فذكر الموت و لقاء ربّه، و ذكر مصارع الغابرين، حتى بكى من في المسجد. يقول رجاء بن حيوة: و الله لقد كنت أنظر إلى جدران مسجد بني أميّة و نحن نبكي، هل تبكي معنا ؟ ثم نزل فقرّبوا له المراكب و الموكب كما كان يفعل بسلفه، قال: لا إنّما أنا رجل من المسلمين غير أنّي أكثر المسلمين حملا و عبئا و مسؤولية أمام الله، قرّبوا إليّ بغلتي فحسب، فركب بغلته و انطلق إلى البيت، فنزل من قصره و تصدّق بأثاثه و متاعه على فقراء المسلمين..نزل في غرفة في دمشق أمام الناس ليكون قريبا من الفقراء و الأرامل و الأيتام و المساكين. ثمّ استدعى زوجته فاطمة، بنت الخلفاء، و أخت الخلفاء، و زوجة الخليفة.. فقال لها: يا فاطمة إنّي قد ولّيت أمر أمّة محمّد صلى الله عليه و سلم، فإن كنت تريدين الله و الدار الآخرة، فسلّمي حليّك و ذهبك إلى بيت المال، و إن كنت تريدين الدنيا، فتعالي أُمتّعكِ متاعا حسنا، و اذهبي إلى بيت أبيك،قالت: لا والله، و الحياة حياتك، و الموت موتك، و سلّمت متاعها و حليّها و ذهبها، فرفعه بنفسه إلى ميزانية المسلمين.. و قال: من لا يقدر على حكم بيته لن يقدر على حكم أمّة محمّد..

أقول ما تسمعون فإن كان حسن فمن الله وحده، و إن كان غير ذلك فمن الشيطان و نفسي و استغفر الله لي و لكم و لوالديّ و لوالديكم و لجميع المسلمين، فاستغفروه  و تولوا إليه إنّه هو التواب الرحيم و لا حول و لا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم..

                       الخطبة الثانيــة

الحمد لله الذي بيّن لنا السبلَ، و أرشدَنَا بالرسلَ، و رفعنا بالقرآن إلى أعلى المثُلَ، و أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله. اللهم صل و سلم و زد و بارك عليه و على لآله و صحبه و من والاه.

و نام عمر القيلولة في اليوم الأول، فأتاه ابنه الصالح عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز، فقال: يا أبتاه، تنام و قد ولّيت أمر أمّة محمّد، فيهم الفقير و الجائع، و المسكين و الأرملة، كلّهم يسألونك يوم القيامة، فبكى عمر و استيقظ – و توفّي ابنه هذا قبل أن يكمل العشرين.

عاش عيشة الفقراء، كان يأتدم خبو الشعير في الزيت، و يقول لأطفاله: هذا خير من نار جهنّم.. أوّل مرسوم اتّخذه، عزل الوزراء الخونة الظلمة الغشمة، الذين كانوا في عهد سليمان.. استدعاهم أمامه و قال لشريك بن عرضاء: أغرب عن وجهي يا ظالم رأيتك تُجلس الناس في الشمس، و تجلد أبشارهم بالسياط، و تجوّعهم و أنت في الخيام و الإستبرق.. و قال لآخر: أغرب عنّي و الله لا تلي لي ولاية، رأيتك تقدّم دماء المسلمين لسليمان بن عبد الملك. ثمّ عيّن وزراءه و أمراءه من علماء و صُلحاء المسلمين.

و جعل سمّاره سبعة من العلماء، يسمرون بعد صلاة العشاء، و اشترط عليهم ثلاثة شروط:

الشرط الأول: ألاّ يُغتاب في مجلسه مسلم.

الشرط الثاني: ألاّ يقدّموا له شكاية في مسلم.. أي التقارير المخزية في أعراض المسلمين..

الشرط الثالث: ألاّ يُمزحُ في مجلسه، إنّما يذكرون الآخرة و ما قرّب منها فكان يقوم معهم و هم يبكون كأنّهم قاموا عن جنازة.

قالوا لامرأته بعد أن توفّي: نسألك بالله أن تصفي لنا عمر ؟ قالت: و الله ما كان ينام الليل، و الله لقد اقتربت منه ليلة فوجدته يبكي و ينتفض كما ينتفض العصفور المبلّل، قلت له: ما لك يا أمير المؤمنين ؟ قال: مالي؟ .. تولّيت أمر أمّة محمّد، فيهم الضعيف المجهد، و الفقير المنكوب، و المسكين الجائع.. و الأرملة.. ثمّ لا أبكي، سوف يسألني الله يوم القيامة عنهم جميعا فبماذا أجيب الملك الديان ؟.. ماذا أقول ؟..

مرّ بمقبرة بعد أن صلّى العيد بالمسلمين، فقال: انتظروني قليلا، فوقف الوزراء و الصّلحاء و الأمراء و الناس، و نزل عن بغلته فوقف على قبور الخلفاء من بني أميّة و التي فيها الأغنياء و قال:

     أتيت القبـور فناديتهــا       أين المعظـّم و المحتقــر

     تفانوا جميعا فما مخبــرٌ      و ماتوا جميعا و مات الخبر

     فيا سائلي عن أناس مضوْا      أما لك فيما مضى مُعتبــر

ثم وقف عل طرف المقبرة و قال: يا موت ماذا فعلت بالأحبّة ؟ ثم بكى و جلس ينتحب، ثم عاد إلى الناس و قال: أتدرون ماذا قال الموت ؟ قال: يقول الموت: بدأت بالحدقتين، و أكلت العينين و فصلت الكفّين من الساعدين، و السّاعدين من العضدين، و العضدين من الكتفين، و فصلت القدمين من الساقين، و الساقين من الركبتين، و الركبتين من الفخذين.

كان يدور في ظلام الليل يسأل: هل من مريض فأعوده ؟ هل من أرملة فأقوم عليها، هل من جائع فأطعمه، يقول أحد ولاّته: ذهبت إلى إفريقيا لأوزّع الزكاة فوالله ما وجدت فقيرا في طريقي، لقد أغنى عمر الفقراء، فما بقي فقير، و لا جائع، و لا مدين، و لا شاب أعزب..

وقف يوما من الأيام و قال: و الله لا أعلم ظالما إلاّ أنصفتكم منه، و لا يحول بيني و بين الظالم أحد حتى آخذ الحقّ منه و لو كان ابني

كان يجيب كلّ من سأله عن ثوبه الخشن المرقّع: كيف لو رأيتني بعد ثلاث ليال إذا طرحت في القبر و قطّعت أكفاني و سار الدود في خدّي و أكل عيني، و وقع التراب في أنفي، و الله لقد كنت أشدّ تغيّرا ممّا تراه الآن ؟..

أيها المؤمنون، أشكر ألمرت و أشكر كل القردة و الخنازير، الذين أتاحوا لي من خلال مهاجمتهم الإسلام و المسلمين، فرصة الإبحار و الغوص في أعماق سيرة هذا الرجل – معجزة الإسلام – لأقدّم لكم من أعلى هذا المنبر في آخر لقاءاتي معكم آيات المعجزات و الحقائق المتحرّاة التي نقلها التاريخ لهذا الإنسان الباهر و الحاكم العادل..

فمعذرة لأمير المؤمنين، من إمام خطيب أو أظنّني كذلك، في هذا الزمن الغابر، لم يستطع أن يكبح جماح رغبته هذه، و هو يعلم علم اليقين قدر مقت الخليفة عمر بن عبد العزيز للحديث عنه و إطراء شمائله و مزاياه على الأمّة، و ليكن شفيعي في ذلك أنّ عمر لم يكن ملك نفسه، إنّما هو ابن الإسلام، و ملكيته الثمينة و يكفيه عدا ذلك أنّه حفيد من أعزّ الله به الإسلام..

و قد واجهتني صعوبة كبيرة تتمثّل في: ماذا آخذ من ذلك الحشد الهائل من الحقائق التي تحكي لنا جلال قداسته و روعة بساطته، و سموّ عدله، و نبل روحه و إعجاز مسلكه.. و إذا كانت الحكمة العربية تقول: من أخصب تخيّر، فوجدتها الآن: من أخصب تحيّر..

بيد أنّي ما لبثت حتى أبصرت هذا في الذرى الشاهقة، مكانا شاغرا لرجل، هو و إن لم ينتم لعصر الوحي تاريخيا إذ تفصله مئات السنين، فإنّه بقداسة روحه و جلال نسكه ينتمي إليه أروع و أجمل و أوثق ما يكون الانتماء..

ذاك هو خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز.

فهل ندهش، و نذهل، لأنّه بمفرده حاول تحقيق المستحيل ؟

أم ندهش و نذهل لأنّه بمفرده قد حقّق فعلا المستحيل ؟ ليس في عشرين عاما، و لا في عشرة أعوام.. بل في عامين و خمسة أشهر و بضعة أيام..

و نحن المسلمون نُعَدُّ أكثر من مليار مسلم، و مع ذلك لم نقو على إيقاف شرذمة حقيرة من أحفاد قتلة الأنبياء و الصالحين، ممّن تألّبوا على أمّة الإسلام و فعلوا بنا ما شاء كرههم و حقدهم و بغضهم و مقتهم، فعملوا فينا القتل و الهتك و الحرق و الذبح و الهدم و الاعتقال و الاستعباد و الاغتيالات المبرمجة و المختارة، و الكلّ ينظر و ينتظر.. و لم نفقه إلى يوم الناس هذا إلى ما ننظر، و إلى متى سننتظر ؟..

 الشيخ محمّد الشاذلي شلبي                          

      الإمام الخطيب                             

المشاهدات 732 | التعليقات 0