هِـمَّـةٌ بَكْرِيَّـةٌ ومنافسةٌ عُـمَرِيَّـةٌ
محمد بن مصطفى بن الحسن كركدان
الحمدُ لله ربِّ العالمين، رغَّبَ عبادَهُ بالجِدِّ في القربات، والاجتهادِ في الأعمال الصالحات، والمسارعةِ إلى فعل الخيرات؛ ليرفعَ لهم الدرجات، ويُكَفَّرَ عنهم الخطايا والسيئات، أحمدُهُ سبحانه وأشكرُهُ، وأستعينُهُ وأستغفرُهُ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبيَّنا وإمامنا وقُرَّةَ عيوننا محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُهُ، وصَفِيُّهُ من خَلْقِهِ ومُـخْتَارُهُ وخليلُهُ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ عليه، وعلى آله الطَّيِّبينَ الطَّاهرينَ، وأصحابِهِ نجومِ الدِّينِ، ومن تبعهم من المسلمينَ بإحسانٍ إلى يوم الدِّينِ.
عباد الله، أوصيكم بتقوى الله -عزَّ وجلَّ-، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)[2].
أما بعد، حين تَشْتَعِلُ الهِمَمُ في قلوب العباد، فإنك يا عبد الله ترى عجبًا في قربهم من ربِّ العباد، عبادٌ لله -جلَّ جلاله- هِمَمُهم وقَّادَةٌ، ونفوسهم تَوَّاقَةٌ، عرفوا حقيقة الدنيا فتجافتْ جنوبُهم عن مضاجعها، وقَصَّروا آمالهم فيها، وابتعدوا عن مفاتنها، وجَدُّوا في عمل الأُخْرى؛ ورغبوا الفوزَ والنَّعِيمَ فيها، وكان الشعار الذي رفعوه في حياتهم، وفي سيرهم لربهم وخالقهم: "إن استطعت ألَّا يَشْغَلَكَ عن الله تعالى أحدٌ فافعل"[3].
هِمَمٌ تناطحُ الجبالَ، وتأبى النزولَ بين السهول، ولسانُ حالهم يُنْشِدُ يقول:
إذا أَظْمَأتْكَ أَكُفُّ الرِّجــــالِ .. كَفَتْكَ القناعةُ شِبَعًا وَرِيَّا
فكن رجلًا رِجْلُهُ في الثَّرَى .. وهـامةُ هِـمَّتِهِ في الثُّـرَيَّا
أيها المؤمنون، أقف وإياكم اليوم مع رجلٍ عجبتُ من هِمَّتِهِ! وعظيمِ طاعته! إنسانٌ لم تَشْغَلْهُ الدنيا عن بَذْلِ الجُهْدِ الاستطاعةِ، في قُرْبِهِ لله بكل طاعة؛ ولذا حاز المناقب العُلى حين تزيَّن بالتُّقَى، وفاز بجنة المأوى؛ لإخلاصه وجدِّه في قُرْبه من ربِّنَا الكريم الأعلى.
إخوة الإيمان، أحدثكم اليوم عن الهِمَّةِ البَكْرِيَّةِ، عن هِمَّةِ الصَّحابيِّ الجليلِ، عن هِمَّةِ رفيقِ دَرْبِ رسول الله -صلى اللهُ عليه وسلَّم-، عن صاحبه الـمُخْلِصِ له، عن الصِّدِّيقِ أبي بكرٍ -رضي الله عنه-، وإليكم الخبر، فقد أخرجَ الإمامُ مُسْلِمٌ في صحيحه، عن أبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلَّم-: (مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِمًا؟)، قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رضي الله عنه-: أَنَا، قَالَ: (فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟)، قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رضي الله عنه-: أَنَا، قَالَ: (فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟)، قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رضي الله عنه-: أَنَا، قَالَ: (فَمَنْ عَادَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟)، قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رضي الله عنه-: أَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلَّم-.
واسمع يا عبد الله، اسمع إلى الفضيلة التي يحوزها الإنسان، عند قُرْبِهِ من الـمَلِكِ الدَّيَّان، قال النَّبِيُّ -صلى اللهُ عليه وسلَّم-: (مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ)[4].
ويزدادُ عَجَبِي أكثر! حين أخبر رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلَّم- وقال: (مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، نُودِيَ مِنْ أَبْوَابِ الجَنَّةِ: يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا خَيْرٌ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلاَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلاَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ).
وهنا عباد الله، سأل المنافسُ في الخيراتِ، والباذلُ وقتَهُ في الطَّاعاتِ، أبو بكر -رضي الله عنه- رسولَ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلَّم-، سأله سؤال من تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بالطَّاعات، سؤال من أراد الظَّفَرَ بالخيرات التي أخبرَ بها رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلَّم-، فماذا قال -رضي الله عنه-؟!
قال -رضي الله عنه- : بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا عَلَى مَنْ دُعِيَ مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ، فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ كُلِّهَا؟!
اللهُ أكبر! أرأيتم هِـمَّتَهُ العَجِيبة، ومنافستَهُ الشَّدِيدة! إن نَفْسَهُ -رضي الله عنه- لم تَتَعَلَّقْ بطاعةٍ واحدةٍ التزمها، بل كان مُجِدًّا في أبواب الخيراتِ اجتهادًا عظيمًا؛ ولذا تعلَّقتْ نفسُهُ -رضي الله عنه- بأن يُدْعى من أبواب الجنَّةِ كُلِّها!
فأجابَهُ رسولُ الهُدَى -صلى اللهُ عليه وسلَّم- بالبشارة له، ولمن نافسَهُ في هِمَّتِهِ البَكْرِيَّةِ العَلِيَّةِ، فقال -صلى اللهُ عليه وسلَّم-: (نَعَمْ، وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ)، متفق عليه، واللفظ للبخاري[5].
إخوة الإيمان، هذه الهِمَّةُ التي تزيَّن بها الصِّدِّيقُ -رضي الله عنه- حَفَّزَتْ أصحابَ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-؛ لدخول مضمار المنافسة مع الهِمَّةِ البَكْرِيَّةِ، فقد حاول الصَّدِيقُ الـمُقَرَّبُ، والصَّاحبُ الـمُهَذَّبُ أبو حَفْصٍ عمرُ بنُ الخطَّابِ -رضي الله عنه- الدُّخولَ في المنافسةِ مع أبي بكر -رضي الله عنه-، فماذا كانت النتيجة؟
روى أميرُ المؤمنينَ عمرُ بنُ الخَطَّابِ -رضي الله عنه- حكايةَ المنافسة هذه وقال: أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلَّم- أَنْ نَتَصَدَّقَ، فَوَافَقَ ذَلِكَ عِنْدِي مَالًا، فَقُلْتُ: اليَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا، قَالَ: فَجِئْتُ بِنِصْفِ مَالِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلَّم: (مَا أَبْقَيْتَ لأَهْلِكَ؟)، قُلْتُ: مِثْلَهُ.
هذا ما قدَّمه أميرُ المؤمنينَ عمرُ -رضي الله عنه-، غير أنَّ الهِمَّةَ البَكْرِيَّةَ أبتْ النُّزُولَ، ونافستْ هِمَّةَ أمير المؤمنين عمرَ -رضي الله عنه- أشدَّ المنافسة، وكأني بالصِّدِّيقِ يقول لصاحبه: من نافسك في دينك فنافسه، (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ)[6].
قال أبو حَفْصٍ عمرُ -رضي الله عنه- واصفًا ما تقدَّمَ به منافسُهُ: وَأَتَى أَبُو بَكْرٍ بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ!
فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى اللهُ عليه وسلَّم-: (يَا أَبَا بَكْرٍ مَا أَبْقَيْتَ لأَهْلِكَ؟).
فقال -رضي الله عنه- كلمةً تُكْتبُ بماء الذهب، قال: أَبْقَيْتُ لَهُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ!
اللهُ أكبر! هِمَّةٌ عجيبةٌ! جعلت أميرَ المؤمنينَ عمرَ -رضي الله عنه- لا يزد على قوله: لاَ أَسْبِقُهُ إِلَى شَيْءٍ أَبَدًا![7].
فلله دَرُّكَ يا أبا بكرٍ! لله دَرُّكَ يا صاحبَ رسولِ الله -صلى اللهُ عليه وسلَّم-!
حَقًّا لقد أتعبتَ من بَعْدَكَ! والله إن الكلمات لتعجز عن الوصف والتَّعبير! أيُّ قَلْبٍ كان يحمله هذا الرجل؟! وأيُّ هِمَّةٍ هذه التي خالطت دمَهُ وروحَهُ!
عَاشَ حَمِيدًا لِأَمْرِ اللهِ مُتَّبِعًا .. بِهَدْيِ صَاحِبِهِ الْمَاضِي وَمَا انْتَقَلَا
هكذا أثنى عليه شاعرُ رسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلَّم- حسانُ بنُ ثابتٍ -رضي الله عنه-، فهل من مُقْتَدٍ به في هِمَّتِهِ البَكْرِيَّةِ؟! وهل من منافسٍ له في عزيمته الأَبِيَّةِ؟!
أيها المؤمنون، هذه بعض الصور من هِمَّتِهِ، وجُهْدِهِ في طاعة ربِّه، وما تركته أكثر، فرضي اللهُ عن أبي بكرٍ الصِّدِّيق، وجمعنا اللهُ به في دار كرامته، ومستقرِّ رحمته.
وفَّقَنا اللهُ لطاعته، وأعاننا على ذِكْره، وشكره، وحُسْنِ عبادته، أقولُ ما تسمعون، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ من كُلِّ ذَنْبٍ فاستغفروه، وقد أفلح المستغفرون.
الخطبة الثانية.
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيِّبًا مباركًا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبيَّنا وإمامنا وقرَّة عيوننا محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، صلَّى اللهُ عليه وعلى آله وصحبه وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا طيِّبًا مباركًا فيه إلى يوم الدين.
أما بعد، عُمُرُ الإنسانِ في الحياة الدنيا محدودٌ، وأجلُهُ له يومٌ موعودٌ، لن يَتَأخَّرَ أو يَتقدَّمَ، قال -عزَّ وجلَّ-: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ)[8].
عباد الله، إذا عرفَ الإنسانُ هذه الحقيقة، واستقرَّت في قلبه، وعقله: بَذَلَ العبدُ جُهْدَهُ، وطاقتَهُ في المنافسة الحقيقة؛ لنيل أعلى الدرجات في الدار الآخرة، قال اللهُ -جلَّ جلاله-: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ)[9].
فلا مجال للتسويف في الطاعات، ولا مكان لإضاعة الأوقات في الـمُلْهيات، والمغريات، قال الإمامُ ابنُ القَيِّمِ -رحمه الله- عبارةً رشيقةً جميلةً: "السابقون في الدنيا إلى الخيرات، هم السابقون يوم القيامة إلى الجَنَّات"[10].
فأكرم بها من منافسة، (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ)[11].
فماذا نتنظر عباد الله؟! وربُّنَا -سبحانه وتعالى- يحُثُّنا إلى المسارعة لفعل الطاعات، والمسابقة لعمل الخيرات، قال -جلَّ جلاله-: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)[12]، وقال: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)[13]، وقال: (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[14].
فتأملوا عباد الله في هذه الكلمات: (وَسَارِعُوا)، (سَابِقُوا)، (فَاسْتَبِقُوا) كلماتٌ تبعثُ في القلب الهِمَّةَ، وتَحَفِّزُ المؤمنَ الوصولَ للقِمَّةِ، رزقنا اللهُ حُسْنَ العمل، وجعلنا من أهل الفردوس.
عباد الله، صلوا وسلموا على من أُمرتم بالصلاة والسلام عليه فقال عزَّ من قائلٍ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[15].
[1] سورة آل عمران (102).
[2] سورة التوبة (119).
[3] قاله وهيب بن الورد المكي، حلية الأولياء للأصبهاني (140/8).
[4] أخرجه مسلم في صحيحه رقم (1028).
[5] صحيح البخاري رقم (1897)، صحيح مسلم رقم (1027).
[6] سورة آل عمران (92).
[7] أخرجه أبو داود في سننه رقم (1678)، والترمذيُّ في جامعه واللفظ له رقم (3675)، وقال: "هذا حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ".
[8] سورة الأعراف (34).
[9] سورة الواقعة (10-14).
[10] حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح لابن القيم (115).
[11] سورة المطففين (26).
[12] سورة آل عمران (133).
[13] سورة الحديد (21).
[14] سورة البقرة (148).
[15] سورة الأحزاب (56).
المرفقات
بَكْرِيَّةٌ-ومنافسةٌ-عُمَرِيَّة
بَكْرِيَّةٌ-ومنافسةٌ-عُمَرِيَّة