هـــــــــــل أنت راضٍ عن ربــــــــك ؟! 1443/12/23هـ
يوسف العوض
الخطبة الاولى
أيُّها المؤمنون: إنَّ علامةَ رضا اللهِ تعالى عنِ العبدِ ، هيَ رضا العبدِ عنْ ربهِ . . يقولُ ابنُ القيمِ " فمنْ رضيَ عنْ ربهِ رضيَ اللهُ عنهُ ، بلْ رضا العبدِ عنْ اللهِ منْ نتائجِ رضا اللهِ عنهُ ، فهوَ محفوفٌ بنوعينِ منْ رضاهُ عنْ عبدهِ : رضا قبلهُ أوجبَ لهُ أنْ يرضى عنهُ ، ورضا بعدهُ هوَ ثمرةُ رضاهُ عنهُ ؛ ولذلكَ كانَ الرضا بابَ اللهِ الأعظمِ ، وجنةَ الدنيا ، ومستراحَ العارفينَ ، وحياةَ المحبينَ ، ونعيمَ العابدينَ ، وقرةَ عيونِ المشتاقينَ " [ مدارج السالكينَ] .
فهلْ أنتَ منْ الراضينَ ؟
ونقولُ: أنَّ للرضا علاماتٍ تعرفُ بها إذا كنتَ راضٍ عنْ ربكَ أمْ لا !!
أولا: استقبالُ الابتلاءِ بالطمأنينةِ والسكينةِ ولكَ في حبيبكَ محمدٍ الأسوةُ الحسنةُ في رضاهُ عنْ ربهِ ، يقولُ ابنُ الجوزي في ( صيدُ الخاطرِ ) : هذا سيدُ الرسلِ بُعثَ إلى الخلقِ وحدهُ ، والكفرُ قدْ ملأَ الآفاقَ ، فجعلَ يفرُ منْ مكانٍ إلى مكانٍ ، واستترَ في دارِ الخيزرانِ ، وهمْ يضربونهُ إذا خرجَ ، ويُدمونَ عقبَهُ ، وأُلقى السلى على ظهرهِ ، وهوَ ساكتٌ ساكنٌ . . ويخرجُ كلَّ موسمٍ فيقولُ " منْ يؤويني ؟ منْ ينصرُني ؟ ثمَ خرجَ منْ مكةَ ، فلمْ يقدرْ على العودِ إلا في جوارِ كافرٍ ، ولمْ يُوجدْ منْ الطبعِ تأففٌ ، ولا منَ الباطنِ اعتراضٌ ، إذْ لوْ كانَ غيرهُ ، لقالَ : يا ربِّ ! أنتَ مالكُ الخلقِ ، وقادرٌ على النَّصرِ ، فلمَ أُذلُّ ؟ ! كما قالَ عمرُ رضيَ اللهُ عنهُ يومَ صُلحِ الحديبيةَ : ألسنا على الحقِّ ؟ ! فلمَ نُعطي الدنيَّةُ في ديننِا ؟ ! ولمّا قالَ هذا ، قالَ لهُ الرسولُ : " يا ابنَ الخطابِ ، إني رسولُ اللهِ ولنْ يضيعَني اللهُ أبدا " [ متفق عليهِ ] ، ثمَ يُبتلى بالجوعِ ، فيشدُ الحجرَ { وللهِ خزائنُ السماواتِ والأرضِ } ، ويُقتلُ أصحابهُ ، ويُشجُّ وجههُ ، وتكسرُ رباعيتُهُ ، ويُمثلُ بعمّهِ وهوَ ساكتٌ ، ثُمَ يُرزقُ ابناً ، ويُسلبُ منهُ ، فيتعللُ بالحَسنِ والحُسينِ ، فيُخبرُ بما سيجري عليهما ويسكنُ بالطبعِ إلى عائشةَ رضيَ اللهُ عنها ، فينغّصُ عيشهُ بقذفِها !!هذا الشيء ما قدرَ على الصبرِ عليهِ كما ينبغي نبيٌّ قبلَه ، ولوْ ابتُليتْ بهِ الملائكةُ ، ما صبرتْ .
ثانيا: موافقةُ ربكَ في قدَرهِ والتماسِ رضاهُ فعنْ عمارٍ رضيَ اللهُ عنهُ أنهُ قالَ وهوَ يسيرُ على شطَّ الفُراتِ " اللهمَ لوْ أعلمُ أنَ أرضى لكَ عني أنَ أتردى فأسقطَ فعلتُ ولوْ علمتُ أنَ أرضى لكَ عنّي أنَ أُلقى نفسي في هذا الماءِ فأغرقُ فيهِ فعلتُ " ولكنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ قدْ أمرَ عبادهُ بأيسرَ منْ ذلكَ ، فأهمُّ ما ينبغي أنْ تحفرهُ في قلبكَ ، هوَ التماسُ رضا اللهِ تعالى عنكَ في جميعِ أفعالكَ وأحوالكَ .
ثالثا: أنْ يُحبَ ما ينالهُ منْ ربهِ ولوْ خالفَ هواهُ ، قيلَ للحسينِ بنِ علي رضيَ اللهُ عنهما : أنَّ أبا ذرٍ رضيَ اللهُ عنهُ يقولُ : الفقرُ أحبُّ إليَ منْ الغنى والسُقمُ أحبُّ إليَ منْ الصحةِ ، فقالَ : رحمَ اللهُ أبا ذر ، أما أنا فأقولُ : منْ اتكلَ على حسنِ اختيارِ اللهِ لهُ لمْ يتمنَ غيرَ ما اختارَ اللهُ لهُ . فأحبهُ إليهِ أحبهُ إليَ ، وعنْ أُبي بنِ كعب قالَ " ما منْ عبدٍ تركِ شيئا للهِ عزَّ وجلَّ إلا أبدلهُ اللهُ بهِ ما هوَ خيرٌ منهُ منْ حيثُ لا يحتسبُ ، وما تهاونَ بهِ عبدٌ فأخذهُ منْ حيثُ لا يصلحُ إلا أتاهُ اللهُ ما هوَ أشدُ عليهِ منهُ منْ حيثُ لا يحتسبُ " [صفةُ الصفوةِ] فما منعَ اللهُ عزَّ وجلَّ عنكَ نعمةً ، إلا ليعطيكَ خيراً منها .
رابعا: تركُ الاعتراضِ يقولُ ابنُ القيمِ " سمى بعضُ العارفينَ الرضا : حسنَ الخلقِ معَ اللهِ ، فإنهُ يوجبُ تركَ الاعتراضِ عليهِ في ملكهِ وحذفَ فضولِ الكلامِ التي تقدحُ في حُسنِ خَلقهِ ، فلا يقولُ : ما أحوجَ الناس إلى مطرٍ ، ولا يقولُ : هذا يومٌ شديدُ الحرِّ أوْ شديدُ البردِ ، ولا يقولُ : الفقرُ بلاءٌ والعيالُ همٌ وغمٌ ، ولا يُسمى شيئاً قضاهُ اللهُ وقدّرهُ باسمٍ مذمومٍ إذا لمْ يذمهُ اللهُ سبحانهُ وتعالى فإنَّ هذا كلهُ ينافي رضاهُ ، وقالَ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ رحمهُ اللهُ : أصبحتُ ومالي سرورٌ إلا في مواقعِ القدرِ ، وقالَ ابنُ مسعودٍ رضيَ اللهُ عنهُ : الفقرُ والغنى مطيتانِ ما أبالي أيُّهما ركبتُ ، إنَ كانَ الفقرُ فإنَّ فيهِ الصبرَ وإنْ كانَ الغنى فإنَ فيهِ البذلَ.
خامسا: ألا تخاصمْ ولا تعاتبْ فعنْ أنسِ بنِ مالك قالَ : خدمتُ النبي عشرَ سنينَ فما أمرني بأمرٍ ثمَ أتيتُ غيرهُ أوْ ضيعتهُ فلامني ، فإنَ لامني بعضُ أهلهُ إلا فقالَ " دعوهُ فإنهُ لوْ قدرٍ كانَ أوْ قضيَ أنْ يكونَ كانَ " [ صححهُ الألباني ] ، فاللهُ سبحانهُ وتعالى سيكفُ عنكَ أذى منْ يؤذيكَ ، فلا داعي للعتابِ والخصومةِ .
سادسا: الاستغناءُ باللهِ وعدمُ سؤالِ الناسِ شيئا عنْ ثوبانَ رضيَ اللهُ عنهُ قالَ : قالَ رسولُ اللهِ " منْ تكفّلَ لي أنَ لا يسألَ الناسَ شيئا أتكفلُ لهُ بالجنّةِ " فقلتُ : أنا ، فكانَ ثوبانُ يقعُ سوطهُ وهوَ راكبٌ فلا يقولُ لأحدٍ ناولنيه حتى ينزلَ فيأخذهُ [ رواهُ ابنْ ماجهْ وصححهُ الألباني ] وعنْ سعيدْ بنْ المسيبْ قالَ " منْ استغنى باللهِ افتقرَ الناسُ إليهِ " فلماذا تذلَّ للناسِ وتطلبَ السعادةَ في غيرِ طاعةِ اللهِ ؟ { أليسَ اللهُ بكافِ عبدهْ . . } .
سابعا: التخلصُ منْ أسرِ الشهوةِ ورغباتِ النفسِ ، فنفسكَ دائما تلحُّ عليكَ لتحققَ رغباتها ، ممّا قدْ يوقعكَ في المعاصي وبالتالي تتسخطَ على قدرِ اللهِ تعالى ، فلو أنكَ جاهدتَ نفسكَ منَ البدايةِ ، سيسلمَ لكَ قلبكَ وتعيشَ راضيا عنْ اللهِ عزَ وجلَ .
الخطبة الثانية
أيُّها المؤمنون: إذن كيفَ تكونُ راضيا عنْ اللهِ تعالى ؟!
فنقولُ : إنَّ طريقَ الوصولِ إلى منزلةِ الرضا يبدأَ أولاً : اعرفْ ربكَ فعندما تعرفُ ربكَ ستحبهُ ، وإذا أحببتهُ سترضى عنهُ وعنْ كلِ ما قدّرهُ لكَ وكلما ازددتَ قرباً منْ ربكَ ، زادَ حبكَ لهُ حتى يتملكَ حبهُ كلَّ ذرةٍ في وجدانكَ ، عادَ حمادُ بنُ سلمةَ سفيانَ الثوري ، فقالَ سفيانُ : يا أبا سلمةَ أترىْ يغفرُ اللهُ لمثليٍ ؟! فقالَ حمادُ : واللهِ لوْ خُيرتُ بينَ محاسبةِ اللهِ إيايَ وبينَ محاسبةِ أبوي لاخترتُ محاسبةَ اللهِ على محاسبةِ أبويٍ ، وذلكَ أنَّ اللهَ تعالى أرحمُ بي منْ أبويٍ . [ حليةُ الأولياءِ ] فاللهُ سبحانهُ وتعالى أرحمُ بكَ منْ أمكَ وأبيكَ ، ولوْ علمتَ الحكمةَ منْ ابتلاءهُ لكَ لما تسخطتَ على قدرهِ ، فقد يبتليكَ ليغفرَ لكَ ذنوبكَ فعنْ النبيِ قالَ " ما يصيبُ المسلمَ منْ نصبٍ ولا وصبٍ ولا همٍ ولا حزنٍ ولا أذىً ولا غمٍ حتى الشوكةِ يشاكها ، إلا كفّرَ اللهُ بها منْ خطاياهُ " [ متفق عليه[....
أوْ لكيْ يرفعَ درجتكَ قالَ رسولُ اللهِ " إنَّ الرجلَ ليكونَ لهُ عندَ اللهِ المنزلةُ فما يبلغها بعملٍ ، فما يزالُ يبتليهُ بما يكرهُ حتى يبلغهُ إياها " [ رواهُ أبو يعلى وابنَ حبانْ وحسنهُ الألباني ] فعملكَ لنْ يبلّغكَ تلكَ المنزلةَ العاليةَ ، ولكنْ منْ رحمةِ اللهِ سبحانهُ وتعالى بكَ أنْ يبتليكَ لكيْ تصلَ ، فقدرُ اللهِ لا يأتي إلا بخيرٍ ، فعليكَ دائما أبدا أنْ تقولَ منْ قلبكَ : رضيتُ باللهِ ربا.
ثانيا : بثَّ شكواكَ إلى ربكَ وفوضَ أمركَ إليهِ فلا تشتكي لأحدٍ سوى ربكَ ، فهوَ سبحانهُ يحبُ أنْ يسمعَ أنينكَ وهوَ وحدهُ القادرُ على أنْ يفرّجَ كربكَ .
ثالثا : القيامُ بأعمالٍ يحبها اللهُ تعالى ويرضى عنْ فاعلها . . ومنها :
1 ) برُّ الوالدينِ . . قالَ رسولُ اللهِ " رضا الربِ تباركَ وتعالى في رضا الوالدينِ ، وسخطُ اللهِ تباركَ وتعالى في سخطِ الوالدينِ " [ حسنهُ الألباني ، صحيح الترغيبِ والترهيبِ] . . وبرهما يكونُ حتى بعدِ موتهما ، بالدعاءِ لهما .
2 ) شكرُ اللهِ تعالى على نعمهِ فعنْ أنسِ قالَ : قالَ رسولُ اللهِ " إنَّ اللهَ تعالى ليرضى عنِ العبدِ أنْ يأكلَ الأكلةَ فيحمدهُ عليهِ أوْ يشربَ الشربةَ فيحمدهُ عليها " [ رواهُ مسلمٌ ].
3 ) الرفقُ وعدمُ العنفِ يقولُ الرسولُ " إنَّ اللهَ رفيقٌ يحبُ الرفقَ ويرضاهُ ويعينُ عليهِ ما لا يعينُ على العنفِ . . " [ رواهُ الطبراني وصححهُ الألباني ، صحيح الجامعِ] ، فعليكَ أنْ تكونَ هادئا في معاملتكَ للناسِ ، ولا تلجأُ إلى الشدةِ والعنفِ .
4 ) كظمُ الغيظِ ، قالَ رسولُ اللهِ " . . ومنْ كظمَ غيظهُ ولوْ شاءَ أنْ يمضيهُ أمضاهُ ، ملأَ اللهُ قلبهُ يومَ القيامةِ رضا . . " [ رواهُ الأصبهانيُ وصححهُ الألباني ] .
5 ) الإصلاحُ بينَ الناسِ فعنْ أنسِ رضيَ اللهُ عنهُ : أنَّ النّبي قالَ لأبي أيوب " ألا أدلكُ على عملٍ يرضاهُ اللهُ ورسولهُ " ، قالَ : بلى ، قالَ " صلْ بينَ الناسُ إذا تفاسدوا وقرّبَ بينهمْ إذا تباعدوا " [ رواهُ الطبراني وحسنهُ الألباني ] .
فاللــــــــهمَ رضــنا بقضائكَ ، وارضَ عنا ياربَّ العالمينِ ، ،
المرفقات
1658318542_رضا الله.pdf
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق