هذا رمضان قد هبّت نسماتُه . . قومُوا إلى جنّة عرضُها السموات والأرض . . !
رشيد بن ابراهيم بوعافية
معشر المؤمنين : أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل ، فإن تقواه أفضل زاد ، وأحسنُ عاقبةٍ في المعاد،قال الله تعالى :] يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون[[آل عمران: 102]، وقال سبحانه :]يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيم[ ( الأنفال : 29 ) ، وقال سبحانه :] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون[( آل عمران : 200 ) .
وأوصيكم ونفسي بالحَذَرِ من خداعِ الدُّنيا واستدراجِها ، فإنَّ الدُّنيا حُلوةٌ خضِرَة، جميلة نضِرَة، نعيمٌ لولا أنه عديم ، ومحمودٌ لولا أنه لا بُدَّ مفقود ، غَنَاءٌ لولا أن مصيره الفناء ، المستقِرُّ فيها يزول، والمقيمُ عنها منقول، والأحوال فيها تحول ، وكلُّ عبد عنها مسؤول، فتنةٌ من تعلّق بها تعلَّقَ بشُغلٍ لا يفرغ عَنَاهُ ، وأملٍ لا يُبْلَغُ منتهاه ، وحرصٍ لا يُدرك مداه ، أيامُها تسير في خبَب ، وشهورها تَتَّابَعُ في عَجَب ، وزمانها انحدر من صبَب ، هي كلُّها قليل، فكيف وما بقي منها إلا القليل من القليل؟! . نسأل اللهَ السلامةَ والعافية من غوائل الدُّنيا !
أيها الإخوةُ في الله : َتَتَوَالى الشُّهُورُ وَالأَسَابِيع ،و تَذهَبُ اللَّيَالي وَالأَيَّامُ سِرَاعًا ، وَهَا هِيَ الأُمَّةُ تَرقُبُ ضَيفًا عَزِيزًا ، وَتَمتَلِئُ شَوقًا إِلى قَادِمٍ كَرِيم ، شهرِ رمضانَ الخير والبركَة ، شهرِ المَرَابح بظِلاله ونَواله، وجَماله وجَلاله، زائرٌ زاهر ، وشهر عاطر ، أيامُه ولياليه عامرةٌ بالخيرات ، ولا يُحرمُ خيرَهُ إلاّ محرومٌ مغبون ! . سوقٌ من أسواقِ الجنّةِ في الأرض ، كم من النفوس صامت العام المنصرم وما عاشت إلى شعبان ، وكم من النفوس هي الآن في شعبان واللهُ يعلمُ أنّها لن تبلُغَ رمضانَ و لن تصومَ هذا العام ! . فنسألُ الله العظيم أن يبلّغنا رمضان !
وها نحن الآن نقتربُ إلى رمضان أكثر ، لا يفصلنا عنه سوى شهرٌ واحد ، وما الشّهرُ أيها الأحبّة ؟! أيّامٌ تمرُّ كالبرق ، وتنحدرُ من صَبب ، وتنقضي انقضاء الحلم ! .
إذا كان ذلك كذلكَ - معشر المؤمنين- فالعاقلُ يستعدُّ للسّباق قبل دخول المضمار ، يستعدُّ للفُرَصِ قبل نزولها ، وللمواسمِ قبل حلولها ، لأنَّ أعظم معين للفوز في المسابقة في السير إلى الله تعالى : الاستعداد والتهيُّؤ .
مشكلتنا معشر المؤمنين : أننا في كل عام يأتينا رمضان ونحن لا نزالُ غافلين ، فنبدأ في الاستعداد فيه من الصفر ، ثم نرقى شيئًا فشيئًا فلا نكاد نجد طعم العبادة وحلاوة الطاعة إلا وقد انقضى رمضان ، وانطوت صحائفه بما فيها من إحسان المحسن وإساءة المسيء ! ، فنندم ونتحسر ونتألم ، ونقول : نعوض في العام القادم ، ويأتي العام القادم فلا يكون أحسن حالاً من سابقه ، وهكذا حتى تنقضي الأعمار ، ويغادرَ الإنسان دنياه وهو كما هو ما وجدَ لذَّةَ العبادة وحلاوة الطاعة، فإلى الله العظيمِ المشتكى !!! .
يجب أن نفهم جيدًا - معشر المؤمنين - : أن رمضان ليس مجالاً للاستعداد ، هو كلحظاتِ الاختبار : إما أن تنجح فيه أو تفشل، وليست دقائقه الغاليةُ الثمينةُ بمحتمِلَةٍ للكسل حينًا والنشاط حينًا ، بل هو عبادةٌ خالصة، وبِرٌّ خالصٌ، وإنابةٌ كاملة ، شهرُ الجَنّات ؛ فلا ينبغي أن تضيعَ أيامُهُ في البحث عن تذكِرَةِ الدُّخُول ، ثمَّ لا تحصل عليها إلا وقد غلقت الأبواب ، ووصلَ السائرون إلى ربّهم بالبضائع النفيسة ؟!
قال أنس بن مالك رضي الله عنه : " كان المسلمون إذا دخل شعبان أكبوا على المصاحف فقرؤوها، وأخرجوا زكاة أموالهم تقوية لضعيفهم على الصوم " . وقال سلمة بن كهيل : " كان يقال : شهر شعبان شهر القرآن " . وكان قيس بن عمر الملائي إذا دخل شعبان أغلق حانوته وأكب على قراءة القرآن . وكان حبيب بن أبي ثابت إذا دخل شعبان قال: " هذا شهر القراء ".
وقال أبو بكر البلخي : "شهر رجب شهر الزرع ، وشهر شعبان شهر سقي الزرع ، وشهر رمضانشهر حصاد الزرع ، ومن لم يزرع ويغرس في رجب ، ولم يسق في شعبان ؛ فكيف يريد أن يحصد فيرمضان؟! " . وصدقَ من قال :
فيا من ضـيَّعَ الأوقاتِ جهـلاً * * * بقيمَتِهَا أفِقْ واحْـَذْر بَـوَارَكْ
تداركْ ما استطعتَ من الخطايا * * * فخيرُ ذوِي الفضائلِ من تداركْ
أَلا وَإِنَّ مِن حُسنِ التَّوفِيقِ أَن يَعقِدَ العَبدُ العَزمَ عَلَى دُخُولِ ذَلِكَ المَوسِمِ بِأَحسَنِ مَا يَملِكُ مِن بِضَاعَة ، وَأَن يَكُونَ مِن تَخطِيطِهِ لِلرِّبحِ فِيهِ أَن يَعرِضَ أَجوَدَ مَا عِندَهُ ، أَمَّا أَن يَطُولَ بِهِ النَّومُ وَتَشتَدَّ غَفلَتُهُ ، وَيُشَمِّرَ المُجِدُّونَ وَهُوَ في تَهوِيمِهِ وسِنَتِهِ ،فَمَا أَحرَاهُ أَن تَطُولَ بَعدَ ذَلِكَ حَسرَتُهُ ! وَأَن تَشتَدَّ يَومَ العَرضِ نَدَامَتُهُ ، أَلا فَاتَّقُوا اللهَ يَا طُلاَّبَ الآخِرَةِ ، وَلْيَكُنْ لَكُم مِنَ النِّيَّةِ عَلَى فِعلِ الخَيرَاتِ وَاكتِسَابِ الحَسَنَاتِ في شَهرِكُمُ الكَرِيمِ ، مَا لَعَلَّهُ أَن يَبلُغَ بِكُم أَعلَى الدَّرَجَاتِ وَأَرفَعَ المَقَامَاتِ .
ليَكُنْ كُلُّ حِرصِكُم عَلَى إِصلاحِ القُلُوبِ قَبلَ دُخُولِ الشَّهرِ ،وَاجعَلُوا تَطهِيرَهَا مَحَلَّ اهتِمَامِكُم ، اجتهدُوا في تطهير القلوب ، وإخلاصِ النيّاتِ ، وصدقِ العزمِ ، مع تعويدِ النفسِ على أصناف العبادات الجليلة التي هي سلعُ رمضان : كالصلاة والقيام ، وقراءة القرآن ، والصدقة والإحسان ، مع نقل الخطوات إلى المساجد ، وحفظ اللسان ، ومراقبة البصر ، ومحاسبة النفس على الدّقائق و الأنفاس . فإنَّ من عوّد نفسه على مثل هذا أوشكَ أن يدخُلَ رمضانَ دخولَ الأكياسِ الفطناء ، وابدَؤُوا بِهذا النوع من الاستعداد قَبلَ مَا اعتَدتُم عَلَيهِ في مِثلِ هَذِهِ الأَيَّامِ مِن تَوفِيرِ أَنوَاعِ المَطَاعِمِ وَتَكثِيرِ أَصنَافِ المَشَارِبِ ؛فَـ" إِنَّ اللهَ لا يَنظُرُ إِلى أَجسَادِكُم وَلا إِلى صُوَرِكُم ، وَلَكِنيَنظُرُ إِلى قُلُوبِكُم و أعمالكم " وَ" إِنَّهُ لَيَأتي الرَّجُلُ العَظِيمُ السَّمِينُيِومَ القِيَامَةِ لا يَزِنُ عِندَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ " .
نسأل الله التوفيق إلى ما يحب ويرضى ، اللهم حبّب إلينا الإيمان وزيّنه في قلوبنا ، وكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين .
المشاهدات 4959 | التعليقات 4
ما شاء الله تعالى.
أحسنت،خطبة جميلة مؤثرة.
زادني الله وإياك من فضله.
بارك الله فيكم أخواي العزيزان علي الفضلي وشبيب القحطاني ، أسأل الله لي ولكما و لجميع إخواننا في الملتقى الفردوس الأعلى مع النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين وحسُن أولئك رفيقَا .
قال صلى الله عليه و سلم: " إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب الجنّة و غلّقت أبواب جهنّم و سلسلت الشياطين "، و في رواية فتحت أبواب الرّحمة ". ( أخرجه البخاري )
إنّها الرحمة بعمومها.. الرحمة بالغفران للذنوب.. الرّحمة باستجابة الدّعاء.. الرحمة بفيض عطاء الجود العاجل و الآجل.. الرّحمة بمنحة النّعيم المقيم في الجنّة دار الثواب الأكبر..
شكرا لك أخي الفاضل على هذا الطرح القيّم.. جازاك الله عنّا خير الجزاء..
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق