هذا رسول الله صلى الله عليه و سلم

محمد بن خالد الخضير
1433/04/14 - 2012/03/07 14:51PM
الخطبة الأولى

ان الْحَمْد لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ :
أمّا بعد: فاتقوا الله -عباد الله- حقَّ التقوى، وراقِبوه في السرّ والنجوى.
أيّها المسلمون، كرَّم الله بني آدَمَ وفضَّلهم على كثيرٍ ممّن خلَق تفضيلاً، واجتبَى منهم من خصَّه بالنبوَّة والرسالة، واصطفَى مِن أولئك أفضلَهم نبيَّنا محمّدَ بن عبد الله صفوةَ بني هاشم، وهاشمٌ خِيَارُ قريش، فهو خيارٌ من خيارٍ، اختاره الله لهذه الأمة لهدايتها إلى دين الله القويم وصراطه المستقيم، فكانت حياتُه عليه الصلاة والسلام عبادةً وشكرًا، ودعوةً وحِلمًا، وابتلاءً وصبرًا، شمائلُه عطِرةٌ وسيرتُه حافلة. قال ابن القيم رحمه الله: "اضطرارُ العِباد فوقَ كلّ ضرورةٍ إلى معرفة الرسول وما جاء به، وتصديقه فيما أخبر به، وطاعته فيما أمر".
ما مِن خيرٍ إلا دلَّ الأمة عليه، وما من شرٍّ إلا حذَّرَها عنه، قال عن نفسه عليه الصلاة والسلام: ((ما يكن عندي من خيرٍ فلن أدَّخِره عنكم)) متفق عليه.
قضَى قريبًا من شطرِ زمنِ رسالته يَدعو لأمرٍ واحدٍ هو أعظمُ أمرٍ أمَر الله بهِ، من لم يَستجِب له فيه خلَّده الله في النار وحرَّم الجنةَ عليه. افتتَحَ رسالتَه به، وقام على جبل الصفا وقال لقريش: ((قولوا: لا إله إلا الله؛ تُفلِحوا)).
مكثَ عشر سنواتٍ في مكّة لا يدعو إلى شيءٍ سواه، ثم دعا إلى بقية الشرائع معه إلى مماته، ووعدَ من حقَّق هذا الأمر بدعوةٍ منه مُستجابةٌ له يوم القيامة؛ فقال: ((لكلّ نبيٍّ دعوةٌ مُستجابة، فتعجَّل كل نبيٍّ دعوتَه، وإني اختبأتُ دعوتي شفاعةً لأمّتي يوم القيامة، فهي نائلةٌ -إن شاء الله- من مات من أمتي لا يُشرِك بالله شيئًا)) متفق عليه.
كثيرُ التعبُّد لله، قام بالطاعة والعبادة خيرَ قيام، قدَماه تتشقَّقُ من طول القيام، في ركعةٍ واحدةٍ قرأ البقرةَ وآل عمرانَ والنساء، وكان جميلَ الصَّوتِ في تلاوة القرآن، قال البراء : سمعتُ النبي يقرأ في العِشاء: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ فما سمعتُ أحدًا أحسَنَ صوتًا -أو: قراءةً- منه. متفق عليه.
خاشعٌ لله يُصلِّي وفي صدره أزيزٌ كأزيز المِرجَل من البكاء، ولِسانُه لا يفتُر عن ذكر الله، قالت عائشةُ رضي الله عنها: كان يذكر الله على كل أحيانه. رواه مسلم. وقال ابن عمر : إن كنَّا لنعُدُّ لرسول الله في المجلس الواحد مائةَ مرةٍ: ((ربِّ اغفر لي وتُب عليَّ، إنك أنت التواب الرحيم)).
يُحبُّ الصلاة ويُوصِي بها، قال أنس :كانت عامةُ وصيّة النبي حين موته:(الصلاةَ، وما ملكَت أيمانُكم)، قال: حتى جعل رسول الله يُغرغِرُ بها صدرُه، وما يكادُ يُفيضُ بها لسانُه، أي: يُوصِي بها حتى فاضَت روحُه. رواه أحمد.
يقينُه بالله عظيم، مُوقِنٌ بأنَّ كلام الله فيه شفاء، إذا مرضَ يرقِي نفسَه بكلام الله، قالت عائشة رضي الله عنها: كان إذا اشتكَى يقرأ على نفسه بالمُعوِّذات وينفُث. متفق عليه.
يدعو كلَّ أحدٍ إلى هذا الدين ولو كان المدعوّ صغيرًا، زار غلامًا يهوديًّا مريضًا، فقعدَ عند رأسه وقال له: ((أسلِم))، فأسلَم الغلام. رواه البخاري.يتواضَعُ للصغير ويغرِسُ في قلبه العقيدة؛ يتلطّفُ في تعليمِ صحابَتِه ويُظهِر ما في قلبه من حبِّه لهم؛ أخَذ بيدِ مُعاذٍ وقال له: ((والله إني لأُحبُّك، أُوصيك يا معاذ: لا تدعنَّ في دُبُر كل صلاةٍ أن تقول: اللهم أعنِّي على ذكرك وشكرك وحُسن عبادتك)) رواه النسائي.
لا يُعنِّفُ ولا يتكبَّر؛ بل صدره مُنشرحٌ لكل أحدٍ؛ رفيقٌ بالشباب مُشفقٌ عليهم، دَمثُ الأخلاق ليس بفاحشٍ ولا مُتفحِّشٍ في الألفاظ، وحياؤه أشدُّ من العذارء في خدرها، عفُّ اليد لم يضرب أحدًا في حياته؛ قالت عائشة رضي الله عنها: ما ضربَ رسول الله شيئًا قطُّ بيده، ولا امرأةً ولا خادمًا، إلا أن يُجاهدَ في سبيل الله، ولم ينتقم لنفسه؛ بل يعفو ويصفَح، وإذا خُيِّر بين أمرين أخذَ أيسَرهما ما لم يكن إثمًا.
طلْقُ الوجه؛ قال جرير بن عبد الله: ما رآني رسول الله قطُّ إلا تبسَّم.
واصلٌ لرَحِمه، صادقٌ في حديثه، قاضٍ لحوائِجِ المكروبين؛ قالت له [خَديجة]: ((إنّك لتصِلُ الرَّحِمَ، وتصدُق الحديث، وتحمِلُ الكلَّ، وتكسِبُ المعدوم، وتَقري الضيفَ، وتُعينُ على نوائب الحقّ)).
بارٌّ بوالدته؛ زار قبرها فبكى وأبكى من حوله، وقال: ((استأذنتُ ربي في أن أستغفِرَ لها فلم يُؤذَن لي، واستأذنتُه في أن أزور قبرَها فأذِن لي)) رواه مسلم.
رقيقُ القلب رفيقٌ بمن تحته؛ خدَمه أنسٌ عشرَ سنين، فما قال له: أفٍّ قط، ولا قال لشيءٍ صنعَه: لم صنعتَ؟ ولا: ألا صنعتَ؟!رحيمٌ بالضعفاء والمرضى؛ أمَر من يُصلِّي بهم أن يُخفِّف صلاتَه من أجلهم.
رؤوفٌ بالناس شديد الحِلم؛ بالَ أعرابيٌّ جهلاً منه في مسجِده، فتناولَه الناس، فقال لهم: ((دَعوه حتى يقضِي بولَه، وهَريقوا على بولِه سجلاً من ماءٍ -أو: ذنوبًا من ماء-؛ فإنما بُعِثتُم مُيسِّرين ولم تُبعَثوا مُعسِّرين)) رواه البخاري.
كثيرُ البذل والعطاء، لا يردُّ سائلاً ولا مُحتاجًا، كريمُ اليدِ واسعُ الجُود؛ طيّبٌ لا يأكل إلا طيبًا، ومع عِظَم أعباء ما أُوكِل إليه من الرسالة كان جميلَ المعشَر مع أهله مُتلطِّفًا معهم، فإذا دخل بيتَه يكون في مهنتهم، وإذا حضرَت الصلاة خرج إلى الصلاة.رقيقٌ مع أولاده وأحفاده مُكرمٌ لهم، إذا دخلت ابنتُه فاطِمَةُ يقوم لها ويأخُذ بيدها ويُجلِسُها في مكانه الذي كان يجلسُ فيه. وكان يضعُ الحسنَ على عاتقه ويقول:(اللهم إني أُحبُّه فأحِبَّه) متفق عليه. وخرج على صحابته وبنتُ ابنته أمامةُ على عاتقه، فصلَّى بها فإذا ركع وضعها، وإذا رفع رفعها. متفق عليه.
ذاقَ من الحياةِ مُرَّها ولأواءها؛ وربطَ على بطنه الحجرَ من الجوع؛ قال عمر : لقد رأيتُ رسولَ الله يظلُّ اليومَ يتلوَّى، ما يجدُ من الدَّقَل -أي: التمر الرديء- ما يملأ به بطنَه. رواه مسلم.
لاقَى من المِحن والشدائد أشقَّها؛ نشأ يتيمًا، وأُخرِج من بلَدِه، وحُوصِر في الشِّعبِ ثلاثَ سنين، واختفَى في غارٍ، ومات له ستة من الولد، وتبِعَه قومُه في مُهاجَره وقاتلوه، ومكرَ به أهلُ النفاق، وسُقِي السمّ، وعُمِل له السحر، وكان يقول: ((أُخِفتُ في الله وما يُخافُ أحد، وأُوذيتُ في الله وما يُؤذَى أحد)).
ومع ما لاقاه من تلك المصائبِ وغيرها كان مُتفائلاً في حياته ويقول:(يُعجِبني الفألُ والكلِمَةُ الحسَنَة) متفق عليه.أعرضَ عن الدنيا ورجا ما عند الله؛ فكان يقول: ((ما لي وللدنيا؟! ما أنا في الدنيا إلا كراكبٍ استظلَّ تحت شجرةٍ ثم راحَ وتركها))، ففارقَ الحياةَ ولم يُخلِّف شيئًا من حُطامها؛ قالت عائشة رضي الله عنها: تُوفِّي رسولُ الله وما ترك دينارًا ولا درهمًا ولا شاةً ولا بعيرًا، ولا أوصى بشيء.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه.أما بعد
أيها المسلمون، فنبيُّنا قد أدَّى أمانةَ الرسالة ونصحَ لأمته، وقال: ((مثَلي ومثَلُكم كمثَل رجلٍ أوقدَ نارًا، فجعل الجنادبُ والفراشُ يقعن فيها وهو يذُبُّهن عنها، وأنا آخِذٌ بحُجَزكم عن النار، وأنتم تفلَّتون من يدي)) رواه مسلم.
ومِن وفاء الأمّة له أداء حقوقِه؛ من الإيمان به والتصديق بما جاء به، فقال: ((لا يسمعُ بي أحدٌ من هذه الأمة يهوديّ ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمِن بالذي أُرسِلتُ به إلا كان من أصحاب النار)) رواه مسلم.
ومن حقه تقديمُ حبِّه على جميع المحابّ، قال:(لا يُؤمنُ أحدُكم حتى أكون أحبَّ إليه من ولدِه ووالده والنّاس أجمعين) متفق عليه.
ومن واجباتِ الأمة في جنابه طاعتُه فيما أمَر، واجتنابُ ما عَنه نهى وزجَر، قال عليه الصلاة والسلام: ((كل أمّتي يدخلون الجنةَ إلا من أبَى))، قالوا: يا رسول الله، ومن يأبَى؟! قال: ((من أطاعني دخل الجنةَ، ومن عصاني فقد أبَى)) رواه البخاري.
ومِن أصول الشهادةِ له بالرسالة أن لا يُعبَد الله إلا بما شرع، قال: ((إياكم ومُحدثات الأمور)).
ومِن محبته قراءةُ سيرته ومعرفةُ هديه في كلّ حين، ونشرُ دعوته في الآفاق، وأن يدعوَ المسلِمُ لما دعا إليه من التوحيد وأوامر الدّين ومحاسنِه وفضائِله، ومن جعل النبيَّ قدوتَه في عباداته ومعاملاته نالَ الفلاحَ والرّضا.

هذا وصلّوا وسلِّموا على الرحمةِ المهداة والنّعمة المسداة رسولِ الله محمّد بن عبد الله.
المشاهدات 2170 | التعليقات 0