هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ الْمَنْزِلُ ( الجمعة 1442/1/23 هـ )

يوسف العوض
1442/01/20 - 2020/09/08 17:31PM

الخطبة الأولى
أَيّهَا الْمُسْلِمُونَ : كَانَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ يَغْدُونَ إلَى قُبَاءَ يَنْتَظِرُون قُدُومِه ﷺ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ فَإِذَا أحَرقَتْهُم الشَّمْسُ رَجَعُوا فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ قُدُومِهِ ﷺ غَدَوْا كَعَادَتِهِم فَلَمَّا أحرقَتُهم الشَّمْسُ رَجَعُوا فَإِذَا بِيَهُودِيٍّ يَصِيحُ : يَا بَني قَيْلَةَ هَذَا صَاحِبُكُمُ فَلَبِسُوا السِّلاحَ وَتَلَقَّوْه فَقَدِمَ ﷺ حَتَّى وَصَلَ إلَى مَوْضِعِ قُبَاء ، نَزَلَهَا بالسَّعدِ والهَناءِ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ مَوْلِدِه رَبِيعٍ الْأَوَّلِ فنِعمَ تِلْك الْهِجْرَةُ . وَجَاءَ الْمُسْلِمُون يُسلِّمون عَلَيْهِ وَهُوَ ﷺ جَالِسٌ فِي ظِلِّ نَخْلَةٍ حَتّى زَالَ الظِّلُّ عَنْهُ فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ يظلُّه بِرِدَائِه وَأَكْثَرُهُم لَمْ يَكُنْ رَأَى الْمُصْطَفَى قَبْلَ ذَلِكَ ، رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ ، قَال : ( فَمَا رَأَيْتُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ فَرِحُوا بِشَيْءٍ فَرَحَهُم بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ …)
أَيّهَا الْمُسْلِمُونَ : لَبِثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي قَبَاءٍ فِي بَنِي عَوْفِ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً وأسَّسَ الْمَسْجِدَ الَّذِي أُسّسَ عَلَى التَّقْوَى وصلّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ قاصدًا الْمَدِينَة فَسَار ﷺ يَمْشِي مَعَهُ النَّاسُ ، فَأَخَذ بَعْضُهُم خِطَامَ نَاقَتِهِ ﷺ وَقَال :(أَقِم عِنْدَنَا فِي الْعَدَدِ وَالْعُدَّةِ والمَنَعَةِ) فَقَالَ ﷺ : ( دَعُوهَا فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ ) رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ ، حَتَّى بَرَكَتْ عِنْدَ مَسْجِدِ الرَّسُولِ بِالْمَدِينَةِ وَهُوَ يُصَلِّي فِيهِ يَوْمَئِذٍ رجالٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَكَان مِرْبدًا لِلتَّمْرِ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ مِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ النّجّارِ ، فَقَالَ الرَّسُولُ ﷺ حِين بَرَكَت الرَّاحِلَةُ : « هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ الْمَنْزِلُ » ثُمَّ دَعَا الْغُلَامَيْنِ فَسَاوَمَهُمَا بِالْمِرْبَدِ (والمِرْبَدُ مَوْضِعُ تَجْفِيفِ التَّمرِ ) لِيَتَّخِذَه مَسجدًا فَقَالَا : بَلْ نَهَبُهُ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ . فَأَقَام بِدَار ِأَبِي أَيُّوبَ حَتَّى ابْتَنَى مَسْجَدَه الرَّحِيبَ وَكَان النّبيّ ﷺ يَنْقُلُ مَعَهُمُ الْحِجَارَةَ فِي ثِيَابِهِ وَيَقُولُ كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ : « اللّهمّ إنَّ الأجرَ أجرُ الْآخِرَة فارحمِ الأنصارَ وَالْمُهَاجِرَةَ » ، ثُمَّ إنَّهُ بَنَى حَوْلَ الْمَسْجِدِ مَنَازِلَ لِأَهْلِه أَيْ نِسَائِهِ وَمَوَالِيه وَبَعَثَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ وَأَبَا رَافِعٍ إِلَى مَكَّةَ فَقَدِمَا عَلَيْهِ بِفَاطِمَةَ وَأُمِّ كُلْثُومٍ ابْنَتَيْه وَسَوْدَةَ زَوْجَتِه وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ وَأُمِّهِ أُمِّ أَيْمَنَ وَكَانَ أَصْحَابُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَبْنُون مَسَاكِنَهَم حَوَالَيْهِ فِي ظلِّه حَتَّى إنَّ مَنْ الْأَنْصَارِ مِنْ تَرَكَ مَسْكِنَه الْبَعِيدَ وَسَكَنَ بِقُرْبِه ، فعَنْ أَنَسٍ بْنِ مَالِكٍ ، قَال : ( لَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ أَضَاءَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَظْلَمَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ ، وَمَا نَفَضْنَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَيْدِي حَتَّى أَنْكَرْنَا قُلُوبَنَا وَ عَنْ أَنَسٍ : شَهِدَت يَوْمَ دُخُولِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ ، فَلَمْ أَرَ يومًا أَحْسَنَ مِنْهُ وَلَا أَضْوَأَ ) .
فَطَابَت بِه ﷺ طَيِّبَةُ مُنْذ دَخَلَهَا بَعْدَ الرَّدَى وَأَضَاءَ كُلُّ مَا كَانَ مِنْهَا أَسْوَدُ . .
الخطبة الثانية
 
أَيّهَا الْمُسْلِمُونَ : وَلَمَّا وَصَلَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلْمَدِينَةِ بَدأً بِبِنَاءِ دَوْلَةٍ كَامِلَةِ الْأَرْكَانِ فَقَامَ بعِدَةِ أُمُورٍ هَامَةٍ كَانَ لَهَا أَهَمِّيَّةٌ فِي بِنَاءِ الدَّوْلَةِ وَتَحْقِيقِ الْمَصْلَحَةِ الشَّامِلَةِ للبشريِّةِ جَمْعَاءَ حَتَّى لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ إنْ أَرَادُوا السَّيْرَ عَلَى حَذْوِهَا :
أولاً/ الْجَانِبُ الدِّينِيُّ .. بَنَى النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْمَسْجِدَ وَهُوَ مَكَانُ الْتِقَاءِ النَّاسِ ليأتَمِروا بِه ويَتَشاورونَ بِه شُؤُونَهُم بِالْإِضَافَةِ لدَورِه فِي الْعِبَادَةِ الَّتِي تَرْبِطُ النَّاسَ بِاَللَّهِ وَتُوَثِّقُ الْإِيمَانَ الَّذِي بِهِ الْقُوَّةُ والمَنَعَةُ حَيْثُ إنَّ الْعِبَادَةَ وَسِيلَةٌ لِلْوُصُولِ لِهَدَفِ وَهُو اِجْتِمَاعِيَّةُ الْقُلُوبِ وَاتِّحَادِهَا كَمَا تَجْتَمِعُ الْأَبْدَانُ فِي مَكَانِ الْعِبَادَةِ .
ثانياً/ الْجَانِبُ الاجْتِمَاعِيُّ .. آخَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فَكَانَ مِثَالاً هَامًا لِدُورِ الدِّينِ الإِسْلامِيِّ فِي تَوْحِيدِ النَّاسِ مَنْ أَمَاكِنَ وَأُصُولٍ مُخْتَلِفَةٍ ويَذُوبُوا تَحْتَ رَايَةِ دِينٍ وَاحِدٍ مِمَّا يُؤَدِّي لِقُوَّةِ وَلُحْمةٍ لِلْأُمَّةِ .
 
ثالثاً/ الْجَانِبُ السيَّاسيُّ .. دَشَّنَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَثِيقَةَ الْمَدِينَةِ الشَّهِيرَةِ الَّتِي قَنَنَت لِلْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْفُسِهِم وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ مِمَّن يَسْكُنُ الْمَدِينَةَ الْمُنَوَّرَةَ وَاَلَّتِي حَفِظْت حُقُوقَ الْجَمِيعِ واكَّدتْ عَلَى وَاجباتِهِم جَمِيعًا .
 
رابعاً/ الْجَانِبُ الاقتصادي .. بَنَى رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سُوقَ الْمَدِينَةِ وَجَعَلَ لِلْجَمِيعِ حَقَّ مُمَارَسَةِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَعَدَمِ حَكرِ ذلِكَ عَلَى الْيَهُودِ وَحْدَهُم وَاَلَّذِينَ كَانُوا يَمْلِكُون كُلَّ التِّجَارَةِ ويَحتَفظِونَ بِهَا لِأَنْفُسِهِم بِالْمِنْطَقَةِ كُلِّهَا وَلَيْسَ فَقَط دَاخِلَ الْمَدِينَةِ وبالتَّالي حُرِّيَّةُ تَملُّكِ الْمَالِ وَتَوَسَّعُ دَائِرَةِ المُتَملِكينَ لِلْمَال خَاصَّةً الْمُسْلِمِينَ وَخَاصَّةً الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ جَاؤوا مِنْ مَكَّةَ يَعْرِفُون التِّجَارَةَ ويَمهَرون بِهَا لَكِنْ كَانَ يَنْقُصُهُم سُوْقًا يُمَارسِون فِيهِ هَذَا الْحَقَّ فَكَان بِنَاءُ السُّوْق مِنْ أَهَمِّ مَا قَامَ بِهِ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَوْرَ وُصُولِهِ الْمَدِينَةَ.
المشاهدات 1414 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا