هدي النبي ﷺ مع نسائه
حسام الحجي
إنَّ الْحَمْدَ لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِىَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ(.
أمَا بعد: دعونا اليومَ نقفُ معَ النبيِ الحبيبِ ﷺ وحياتِهِ في بيتهِ، فكثيرٌ منَ البيوتِ اليومَ تعيشُ كمًّا منَ الهمومِ وزَخَمًا منَ المشاكلِ، خلافٌ وشقاقٌ، وهجر وفِراق، يعيشونَ سنينَ عددًا بلا رحمةٍ ولا حب، ولا مودةٍ ولا سكن.
تعالوا نعيشُ معَ الزوجِ الكريمِ ﷺ الذي كانَ يسمعُ الشكوى ويُكَفكفُ الدمعةَ، ولا يجرحُ بكلامهِ ولا يؤذي بلسانهِ، لا يتصيدُ الأخطاءَ، ولا يتتبعُ العثراتِ، وهوَ القائلُ عليه الصلاة والسلام :«لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ».
استمِعْ إلى عشيرَتهِ وحبيبَتِهِ عائشةَ رضيَ اللهُ عنها التي خلقها اللهُ تعالى لتسكنَ في بيتِ النبوةِ، وتعيشَ في كنفِ رسولِ اللهِ ﷺ، فتتأسى بخلقهِ، وتحفظَ سنتَهُ، وتنشرَ أخلاقَهُ فتَشْرَئبُّ أعناقُ الصحابةِ إلى سؤالٍ دقيقٍ في حياةِ النبيِ ﷺ، ما كانَ رسولُ اللهِ يصنعُ في بيتهِ ؟ فتقولُ عائشةُ الصادقةِ واصفةً حالَهُ في بيتهِ: «كَانَ أَلْيَنَ النَّاسِ وَأَكْرَمَ النَّاسِ، كَانَ ضَحَّاكًا بَسَّامًا».
«كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ: يَخْصِفُ نَعْلَهُ، وَيُرَقِّعُ ثَوْبَهُ»، «فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ خَرَجَ إِلَى الصَّلاَةِ».
اللهُ أكبرُ . . أخلاقٌ وشمائلُ تجلتْ فيها معالمُ الهديِ المحمديّ في أسرتهِ وبيتهِ، ما أحوجَنا يا كرامُ أنْ نتمثلَ بهذا الخُلُقِ في بيوتنا ومعَ أهلينا.
يطولُ عجبُكَ منْ أناسٍ يجودُ بالكلامِ الحسنِ، والثغْرِ المتبسمِ معَ أصحابهِ وخِلانهِ حتى إذا أغلقَ بابَهُ، وخلا بأهلهِ تغيرتْ شخصيتهُ فلا ترى إلا كآبةَ المنظرِ، وسوءَ التعامُلِ، ولغَةَ التأفُّفِ، ثمَ تأملْ معي في قولها رضيَ اللهُ عنها كانَ ﷺ في مهنةِ أهلهِ، وواللهِ لا أدري ما هيَ الخدمةُ التي كانَ النبيُ ﷺ يقدمُها لزوجةٍ تسكنُ في حُجرةٍ صغيرةِ المبنى، قليلةِ الأثاثِ، خاليةِ المتاعِ.
أما كانتْ عائشةُ رضيَ اللهُ عنها تسكنُ في بيتٍ تتصرمُ الشهرانِ بتمامِها وما أوقدَ فيهِ نارٌ لطعامٍ يُصنعُ؟
إنَّ الجوابَ عنْ هذهِ التساؤلاتِ كلِّها أنْ تعلمَ رعاكَ اللهُ أنَّ نبينا عليه افضل الصلاة والسلام ما كانَ في خدمةِ أهلهِ، وخياطةِ ثوبهِ، وخَصفِ نعلهِ لكثرةِ الشغلِ وجُهدِ العملِ كلا.. إنما هيَ المودةُ والرحمةُ (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا) ولمْ يقلْ لتسكنوا معها.
لقدْ قدمَ ﷺ لنسائهِ ألوانًا منَ الحُبِّ والعاطفةِ.
حدِّثْني أيها الزوجُ هلْ جربْتَ أنْ تشربَ وتأكُلَ منْ مَوضِعِ فَمِ زوجتكَ؟ باللهِ خُذْ هذا التعاملَ معَ أعظمِ رجلٍ عرفتهُ البشريةُ، تقولُ عائشةُ رضيَ اللهُ عنها :«كُنْتُ أَشْرَبُ وَأَنَا حَائِضٌ، فَأُنَاوِلُهُ النَّبِيَّ ﷺ فَيَضَعُ فَاهُ عَلَى مَوْضِعِ فِيَّ فَيَشْرَبُهُ، وَأَتَعَرَّقُ الْعَرْقَ وَأَنَا حَائِضٌ، فَأُنَاوِلُهُ النَّبِيَّ ﷺ فَيَضَعُ فَاهُ عَلَى مَوْضِعِ فِيَّ»
هلْ جربْتَ أنْ تتكئَ عليها وتنامَ في حِجرها؟ تقول عائشةُ رضيَ اللهُ عنها «كَانَ يَتَّكِئُ فِي حِجْرِي وَأَنَا حَائِضٌ، ثُمَّ يَقْرَأُ القُرْآنَ».
بل كان عليه الصلاةُ والسلامُ يُقَبِّلُ زوجَتَه قبلَ خُروجِهِ مِنَ البيتِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رسول الله ﷺ «قَبَّلَ بَعْضَ نِسَائِهِ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ» قَالَ عُرْوَةُ: قُلْتُ لَهَا: مَنْ هِيَ إِلَّا أَنْتِ؟ قَالَ: فَضَحِكَتْ.
هل جرّبْتَ أنْ تمدحَ زوجَتَكَ عِند أهلِك وأهلِهَا فقد كان ﷺ يقولُ «فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ، كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ».
وقال مُعْلِنًا للملأِ ولأُمَّتِهِ عن زوجتهِ الوفيّةِ خديجةَ رضيَ اللهُ عنها «إِنِّي قَدْ رُزِقْتُ حُبَّهَا». وكانَ ﷺ يواسي زوجَتَهُ حالَ مَرَضِها ويَرْقيها تقولُ عائشةُ رضيَ اللهُ عنها: «كَانَ إِذَا مَرِضَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ نَفَثَ عَلَيْهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ».
ويَحكي أنسُ رضيَ اللهُ عنهُ موقِفاً عجيباً في تواضعه ﷺ لزوجاتِهِ فيقولُ: «لمّا أرادتْ صفيّةُ زوجَتُهُ رضيَ اللهُ عنها أنْ تركبَ البعيرَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ يُحَوِّي لَهَا وَرَاءَهُ بِعَبَاءَةٍ، يعني: يُحيطُها بها، ثُمَّ يَجْلِسُ عِنْدَ بَعِيرِهِ، فَيَضَعُ رُكْبَتَهُ، فَتَضَعُ صَفِيَّةُ رِجْلَهَا عَلَى رُكْبَتِهِ حَتَّى تَرْكَبَ».
اللهُ أكبرَ.. هذهِ أخلاقُ منْ؟ هذهِ شمائلُ منْ؟ أيها الزوجُ ضعْ عنوانًا لهذا التعاملِ النبويِ.
زانتك في الخُلُق العظيمِ شمائلُ**يُغرَى بهنّ ويُولَعُ الكـرماءُ
أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكمْ ولعبادهِ فاستغفروهُ يغفر لكمْ . .
الخطبةُ الثانيةُ /
الحمدُ للهِ كما أمرَ، والصلاةُ والسلامُ على خيرِ البشرِ ، أما بعدُ: لقدْ عاشَ ﷺ معَ أهلهِ، عَيشَ المُحِبِّ لَهُنَّ، الحريصِ على سُرورِهِنَّ وإسعادِهِنَّ، الصابرِ على زَلَلِهنَّ ونَقْصِ عُقُولِهِنَ كانَ يُقَدِّرُ الطِّباعَ، ويَلتَمِسُ الأعذارَ، وَيُحسِنُ المُعاملةَ.
وها هُمُ الأحباشُ يرقصونَ بالحِرابِ؛ فسمِعَ رسولُ اللهِ ﷺ ضوضاءَ الناسِ والصبيانِ، وكانَ جالسًا فقام ثم قالَ: «يَا عَائِشَةُ تَعَالَيْ فَانْظُرِي» قالت: فَوَضَعْتُ خَدِّي عَلَى مَنْكِبَيْهِ، فَجَعَلَ يَقُولُ: «يَا عَائِشَةُ! مَا شَبِعْتِ؟» فَأَقُولُ: لَا؛ لأَنْظُرَ مَنْزِلَتي عِنْدَهُ.
هذهِ طبيعةُ الأنثى، في رِقَّتِها وطَبعِها، تُفصِحُ عنها أمُّنا عائشةُ، لنتعلمَ ونتفقهَ ونَقْدُرَ لكلِ شيءٍ قدرَهُ، كما نَقْدُرَ لكلِ سنٍّ قدرَهُ.
وروى النَّسائيُّ في بابِ عِشرةِ النساءِ عنْ عائشةَ رضيَ اللهُ عنها قالتْ: «زَارَتْنَا سَوْدَةُ يَوْمًا فَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بَيْنِي وَبَيْنَهَا إِحْدَى رِجْلَيْهِ فِي حِجْرِي، وَالْأُخْرَى فِي حِجْرِهَا، فَعَمِلْتُ لَهَا حَرِيرَةً، أَوْ قَالَ: «خَزِيرَةً» فَقُلْتُ: كُلِي، فَأَبَتْ فَقُلْتُ: " لَتَأْكُلِي، أَوْ لَأُلَطِّخَنَّ وَجْهَكِ، فَأَبَتْ، فَأَخَذْتُ مِنَ الْقَصْعَةِ شَيْئًا فَلَطَّخْتُ بِهِ وَجْهَهَا، فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ ﷺ رِجْلَهُ مِنْ حِجْرِهَا تَسْتَقِيدُ مِنِّي، فَأَخَذَتْ مِنَ الْقَصْعَةِ شَيْئًا فَلَطَّخَتْ بِهِ وَجْهِي، وَرَسُولُ اللهِ ﷺ يَضْحَكُ».
كمْ يا تُرى في هذهِ الصورةِ منَ المودةِ واللطفِ العائليِ، والتعاملِ النبويِّ؟ كمْ في هذهِ الصورةِ منْ إدخالِ السرورِ، ونشرِ السعادةِ في أهلِ بيتهِ؟ ما أعظمَ هذا الخُلُقَ؟ وما أطيبَ التعاملَ؟ هذا هوَ رسولُ اللهِ ﷺ، صاحبُ الخُلُقِ العظيمِ، والتواضُعِ الجمِّ، فقدْ عاشَ معَ زوجاتهِ الطاهراتِ حياةً سعيدةً طيبةً ممتثلاً قولَ ربهِ تعالى (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا).
اللهمَّ أصلحْ رجالَنا ونساءَنا، اللهم أصلحْ أحوالَنا وأحوالَ المسلمينَ، اللهم ومُنَّ علينا بالرَّخاءِ والسَّخاءِ يا ذا الجلالِ والإكرامِ، اللهم مَنْ أرادَ إفسادَ مجتمعاتِ المسلمينَ فعليكَ به، اللهم لا تجعلْ له رايةً، واجعله للعالمينَ عبرةً وآيةً، اللهم وفق ولاتنا لهداك واجعل عملهم في رضاك وأصلح بطانتهم ومستشاريهم، اللهمَّ آتنا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.