هديه صلى الله عليه وسلم في الحزن والفرح
الغزالي الغزالي
1434/03/19 - 2013/01/31 17:19PM
هديه صلى الله عليه وسلم في الحزن والفرح الجمعة 20 ربيع الأول 1434هـ 01/02/2013
الْحَمْدُ للهِ المتفرد باسمه الأسمى، والمختص بالملك الأعز الأحمى، الذي ليس من دونه منتهى ولا ورائه مرمى، الظاهر لا تخيلاً ووهمًا، الباطن تقدسًا لا عدمًا.. وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأسبغ على أوليائه نعما عُما، وبعث فيهم رسولاً من أنفسهم، هو أنفسهم عربًا وعجمًا، وأفضلهم روحًا وجسمًا، آتاه الله حكمة وحكمًا، فآمن به وصدقه من جعل الله له في مغنم السعادة قسمًا، وكذّب به وصدف عنه من كتب الله عليه الشقاء حتمًا، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى.. صلى الله عليه صلاة تنمو وتنمى، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.. أَمَّا بَعْدُ: فَيأيُّهَا النَّاسُ اتقوا الله تَعَالَى، فإنَّ التَّقوى رأس كلِّ شيءٍ، وجماع كلِّ خيرٍ, وهي غاية الدِّين، ووصيَّة الله تعالى للنَّاس أجمعين؛ الأوَّلين منهم والآخرين, قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾. مَعَاشِرَ المُسْلِمِينَ: نواصل اللقاء، في معارج الثناء، وفي رحاب سيد الأنبياء، استجلابًا لِلْيُمْن، في عالم الغبن، ودفعًا للاضطرار، في عالم الارتياب، وبناء للذات، في عالم الإغراء واللذات. ومعلوم أن الذوات لا تبنى إلا بوجود مثال للكمال، يُقاس عليه البناء، ويكون على منواله الإنشاء، ومن غيرُ رسول الله جديرًا بأن يُتخذ نموذجًا يحتذى، وإمامًا به يُقتدى. وقد زكاه ربه ورضيه للعباد منهجًا موصلاً إليه، ومرضيًا لديه، قال تعالى داعيًا عشاق الكمال، والباحثين عن الجمال والجلال، والراغبين في ذكر الله بالغدو والآصال: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) وكما بيّن سبحانه أن التأسي والاقتداء بنبيه موصل إلى الرضوان، فقد بين سبحانه أن الخروج عن أمره ونهيه سبب من أسباب الخسران، (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم). نقف اليوم إن شاء الله تعالى عند جانب مهم من جوانب كماله الجبلي، وجلاله اللدني، الذي يلتقي فيه كماله البشري، بجلاله النبوي، لتظهر حكمة الله في اختياره واجتبائه مصداقًا لقوله: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ). نقف عند جانب الحزن والفرح في حياته، ولا نذكر ذلك من باب التسلية، ولكن حثًّا للنفس على التزكية، قياسًا على العظمة النبوية. أيها الأحباب: الأحزان والهموم والمصائب التي مر بها المصطفى كثيرة جدًّا، بل لقد تعرض لمواقف تهتز أمامها الجبال الراسيات، إلا أن العظمة في مواقفه من كل ذلك، فهي لم تفُتّ في عضده أو تضعف مسيرته، أو تحد من همته أو تربك دعوته.. بل مضى شامخًا، وظل راسخًا، لا تزيده المحن والهموم والأحزان إلا عزًّا وصلابة وإيمانًا ويقينًا. بل كان يتلذذ بالصبر على ذلك، ويرى أنه في ذات الله روحًا وريحانًا، ومسرة وسلوانًا، ولنتأمل جميعًا ونحن نستعرض بعض ما أحزن الرسول على ماذا كان يحزن؟ ومتى؟ وكيف؟ أولاً: حزنه على إعراض قومه عن الحق، وانصرافهم عن الخير وحرمانهم من الهدى، بل لقد بلغ به الهم والحزن إلى أن كادت نفسه تذهب عليهم حسرات، فسلاه ربه بقوله: (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ). وقوله تعالى: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ -أي قاتل نفسك- عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا). وفي ذلك دعوة إلى عموم المسلمين وخاصتهم إلى الشفقة والرحمة، والترفق في الدعوة، واللطف في النصيحة؛ اقتداءً بالرسول الكريم، الذي وصفه ربه بأنه بالمؤمنين رءوف رحيم.. ومع الأسف فإننا نرى في الغالب خلاف ذلك من غلظة وتعنيف، وتشكيك وتخويف.. مما أدى إلى إحداث هوة بين فئات المسلمين. يقول ربنا مبرزًا بعض جوانب عظمة رسوله، خصوصًا في باب رحمته ولينه (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ، وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ، فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ). ومن ذلكم حزنه على موت عمه أبي طالب؛ حيث حزن؛ لأنه كان ينصره ويحميه. وكذلك حزنه على موت زوجه الفضلى خديجة في العام نفسه حتى سُمِّي ذلك العام بعام الحزن. ومن ذلك حزنه لما نزلت عليه الآية (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ)؛ حيث حزن وحزن أصحابه خشية أن يكون قد انقطع الوحي وأتى العذاب لقومه، وأن الله قد يهلكهم، وظل حزينًا حتى أنزل الله تعالى: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ). من ذلك حزنه على أصحابه من الأنصار الذين قُتلوا يوم بئر معونة، وهم سبعون رجلاً، يقول أنس بن مالك: "ما رأيت النبي وجد - أي حزن- على سرية ما وجد على أهل بئر معونة"، وقد كانوا جميعًا من أصحاب القرآن وحملته، وهذا هو السر. أخرجه البخاري. وذلك لأنه كان يحب أهل القرآن، ويعطف عليهم ويشيد بهم، فكيف هي منزلة أهل القرآن عندنا اليوم؟ مع الأسف كثير من المسلمين لا تحلو لهم الإهانات، ولا تطيب لهم الانتقادات، إلا في حق الأئمة والمؤذنين وغيرهم من أهل القرآن. ويكفي في بيان منزلة الأئمة والمؤذنين دعاء رسول الله لهم، ذلك الدعاء الخالد الباقي إلى يوم القيامة، يقول: "الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن، اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين" أخرجه أبو داود وصححه أهل العلم. طبعًا لا أحد يعلو على النصيحة، ولكن إذا كانت النصيحة فلتكن برفق ولين ومراعاة المقام، وعلى أهل القرآن أن يكونوا مثالاً للعزة والكرامة والأنفة في تعاملهم.. من ذلك: حزنه من أقوال المشركين الفاسدة وافترائهم على الله وعلى ملائكته وعلى رسالته، وقد أمره ربه جل وعلا بألا يحزن بمقولاتهم وألا يضيق بذلك صدره (وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) وقال سبحانه: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ). فهل نحزن نحن اليوم إذا سمعنا الطعن في القرآن أو في السنة أو إذا شاهدنا السخرية من تعاليم الإسلام، وما أكثر مظاهر ذلك؟ أم نتألم لأشياء أخرى فارغة لا معنى لها؟! من ذلك: حزنه على فقد بعض أصحابه المقربين كسعد بن معاذ، قالت عائشة: "لما أصيب سعد بن معاذ يوم الخندق رماه رجل في الأكحل، وهو عرق يكون في الذراع لا يرقأ إذا أُصيب، يسيل منه الدم باستمرار، فضرب عليه رسول الله خيمة في المسجد ليعوده من قريب" رواه مسلم. وقبل ذلك، حزنه على صفوة أصحابه الذين استُشهدوا في الغزوات، أمثال عمه حمزة بن عبد المطلب الذي استشهد في معركة أُحد، ومصعب بن عمير، وجعفر بن أبي طالب وغيرهما من الصحب الكرام. ومن ذلكم: حزنه وشفقته على أمته عندما قرأ قول الله عن إبراهيم: (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي، وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، وقول عيسى عليه السلام: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). فقال: " اللهم أمتي.. أمتي وبكى، فقال الله: يا جبريل! اذهب إلى محمد، فأقرئه السلام، فسله ما يبكيك؟ وربك أعلم، فنزل جبريل، وقال: يا محمد! ربك يقرئك السلام ويقول لك: ما يبكيك؟ وربك أعلم، فقال: أمتي.. أمتي، فرجع جبريل إلى ربه، فقال الله: اذهب إلى محمد وقل له: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك". وقد استقى بعض الشعراء هذا المعنى فقال:
أترضى حبيبي أن تكون منعمًا ** ونحن على جمر اللظى نتقلب
ألم يرضك الرحمن في سورة الضحى ** وحاشاك أن ترضى وفينا معذب
هذه بعض الأحزان التي تعرض لها وغيرها كثير.. والغرض من مثل هذا الموضوع أمران مهمان هما: توضيح الصورة الكاملة لحياة رسول الله، وبيانها للمحبين بأفراحها وأحزانها وآلامها، وآمالها ومسراتها وهمومها. وكذلك ضرب المثل وأخذ العبرة والتماس القدوة، قال ابن القيم رحمه الله: "وأما بكاؤه فكان من جنس ضحكه، فلم يكن بشهيق ورفع صوت، كما لم يكن ضحكه بقهقهة، ولكن كانت تدمع عيناه حتى تهملا، ويُسمع لصدره أزيز، وكان بكائه تارة رحمة للميت، وتارة خوفًا على أمته وشفقة عليها، وتارة من خشية الله، وتارة عند سماع القرآن، وهو بكاء اشتياق ومحبة وإجلال مصاحب للخوف والخشية". ومن ذلك بكاؤه لما كسفت الشمس وصلى صلاة الكسوف، وجعل يبكي في صلاته وجعل ينفخ ويقول: "ربّ ألم تعدني ألا تعذبهم وأنا فيهم وهم يستغفرون" . بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْوَحْيَيْنِ، وَنَفَعَنِي وَإيِّاكُمْ بِهَدْيِ سَيِّدِ الثَّقَلَيْنِ، أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ خَيْرُ الْغَافِرِينَ وَأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.
الْحَمْدُ للهِ الذي منَّ على المؤمنين بنبي الرحمة، وجعله مؤيدًا بالكتاب والحكمة؛ علمهما أمته وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين، والصلاة والسلام على نبي التقى، وإمام الهدى الذي عرّف نفسه فقال: "إنما أنا رحمة مهداة"، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه، الذين فازوا بحبّه وقربه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم وعيده ووعده.. أَمَّا بَعْدُ، معاشر الصالحين: الإنسان في حياته معرض للأفراح والمسرات، والأحزان والأنكاد، فإن الدنيا لا تدوم على حال، وتقلباتها كثيرة، ومفاجآتها مخيفة، لكن المسلم قد أنار الله بصيرته، وربط على قلبه وأنعم عليه بنعمة الإيمان بالقضاء، والرضا بالقدر، واحتساب الأجر، فهو إن فرح فلا يفرح فرحًا يخرج به عن الحدود، أو يجره إلى غضب المعبود، بل له أن يفرح ويأنس، وهو مع ذلك شاكر لربه جل وعلا الذي أنعم عليه بما يفرحه ويسره، فلا تنسيه المسرات، عطاء رب الأرض والسماوات، وهو إن مر به حزن أو تعرض لمصيبة يصبر ويحتسب، ويحمد الله على كل حال. لقد كان الرعيل الأول ينظرون إلى قيم الحياة، ويعدون الفضل الأول والرحمة الأولى هي ما جاءهم من الله من موعظة وهدى، أما المال والمناصب فهي تابعة لهذه المعاني وخادمة لها. لذلك كان النصر يأتيهم، وكان المال ينسال عليهم، وكان الثراء يطلبهم، إن طريق هذه الأمة واضح، إنه في هذا الذي يسنّه لها قرآنها، و يسير عليه رجالها.. إن الأرزاق و الأعراض المادية ليست هي التي تحدد مكان الناس في هذه الأرض في الحياة الدنيا فضلاً عن مكانهم في الحياة الأخرى، يقول ربنا: (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آَمِنُونَ). عندما تصبح الأموال والمناصب والكراسي صنمًا يكدح الناس حوله، ويطوفون به، فإن كل القيم والاعتبارات الأخرى تُدَاس في سبيله وتُنتهك، الأخلاق، الأسرة، الأعراض، الحريات، المجتمعات وحتى الأوطان. إن القيمة العليا يجب أن تبقى لفضل الله ورحمته المتمثلة في هداه الذي يشفي الصدور، ويحرر الرقاب، ويعلي من قيم الإنسانية في الإنسان. لذالكم فإننا إذا ما قمنا بجولة سريعة في أفراح رسول الله نجد هذه المعاني بارزة واضحة في أجلى صورها، وأسمى أشكالها. ولقد مرت في حياته أفراح كثيرة، ومسرات متعددة، ولم يكن شيء أحب إليه من: رضوان الله عز وجل، أو إيمان إنسان ونجاته من الشرك، أو سرور يدخله على مسلم، أو معروف يقدمه لمسكين أو فقير، أو عودة لحبيب غائب منتظر، أو فتح لبلدة ليشع فيها نور الإيمان، أو لبشائر ربانية يهبط بها جبريل على قلبه، أو لبشرى إلهية له ولأمته.. والمتأمل في جميع أفراحه أو أحزنه يجد أنها جميعًا لله تعالى، أو لنفع عباده، إما فرحًا بطاعة أو سرور بنعم أو بهجة لمسلم. ومن أفراحه فرحه بالإسراء والمعراج، وما أكرمه به مما أنساه كل تعب، وأزال عنه كل هم. وفرحه بالهجرة إلى المدينة يوم رأى حب الأنصار واستقبالهم ودخولهم في الإسلام.. فرحه بفتح مكة وتطهير البيت الحرام، فرحه برضوان الله على المؤمنين، فرحه بإسلام رجال عظماء كان يتمنى إسلامهم كعمر بن الخطاب وخالد بن الوليد وغيرهما.. فرحه عندما أُنزلت عليه سورة الكوثر، فرحه عندما أُنزلت عليه سورة الفتح، فرحه بفتوحات المسلمين وانتصاراتهم، فرحه بقدوم أحبته بعد غيابهم، كقوله لجعفر بعد عودته من الحبشة: "والله لا أدري بأيهما أُسَرُّ بفتح خيبر، أم بقدوم جعفر"؟! فرحه بالأعياد، وكان يُظهر الفرح والسرور بنعمة الله، فقد علّم المسلمين الفرح بعيدي الفطر والأضحى وإظهار ذلك، وكان يعلم أصحابه أن يحمدوا الله على نعمه، من ذلكم قوله: "إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة، ويشرب الشربة فيحمده عليها". وكان يعلم أصحابه سجود الشكر فرحا بنعمة أو بشارة من الله، وكان إذا فرح يظهر الفرح في وجهه، عن كعب بن مالك قال: " كان إذا سُرَّ استنار وجهه كأنه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك منه" رواه البخاري. وكان إذا أعجبه شيء أو أعجب أصحابه يكبرون، وأعجب من ذلك كله أن يظهر الفرح والبِشْر والسرور في آخر لحظات حياته، فرحه قبل أن يغادر الدنيا، فرح وتبسم وأشرق وجهه أتدرون لماذا؟ "تحامل على نفسه وقام من فراش المرض، فنظر إلى أصحابه وهم في المسجد يصلون خلف أبي بكر في صفوف أشبه بصفوف الملائكة، فضحك وإذا وجهه يتهلل كأنه ورقة مصحف، حتى كاد الصحابة يفتتنون في الصلاة، فأشار إليهم أن أتموا صلاتكم، وكانت تلك آخر نظرة يلقيها الحبيب على المسلمين". فرح لأنه اطمأن على المسلمين وهم في توجهم لله ووحدتهم، فهل أبقينا على هذه الوحدة، وعلى ذلكم التوجه، وهل إذا نظر إلينا رسول الله اليوم سيفرح لحالنا؟ هل من المعقول، أن ننتسب للرسول، ونحن على ما نحن عليه.. هل هكذا أرادنا رسول الله أن نكون؟! خلافات وصراعات، وفرق وأرواح تُسفك، وأموال تُهدر.. حروب طاحنة، بين من ومن؟ بين المسلمين أنفسهم.. حتى تحول المشهد إلى مأثم كبير.. هل هانت الأرواح إلى هذا الحد؟ هل سفهت العقول ونزلت إلى هذا المستوى؟ أليس في المسلمين رجل رشيد؟ هل حب الأوطان في البناء والإنماء، أم في التفجير والتدمير؛ مع أن بناء الإنسان، قبل بناء الجدران.. المواطنة الحقة أن تكون أيها المسلم سببًا في جلب رضا الله لوطنك؛ نشرًا للخير وتعليمًا للقرآن، ونصحًا وتجنبًا للفتن وإتقانًا للعمل في كل نواحي الحياة، وتحملاً للمسئولية؛ بهذا تشرق شمس الأمل وترتفع راية الإسلام، وتتخلص العقول من عقالها.. اللهم أصلح أحوالنا، واجعل بطاعتك اشتغالنا، وإلى الخيرات مآلنا.. اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِ مُحَمَّدٍ.. أللّهُمَّ افْتَحْ لنا أبوابَ فَضْلِكَ، وَ أنزِل عَلَينا بَرَكاتِكَ، وَ وَفِّقْنا لِمُوجِباتِ مَرضاتِكَ، وَ أسْكِنّا بُحْبُوحاتِ جَنّاتَكَ. اللَّهُمَّ وَصَيِّرْ اُمُورنا مِنَ العُسرِ إلى اليُسرِ، وَ اقبَلْ مَعاذيرنا وَ حُطَّ عَنّا الذَّنب وَ الوِزْرَ. اللَّهُمَّ احْفَظْنَا بِعَيْنِكَ الَّتِي لاَ تَنَامُ، وَاسْتُرْنَا بِسِتْرِكَ الَّذِي لاَ يُضَامُ. اللَّهُمَّ آمنا في أوطاننا. وأصلح ولاة أمورنا، اللهم وفقنا لما تحب وترضى، وخذ بنواصينا للبر والتقوى.. اللهم كن لنا على الحق مؤيدًا وظهيرا، ومعينًا ونصيرا.. اللهم فرج هم المهمومين، ونفس كرب المكروبين، واقضِ الدَّينَ على المدينين، واشف برحمتك مرضانا ومرضى المسلمين.. يا حيُّ يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام برحمتك نستغيث فلا تكلنا إلى أنفسا طرفة عينٍ ولا أقل من ذلك، وأصلح لنا شأننا كله. اللهم من أرادنا وأراد ديننا وبلادنا وأمننا بسوءٍ فأشغله بنفسه، ورد كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء.. اللهم يا من لا يُهزَم جندك، ولا يُخلَف وعدك.. اللهم منزلَ الكتاب، ومجريَ السحاب، وهازمَ الأحزاب، اهزمْ أعداء الملة والدين.. اللهم أنْقِذْ مقدسات المسلمين يا قوي يا عزيز.. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل اَللّـهُمَّ هذا البلد آمنًا مطمئنًا سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين.. ربنا اغفر لنا ذنوبنا واسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. ربنا اغفر لنا ولوالدينا ولمن.. ربنا آتنا في .. آللّهُمَ (آمين).. عبادَ اللهِ! اذْكُرُوا اللَّهَ الْعَظِيمَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشكرُوهُ علَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، ﴿ وَأَقِمِ الصَّلاةَ، إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾.
الْحَمْدُ للهِ المتفرد باسمه الأسمى، والمختص بالملك الأعز الأحمى، الذي ليس من دونه منتهى ولا ورائه مرمى، الظاهر لا تخيلاً ووهمًا، الباطن تقدسًا لا عدمًا.. وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأسبغ على أوليائه نعما عُما، وبعث فيهم رسولاً من أنفسهم، هو أنفسهم عربًا وعجمًا، وأفضلهم روحًا وجسمًا، آتاه الله حكمة وحكمًا، فآمن به وصدقه من جعل الله له في مغنم السعادة قسمًا، وكذّب به وصدف عنه من كتب الله عليه الشقاء حتمًا، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى.. صلى الله عليه صلاة تنمو وتنمى، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.. أَمَّا بَعْدُ: فَيأيُّهَا النَّاسُ اتقوا الله تَعَالَى، فإنَّ التَّقوى رأس كلِّ شيءٍ، وجماع كلِّ خيرٍ, وهي غاية الدِّين، ووصيَّة الله تعالى للنَّاس أجمعين؛ الأوَّلين منهم والآخرين, قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾. مَعَاشِرَ المُسْلِمِينَ: نواصل اللقاء، في معارج الثناء، وفي رحاب سيد الأنبياء، استجلابًا لِلْيُمْن، في عالم الغبن، ودفعًا للاضطرار، في عالم الارتياب، وبناء للذات، في عالم الإغراء واللذات. ومعلوم أن الذوات لا تبنى إلا بوجود مثال للكمال، يُقاس عليه البناء، ويكون على منواله الإنشاء، ومن غيرُ رسول الله جديرًا بأن يُتخذ نموذجًا يحتذى، وإمامًا به يُقتدى. وقد زكاه ربه ورضيه للعباد منهجًا موصلاً إليه، ومرضيًا لديه، قال تعالى داعيًا عشاق الكمال، والباحثين عن الجمال والجلال، والراغبين في ذكر الله بالغدو والآصال: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) وكما بيّن سبحانه أن التأسي والاقتداء بنبيه موصل إلى الرضوان، فقد بين سبحانه أن الخروج عن أمره ونهيه سبب من أسباب الخسران، (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم). نقف اليوم إن شاء الله تعالى عند جانب مهم من جوانب كماله الجبلي، وجلاله اللدني، الذي يلتقي فيه كماله البشري، بجلاله النبوي، لتظهر حكمة الله في اختياره واجتبائه مصداقًا لقوله: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ). نقف عند جانب الحزن والفرح في حياته، ولا نذكر ذلك من باب التسلية، ولكن حثًّا للنفس على التزكية، قياسًا على العظمة النبوية. أيها الأحباب: الأحزان والهموم والمصائب التي مر بها المصطفى كثيرة جدًّا، بل لقد تعرض لمواقف تهتز أمامها الجبال الراسيات، إلا أن العظمة في مواقفه من كل ذلك، فهي لم تفُتّ في عضده أو تضعف مسيرته، أو تحد من همته أو تربك دعوته.. بل مضى شامخًا، وظل راسخًا، لا تزيده المحن والهموم والأحزان إلا عزًّا وصلابة وإيمانًا ويقينًا. بل كان يتلذذ بالصبر على ذلك، ويرى أنه في ذات الله روحًا وريحانًا، ومسرة وسلوانًا، ولنتأمل جميعًا ونحن نستعرض بعض ما أحزن الرسول على ماذا كان يحزن؟ ومتى؟ وكيف؟ أولاً: حزنه على إعراض قومه عن الحق، وانصرافهم عن الخير وحرمانهم من الهدى، بل لقد بلغ به الهم والحزن إلى أن كادت نفسه تذهب عليهم حسرات، فسلاه ربه بقوله: (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ). وقوله تعالى: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ -أي قاتل نفسك- عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا). وفي ذلك دعوة إلى عموم المسلمين وخاصتهم إلى الشفقة والرحمة، والترفق في الدعوة، واللطف في النصيحة؛ اقتداءً بالرسول الكريم، الذي وصفه ربه بأنه بالمؤمنين رءوف رحيم.. ومع الأسف فإننا نرى في الغالب خلاف ذلك من غلظة وتعنيف، وتشكيك وتخويف.. مما أدى إلى إحداث هوة بين فئات المسلمين. يقول ربنا مبرزًا بعض جوانب عظمة رسوله، خصوصًا في باب رحمته ولينه (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ، وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ، فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ). ومن ذلكم حزنه على موت عمه أبي طالب؛ حيث حزن؛ لأنه كان ينصره ويحميه. وكذلك حزنه على موت زوجه الفضلى خديجة في العام نفسه حتى سُمِّي ذلك العام بعام الحزن. ومن ذلك حزنه لما نزلت عليه الآية (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ)؛ حيث حزن وحزن أصحابه خشية أن يكون قد انقطع الوحي وأتى العذاب لقومه، وأن الله قد يهلكهم، وظل حزينًا حتى أنزل الله تعالى: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ). من ذلك حزنه على أصحابه من الأنصار الذين قُتلوا يوم بئر معونة، وهم سبعون رجلاً، يقول أنس بن مالك: "ما رأيت النبي وجد - أي حزن- على سرية ما وجد على أهل بئر معونة"، وقد كانوا جميعًا من أصحاب القرآن وحملته، وهذا هو السر. أخرجه البخاري. وذلك لأنه كان يحب أهل القرآن، ويعطف عليهم ويشيد بهم، فكيف هي منزلة أهل القرآن عندنا اليوم؟ مع الأسف كثير من المسلمين لا تحلو لهم الإهانات، ولا تطيب لهم الانتقادات، إلا في حق الأئمة والمؤذنين وغيرهم من أهل القرآن. ويكفي في بيان منزلة الأئمة والمؤذنين دعاء رسول الله لهم، ذلك الدعاء الخالد الباقي إلى يوم القيامة، يقول: "الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن، اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين" أخرجه أبو داود وصححه أهل العلم. طبعًا لا أحد يعلو على النصيحة، ولكن إذا كانت النصيحة فلتكن برفق ولين ومراعاة المقام، وعلى أهل القرآن أن يكونوا مثالاً للعزة والكرامة والأنفة في تعاملهم.. من ذلك: حزنه من أقوال المشركين الفاسدة وافترائهم على الله وعلى ملائكته وعلى رسالته، وقد أمره ربه جل وعلا بألا يحزن بمقولاتهم وألا يضيق بذلك صدره (وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) وقال سبحانه: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ). فهل نحزن نحن اليوم إذا سمعنا الطعن في القرآن أو في السنة أو إذا شاهدنا السخرية من تعاليم الإسلام، وما أكثر مظاهر ذلك؟ أم نتألم لأشياء أخرى فارغة لا معنى لها؟! من ذلك: حزنه على فقد بعض أصحابه المقربين كسعد بن معاذ، قالت عائشة: "لما أصيب سعد بن معاذ يوم الخندق رماه رجل في الأكحل، وهو عرق يكون في الذراع لا يرقأ إذا أُصيب، يسيل منه الدم باستمرار، فضرب عليه رسول الله خيمة في المسجد ليعوده من قريب" رواه مسلم. وقبل ذلك، حزنه على صفوة أصحابه الذين استُشهدوا في الغزوات، أمثال عمه حمزة بن عبد المطلب الذي استشهد في معركة أُحد، ومصعب بن عمير، وجعفر بن أبي طالب وغيرهما من الصحب الكرام. ومن ذلكم: حزنه وشفقته على أمته عندما قرأ قول الله عن إبراهيم: (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي، وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، وقول عيسى عليه السلام: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). فقال: " اللهم أمتي.. أمتي وبكى، فقال الله: يا جبريل! اذهب إلى محمد، فأقرئه السلام، فسله ما يبكيك؟ وربك أعلم، فنزل جبريل، وقال: يا محمد! ربك يقرئك السلام ويقول لك: ما يبكيك؟ وربك أعلم، فقال: أمتي.. أمتي، فرجع جبريل إلى ربه، فقال الله: اذهب إلى محمد وقل له: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك". وقد استقى بعض الشعراء هذا المعنى فقال:
أترضى حبيبي أن تكون منعمًا ** ونحن على جمر اللظى نتقلب
ألم يرضك الرحمن في سورة الضحى ** وحاشاك أن ترضى وفينا معذب
هذه بعض الأحزان التي تعرض لها وغيرها كثير.. والغرض من مثل هذا الموضوع أمران مهمان هما: توضيح الصورة الكاملة لحياة رسول الله، وبيانها للمحبين بأفراحها وأحزانها وآلامها، وآمالها ومسراتها وهمومها. وكذلك ضرب المثل وأخذ العبرة والتماس القدوة، قال ابن القيم رحمه الله: "وأما بكاؤه فكان من جنس ضحكه، فلم يكن بشهيق ورفع صوت، كما لم يكن ضحكه بقهقهة، ولكن كانت تدمع عيناه حتى تهملا، ويُسمع لصدره أزيز، وكان بكائه تارة رحمة للميت، وتارة خوفًا على أمته وشفقة عليها، وتارة من خشية الله، وتارة عند سماع القرآن، وهو بكاء اشتياق ومحبة وإجلال مصاحب للخوف والخشية". ومن ذلك بكاؤه لما كسفت الشمس وصلى صلاة الكسوف، وجعل يبكي في صلاته وجعل ينفخ ويقول: "ربّ ألم تعدني ألا تعذبهم وأنا فيهم وهم يستغفرون" . بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْوَحْيَيْنِ، وَنَفَعَنِي وَإيِّاكُمْ بِهَدْيِ سَيِّدِ الثَّقَلَيْنِ، أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ خَيْرُ الْغَافِرِينَ وَأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.
الْحَمْدُ للهِ الذي منَّ على المؤمنين بنبي الرحمة، وجعله مؤيدًا بالكتاب والحكمة؛ علمهما أمته وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين، والصلاة والسلام على نبي التقى، وإمام الهدى الذي عرّف نفسه فقال: "إنما أنا رحمة مهداة"، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه، الذين فازوا بحبّه وقربه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم وعيده ووعده.. أَمَّا بَعْدُ، معاشر الصالحين: الإنسان في حياته معرض للأفراح والمسرات، والأحزان والأنكاد، فإن الدنيا لا تدوم على حال، وتقلباتها كثيرة، ومفاجآتها مخيفة، لكن المسلم قد أنار الله بصيرته، وربط على قلبه وأنعم عليه بنعمة الإيمان بالقضاء، والرضا بالقدر، واحتساب الأجر، فهو إن فرح فلا يفرح فرحًا يخرج به عن الحدود، أو يجره إلى غضب المعبود، بل له أن يفرح ويأنس، وهو مع ذلك شاكر لربه جل وعلا الذي أنعم عليه بما يفرحه ويسره، فلا تنسيه المسرات، عطاء رب الأرض والسماوات، وهو إن مر به حزن أو تعرض لمصيبة يصبر ويحتسب، ويحمد الله على كل حال. لقد كان الرعيل الأول ينظرون إلى قيم الحياة، ويعدون الفضل الأول والرحمة الأولى هي ما جاءهم من الله من موعظة وهدى، أما المال والمناصب فهي تابعة لهذه المعاني وخادمة لها. لذلك كان النصر يأتيهم، وكان المال ينسال عليهم، وكان الثراء يطلبهم، إن طريق هذه الأمة واضح، إنه في هذا الذي يسنّه لها قرآنها، و يسير عليه رجالها.. إن الأرزاق و الأعراض المادية ليست هي التي تحدد مكان الناس في هذه الأرض في الحياة الدنيا فضلاً عن مكانهم في الحياة الأخرى، يقول ربنا: (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آَمِنُونَ). عندما تصبح الأموال والمناصب والكراسي صنمًا يكدح الناس حوله، ويطوفون به، فإن كل القيم والاعتبارات الأخرى تُدَاس في سبيله وتُنتهك، الأخلاق، الأسرة، الأعراض، الحريات، المجتمعات وحتى الأوطان. إن القيمة العليا يجب أن تبقى لفضل الله ورحمته المتمثلة في هداه الذي يشفي الصدور، ويحرر الرقاب، ويعلي من قيم الإنسانية في الإنسان. لذالكم فإننا إذا ما قمنا بجولة سريعة في أفراح رسول الله نجد هذه المعاني بارزة واضحة في أجلى صورها، وأسمى أشكالها. ولقد مرت في حياته أفراح كثيرة، ومسرات متعددة، ولم يكن شيء أحب إليه من: رضوان الله عز وجل، أو إيمان إنسان ونجاته من الشرك، أو سرور يدخله على مسلم، أو معروف يقدمه لمسكين أو فقير، أو عودة لحبيب غائب منتظر، أو فتح لبلدة ليشع فيها نور الإيمان، أو لبشائر ربانية يهبط بها جبريل على قلبه، أو لبشرى إلهية له ولأمته.. والمتأمل في جميع أفراحه أو أحزنه يجد أنها جميعًا لله تعالى، أو لنفع عباده، إما فرحًا بطاعة أو سرور بنعم أو بهجة لمسلم. ومن أفراحه فرحه بالإسراء والمعراج، وما أكرمه به مما أنساه كل تعب، وأزال عنه كل هم. وفرحه بالهجرة إلى المدينة يوم رأى حب الأنصار واستقبالهم ودخولهم في الإسلام.. فرحه بفتح مكة وتطهير البيت الحرام، فرحه برضوان الله على المؤمنين، فرحه بإسلام رجال عظماء كان يتمنى إسلامهم كعمر بن الخطاب وخالد بن الوليد وغيرهما.. فرحه عندما أُنزلت عليه سورة الكوثر، فرحه عندما أُنزلت عليه سورة الفتح، فرحه بفتوحات المسلمين وانتصاراتهم، فرحه بقدوم أحبته بعد غيابهم، كقوله لجعفر بعد عودته من الحبشة: "والله لا أدري بأيهما أُسَرُّ بفتح خيبر، أم بقدوم جعفر"؟! فرحه بالأعياد، وكان يُظهر الفرح والسرور بنعمة الله، فقد علّم المسلمين الفرح بعيدي الفطر والأضحى وإظهار ذلك، وكان يعلم أصحابه أن يحمدوا الله على نعمه، من ذلكم قوله: "إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة، ويشرب الشربة فيحمده عليها". وكان يعلم أصحابه سجود الشكر فرحا بنعمة أو بشارة من الله، وكان إذا فرح يظهر الفرح في وجهه، عن كعب بن مالك قال: " كان إذا سُرَّ استنار وجهه كأنه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك منه" رواه البخاري. وكان إذا أعجبه شيء أو أعجب أصحابه يكبرون، وأعجب من ذلك كله أن يظهر الفرح والبِشْر والسرور في آخر لحظات حياته، فرحه قبل أن يغادر الدنيا، فرح وتبسم وأشرق وجهه أتدرون لماذا؟ "تحامل على نفسه وقام من فراش المرض، فنظر إلى أصحابه وهم في المسجد يصلون خلف أبي بكر في صفوف أشبه بصفوف الملائكة، فضحك وإذا وجهه يتهلل كأنه ورقة مصحف، حتى كاد الصحابة يفتتنون في الصلاة، فأشار إليهم أن أتموا صلاتكم، وكانت تلك آخر نظرة يلقيها الحبيب على المسلمين". فرح لأنه اطمأن على المسلمين وهم في توجهم لله ووحدتهم، فهل أبقينا على هذه الوحدة، وعلى ذلكم التوجه، وهل إذا نظر إلينا رسول الله اليوم سيفرح لحالنا؟ هل من المعقول، أن ننتسب للرسول، ونحن على ما نحن عليه.. هل هكذا أرادنا رسول الله أن نكون؟! خلافات وصراعات، وفرق وأرواح تُسفك، وأموال تُهدر.. حروب طاحنة، بين من ومن؟ بين المسلمين أنفسهم.. حتى تحول المشهد إلى مأثم كبير.. هل هانت الأرواح إلى هذا الحد؟ هل سفهت العقول ونزلت إلى هذا المستوى؟ أليس في المسلمين رجل رشيد؟ هل حب الأوطان في البناء والإنماء، أم في التفجير والتدمير؛ مع أن بناء الإنسان، قبل بناء الجدران.. المواطنة الحقة أن تكون أيها المسلم سببًا في جلب رضا الله لوطنك؛ نشرًا للخير وتعليمًا للقرآن، ونصحًا وتجنبًا للفتن وإتقانًا للعمل في كل نواحي الحياة، وتحملاً للمسئولية؛ بهذا تشرق شمس الأمل وترتفع راية الإسلام، وتتخلص العقول من عقالها.. اللهم أصلح أحوالنا، واجعل بطاعتك اشتغالنا، وإلى الخيرات مآلنا.. اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِ مُحَمَّدٍ.. أللّهُمَّ افْتَحْ لنا أبوابَ فَضْلِكَ، وَ أنزِل عَلَينا بَرَكاتِكَ، وَ وَفِّقْنا لِمُوجِباتِ مَرضاتِكَ، وَ أسْكِنّا بُحْبُوحاتِ جَنّاتَكَ. اللَّهُمَّ وَصَيِّرْ اُمُورنا مِنَ العُسرِ إلى اليُسرِ، وَ اقبَلْ مَعاذيرنا وَ حُطَّ عَنّا الذَّنب وَ الوِزْرَ. اللَّهُمَّ احْفَظْنَا بِعَيْنِكَ الَّتِي لاَ تَنَامُ، وَاسْتُرْنَا بِسِتْرِكَ الَّذِي لاَ يُضَامُ. اللَّهُمَّ آمنا في أوطاننا. وأصلح ولاة أمورنا، اللهم وفقنا لما تحب وترضى، وخذ بنواصينا للبر والتقوى.. اللهم كن لنا على الحق مؤيدًا وظهيرا، ومعينًا ونصيرا.. اللهم فرج هم المهمومين، ونفس كرب المكروبين، واقضِ الدَّينَ على المدينين، واشف برحمتك مرضانا ومرضى المسلمين.. يا حيُّ يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام برحمتك نستغيث فلا تكلنا إلى أنفسا طرفة عينٍ ولا أقل من ذلك، وأصلح لنا شأننا كله. اللهم من أرادنا وأراد ديننا وبلادنا وأمننا بسوءٍ فأشغله بنفسه، ورد كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء.. اللهم يا من لا يُهزَم جندك، ولا يُخلَف وعدك.. اللهم منزلَ الكتاب، ومجريَ السحاب، وهازمَ الأحزاب، اهزمْ أعداء الملة والدين.. اللهم أنْقِذْ مقدسات المسلمين يا قوي يا عزيز.. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل اَللّـهُمَّ هذا البلد آمنًا مطمئنًا سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين.. ربنا اغفر لنا ذنوبنا واسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. ربنا اغفر لنا ولوالدينا ولمن.. ربنا آتنا في .. آللّهُمَ (آمين).. عبادَ اللهِ! اذْكُرُوا اللَّهَ الْعَظِيمَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشكرُوهُ علَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، ﴿ وَأَقِمِ الصَّلاةَ، إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾.