هدهد سليمان ونَقلَةِ الأخبار
أ.د عبدالله الطيار
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً .. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}(آل عمران: 102). {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}(النساء: 1). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيماً}(الأحزاب: 70، 71)، أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله: لقد اختص الله جل وعلا بعض رسله وأنبيائه بملك عظيم، وسخر لهم الكثير من خلقه، وأعطاهم ما لم يعط أحداً من العالمين. ومن هؤلاء النبي سليمان عليه السلام، قال تعالى: مخبراً عنه {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ}(النمل: 16)، فبعثه الله تعالى نبياً، وجعله من أعظم ملوك الأرض مُلكاً.
فقد ملَّكه الله جلَّ وعلا الأرض جميعها، وسخَّر له الريح، والطير، والإنس والجن، وأعطاه ملكاً عظيماً لم يعطه أحداً من العالمين.
قال الله عز وجل:{وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ}(النمل:17) أي جُمِع لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير في مسيرة لهم، فهم على كثرتهم لم يكونوا مهمَلين، بل كان على كل جنس من يَرُدُّ أولهم على آخرهم؛ كي يقفوا جميعًا منتظمين، وهذا يبين كثرتهم العظيمة، فجعل لهم سليمان عليه السلام من يقودهم، ومن يكفهم، ومن يرتبهم، ومن ينظمهم، ومن يسيَّرهم، ومن يوقِفُهم.
وقد ذكر الله تعالى ما كان من أمر سليمان والهدهد، وذلك أن الطيور كانت على كل صنف منها مُقدِّمون، يُقدَّمون بما يُطلب منهم، ويحضرون عنده بالنوبة، كما هي عادةُ الجنود مع الملوك.
وفي يوم من الأيام خرج سليمان عليه السلام بهؤلاء الجنود، فقال تعالى مخبراً عنه: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} (النمل:20)، وكأنها سُنَّة يُعلِّمها الله عز وجل لولاة الأمور، بأن يتدبروا أمورهم، وأن ينظروا في بلادهم، وفي أحوالهم، وفي شعبهم، وأن يتفقدوا الغائب من جندهم.
وكانت وظيفة الهدهد على ما ذكره ابن عباس وغيره أنهم كانوا إذا أعوزوا الماء في القفار في حال الأسفار يجيء فينظر له هل بهذه البقاع من ماء، وفيه من قوة البصر التي أودعها الله تعالى فيه أن ينظر إلى الماء تحت تخوم الأرض، فإذا دلّهم عليه حفروا عنه واستنبطوه وأخرجوه واستعملوه لحاجتهم، فلما طلبه سليمان عليه السلام ذات يوم فقده، ولم يجده في موضعه من محل خدمته. فطلبه لمَّا غاب منه وفقده. قال سبحانه:{فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ}(النمل:20)، أي غاب عن بصري فلا أراه بحضرتي. {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً}، توعده بنوع من العذاب لا يُعلم ما هو، {أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} أي: بحجة تنجيه من هذا الموقف الشديد. وهذا فيه بيان بأهمية الحزم، وأنه أمر ضروريٌ لكل حاكم.
ثم قال تعالى:{فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ}، أي الهدهد غاب غيبة قصيرة ثم قدم منها {فَقَالَ} لسليمان {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ}، أي: اطَّلعت على ما لم تطّْلِع عليه {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ}، وهو الخبر الذي له شأن، والنفوس متطلعة إلى معرفته، ثم وصفه بأنه نبأ يقين لا شك فيه ولا ريب {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ}. أي أن لها شأناً ومكانةً في قومها، ولها عرش مزخرفٌ بأنواع الجواهر، واللآلئ، والذهب، والحلي الباهر. ثم ذكر له كفرَهم وعبادتَهم الشمس من دون الله، وإضلالَ الشيطان لهم، وصدَّه إياهم عن عبادة الله وحده الذي يُخرج الخبء في السموات والأرض، ويعلم السرائر، والظواهر من المحسوسات والمعنويات.
قال ابن القيم:"إن سليمان لما توعد الهدهد بأن يعذبه عذاباً شديداً، أو يذبحه إنما نجا منه بالعلم، وأقدم عليه في خطابه له بقوله:{أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} خبراً، وهذا الخطاب إنما جرَّأه عليه العلم، وإلا فالهدهد مع ضعفه لا يتمكن من خطابه لسليمان مع قوته بمثل هذا الخطاب لولا سلطان العلم" انتهى كلامه رحمه الله.
فالهدهد لم يقْنع بأخذ طرفٍ من الأخبار، وإنما ما زال ببلقيس وقومها حتى أحاط بأخبارهم، وفي هذا من الدقة والضبط ما لا يخفى.
وفي هذا الزمان الذي امتلأ بالفتن والمحن علينا جميعاً ألا نكون من مروجي الإشاعات والمقولات المغرضة والكاذبة التي تزيد في إحداث البلبلة وزعزعة المجتمع كما يجب علينا أن نتوثق ونتثبت من مصدر الأخبار والمعلومة، حتى وإن صحت فيجب النظر إلى مآلات نقل الخبر وردود الأفعال ومن تصل إليه، فكيف إذا كانت هذه المعلومات والأخبار مغلوطة ويهدف مَنْ أنشأها إلى إحداث البلبلة والمشاكل في المجتمع.
والعجلة في نقل الكلام وإرساله سواء عن طريق المشافهة في المجالس أو عبر المواقع الإلكترونية والتواصل الاجتماعي من الأمور المذمومة غير المحمودة التي شاعت في الآونة الأخيرة وكثرت وتعددت وتجاوزت إلى الكذب على الله عز وجل والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعلى العلماء وولاة الأمر وعلى كل مسلم ألا يحكم على الشيء حتى يحيط به، ويلم بجوانبه لأن من أكثر ما يعاني منه المسلمون اليوم النظر إلى المشكلة من زاوية واحدة دون إحاطة بجميع جوانبها، كما فعل الهدهد.
واعلموا بارك الله فيكم أنَّ تصديق كلِّ ما يقال والعجلةَ في الحكم والجزمَ بالنتائج دون سماع الطرف الآخر، يوصل إلى عواقب وخيمة ونتائج غير طيبة، خاصة مع انتشار مواقع التواصل الاجتماعي وشبكات الإنترنت حيث أصبح العالم اليوم كقرية صغيرة، وبات نقلُ الخبر أو الإشاعةِ يسيراً.
وفي حديث الهدهد مع سليمان دلالة عظيمة على أهمية التثبت وعدم الاستعجال بالحكم على الآخرين، بل لابد من الرجوع لأهلِ العلم والنصح والعقل والرزانة، الذين يعرفون الأمور ويعرفون المصالح وضدها.
وفيه أيضاً النهي عن العجلة والتسرع لنشر الأمور من حين سماعها، والأمر بالتأمل قبل الكلام والنظر فيه، هل هو مصلحة، فيُقْدِم عليه الإنسان؟ أم لا فيحجم عنه؟
روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كفى بالمرء كذبا أَنْ يُحدِّث بِكُلِّ مَا سَمِعَ).
وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم:" نَهَى عَنْ قِيلَ وَقَالَ ", أَيْ: الَّذِي يُكْثِرُ مِنَ الْحَدِيثِ عَمَّا يَقُولُ النَّاسُ مِنْ غَيْرِ تَثبُّت، وَلَا تَدبُّر، وَلَا تبَيُّن (رواه البخاري ومسلم).
عباد الله: لقد كان سليمان عليه السلام نبياً مسدداً، وملكاً ملهماً موفقاً، والناظر في تصرفاته في قصته مع الهدهد يلمح كثيراً من عناصر قوته وتمكنه من قيادة ومتابعة هذه الحشود من الإنس والجن والطير، حتى ذكر بعض أهل التفسير أن معسكره كان مئة فرسخ في مئة! ومع هذا كلَّه لم يفته غياب هذا الهدهد، وتنبَّه له ولم يكن هذا التنبهُ عارضاً، وإنما بعد تفقدٍ وسؤال مما يدل على أنه كان يحرص على رعيته ويسأل عنهم. ولا يمكن وصف الأثر الذي يحصل في قلب الفرد حين يعلم أو يشعر أن أميره افتقده وسأل عنه حتى وإن كان في السؤال شدةٌ ومعاتبة.
ثم قال تعالى:{قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنْ الْكَاذِبِينَ}، أي: أصدقت في إخبارك هذا ، أم كنت من الكاذبين في مقالتك.
وهنا لم يأخذ سليمان عليه السلام خبر الهدهد مسلماً، بل أخبر أنه سيتثبت ويتأكد منه، وهذا درس لنقلة الأخبار الذين لا يمحصونها ولا يتثبتون منها بل تمر عليهم مرور الكرام.
ثم قال:{إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}.. فشاورت قومها في أمرها، وتأدبت معهم، وخاطبتهم وهم يسمعون {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ}، أي: ما كنت لأبت في أمرٍ إلا وأنتم حاضرون، {قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ}. أي لنا قوة وقدرة على الجلاد والقتال ومقاومة الأبطال، فإن أردت منا ذلك فإنا عليه من القادرين فبذلوا لها السمع والطاعة، وأخبروها بما عندهم من الاستطاعة، وفوضوا إليها في ذلك الأمر لترى فيه ما هو الأرشد لها ولهم، فكان رأيها أفضل من رأيهم، وعلمت أن صاحب هذا الكتاب لا يغالب، ولا يمانع، ولا يخالف، ولا يخادع.
{قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ}.. أرادت أن تصانع عن نفسها وأهل مملكتها، بهدية ترسلها، ولم تعلم أن سليمان عليه السلام لن يقبل منهم ذلك، وهم على حالتهم هذه من الكفر بالله تعالى وعبادة غيره.
ثم قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ}، ثم قال لرسولها ووافدها الذي قدم عليه والناس حاضرون يسمعون {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ}، فإن عندي مما قد أنعم الله عليّ وأسداه إليّ من الأموال والكنوز والرجال وغيرها، ما هو أضعاف هذا وخير منه، الذي أنتم تفرحون به، وتفخرون على أبناء جنسكم بسببه. {فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا} أي: فلأبعثن إليهم بجنود لا يستطيعون دفاعَهم، ولا نزالَهم، ولا مما نعتَهم، ولا قتالَهم، ولأخرجنهم من بلدهم، وحوزتهم، ومعاملتهم، ودولتهِم أذلةً{وَهُمْ صَاغِرُونَ}، أي عليهم الصغار، والعار، والدمار.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الرسول الكريم محمد بن عبد الله الذي علم أمته كل خيرٍ، وحذَّرهم من كل شرٍّ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون، واعلموا أن تقواه خير زاد ليوم المعاد.
عباد الله: ولما بلغهم ذلك عن نبي الله سليمان عليه السلام، لم يكن لهم بد من السمع والطاعة، فبادروا إلى إجابة أمره، وأقبلوا إليه وهم في صحبة ملكتهم، فلما سمع بقدومهم عليه، ووفودهم إليه، قال لمن بين يديه ممن هو مسخر له من الجان، {قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}، وهو سرير مملكتها التي تجلس عليه وقت حكمها قبل قدومها عليه، {قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} أي: قبل أن ينقضي مجلس حكمك، {وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} أي: وإني لذو قدرة على إحضاره إليك في وقت قصير، {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ}، المشهور: أنه آصف بن برخيا، وهو ابن خالة سليمان، وقيل: هو رجل من مؤمني الجان، كان فيما يقال يحفظ الاسم الأعظم، وقيل: رجل من بني إسرائيل من علمائهم، وقد قيل فيه قول رابع وهو: جبريل. {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ}، أي قبل أن يرجع إليك طرفك إذا نظرت به إلى أبعد غاية منك ثم أغمضته، {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ}، أي: لما رأى عرش بلقيس مستقراً عنده في هذه المدة القريبة من بلاد اليمن إلى بيت المقدس في طرفة عين، {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ}، أي: هذا من فضل الله عليَّ، وفضله على عبيده، ليختبرهم على الشكر أو خلافه {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ}، أي: إنما يعود نفع ذلك عليه {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} أي: غني عن شكر الشاكرين، ولا يتضرر بكفر الكافرين.
ثم أمر سليمان عليه السلام أن يُغيَّر حُلي هذا العرش، ويُنَكر لها، ليختبر فهمها وعقلها، ولهذا قال: {نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ * فَلَمَّا جَاءتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ}، وهذا من فطنتها وغزارة فهمها، لأنها استبعدت أن يكون عرشها، لأنها خلَّفته وراءها بأرض اليمن، ولم تكن تعلم أن أحداً يقدر على هذا الصنع العجيب الغريب.
قال الله تعالى إخباراً عن سليمان وقومه: {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ * وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ}، أي: ومنعها من عبادة الله تعالى عبادتها للشمس التي كانت تسجد لها هي وقومها، اتباعاً لدين آبائهم وأسلافهم. وأمر سليمان ببناء صرح من زجاج، وعمل في ممره ماء، وجعل عليه سقفاً من زجاج وجعل فيه من السمك وغيرها من دواب الماء، وأُمرت بدخول الصرح، وسليمان جالس على سريره فيه. {فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.. فوقفت الملكة مندهشة أمام هذه العجائب التي يعجز عن مثلها البشر، فرجعت إلى الله، وناجته معترفة بظلمها لنفسها فيما سلف من عبادة غيره، معلنة إسلامها مع سليمان لله رب العالمين.
أسأل الله تعالى أن يبصرنا بأمور ديننا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يهدينا وإياكم سواء السبيل.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب:٥٦).