هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم قصة وعبر
مبارك العشوان
1437/01/02 - 2015/10/15 22:31PM
الحمد لله وحده، نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، بعثه الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، فصبر وصابر وجاهد وهاجر حتى ارتفعت راية الدين، وحق القول على الكافرين، ودخل الناس في دين الله أفواجا، صلى الله عليه وسلم وبارك وأنعم، وعلى آله الأطهار، وأصحابه، الأخيار من المهاجرين والأنصار، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فتأملوا عباد الله في سيرة خير البرية، وإمام البشرية وسيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم. وحديث اليوم رحمكم الله: لمحات من هجرته صلوات ربي وسلامه عليه، وما لاقاه من قومه من سخرية واستهزاء، وطرد وإيذاء واعتداء، وتآمر بالقتل. في وقت يشتد فيه أذى الكافرين وتداعيهم على المسلمين وتتوالى عليهم هجماتهم في شتى بقاع الأرض. وفي خبر الهجرة النبوية، وفي قصص الأنبياء: ذكرى للذاكرين وعبرا للمعتبرين، فيها دروس عظيمة، ونماذج من التضحية والفداء والصبر على البلاء.
لما رأى المشركون أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تجهزوا، وخرجوا بالذراري وساروا بهم إلى المدينة، ولم يبق بمكة إلا قليلا من المسلمين، خافوا خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، ولحوقه بهم، فاشتد عليهم أمره، فتشاوروا ما يصنعون به، فاتفقوا أن يأخذوا من كل قبيلة شابا جلدا، ويعطى كل واحد منهم سيفا صارما، فيضربوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه بين القبائل، وفي ذلك
يقول سبحانه:{ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } الأنفال 30. وفي إحدى الليالي عزموا على قتله، فجاءه جبريل بالوحي فأخبره، وأمره ألا ينام في فراشه تلك الليلة، فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر نصف النهار في ساعة لم يكن يأتيه فيها، فقال له أخرج من عندك، فقال إنما هم أهلك يا رسول الله، فقال: ( إن الله قد أذن لي في الخروج ) فقال أبو بكر الصحبة يا رسول الله، قال نعم، فقال أبو بكر فخذ بأبي وأمي إحدى راحلتي هاتين، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم آخذها بالثمن، وأمر عليا أن يبيت في فراشه تلك الليلة، وأخبره أنه لن يخلص إليه شيء يكرهه منهم، واجتمع المشركون عند بابه يرصدونه ليقتلوه، فخرج عليهم، وأخذ حفنة من التراب وجعل يذروه على رؤوسهم ولا يرونه، ويتلو قوله سبحانه: { وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ } يـس 9 وذهب إلى بيت أبي بكر ليلا، ثم مضيا إلى غار ثور، فجعل أبو بكر يمشي ساعة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وساعة خلفه ففطن له فسأله، فقال يا رسول الله أذكر الطلب فأمشي خلفك، ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك فقال: ( يا أبا بكر لو كان شيء لأحببت أن يكون بك دوني ) قال نعم والذي بعثك بالحق، فلما انتهينا إلى الغار قال أبو بكر مكانك يا رسول الله حتى استبرئ لك الغار فاستبرأه، ثم دخلاه وضرب العنكبوت على بابه، وجدَّت قريش في طلبهما، وأخذوا معهم القافلة حتى انتهوا إلى باب الغار فوقفوا عليه، فقال أبو بكر يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى ما تحت قدميه لأبصرنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما ) ولما يئس المشركون من الظفر بهما جعلوا لمن جاء بهما دية كل واحد منهما، فجد الناس في الطلب، فلما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه، بحي مدلج، بصر بهم سراقة بن مالك، فركب جواده وسار في طلبهم، فلما قرب منهم سمع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم دعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فساخت يدا فرسه في الأرض، ثم قال سراقة ادعوا الله لي، ولكما علي أن أرد الناس عنكما، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطلق، ورجع يقول للناس قد كفيتم ما ههنا. ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره ذلك بخيمة أم معبد فقال عندها، ورأت من آيات نبوته في الشاة وحلبها لبنا كثيرا في سنة مجدبة ما بهر العقول، فصلوات ربي وسلامه عليه. وبلغ الأنصار مخرجه صلى الله عليه وسلم من مكة، وقصده المدينة، فكانوا يخرجون كل يوم إلى الحرة ينتظرونه أول النهار فإذا اشتد حر الشمس رجعوا إلى منازلهم حتى إذا كان يوم الاثنين ثاني عشر من ربيع الأول على رأس ثلاث عشرة سنة من النبوة قدم إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فبادر الأنصار إلى السلاح ليتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكبر المسلمون فرحا بقدومه وخرجوا للقائه فتلقوه وحيوه وأحدقوا به، والسكينة تغشاه عليه الصلاة والسلام.
بارك الله .. أقول ما تسمعون ....
الخطبة الثانية
الحمد لله...أما بعد: عباد الله وقد سمعتم شيئا من خبر هجرة النبي صلى الله عليه وسلم فانهلوا منها الدروس التي تنير لكم الطريق، وتعينكم على الثبات عليه.
أيها المسلمون: إن من أبرز الدروس المستقاة من حادث الهجرة : أن صاحب الدين القويم والعقيدة الصحيحة ينبغي ألا يساوم فيها، أو يحيد عنها طرفة عين، بل يجاهد من أجلها ما استطاع إلى ذلك سبيلا، يصبر ويصابر، ويستهين بالشدائد والمصاعب فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم صبر على أذى المشركين ثم خرج من مكة وهي أحب البقاع إليه، خرج منها؛ والخروج من الديار من أشد ما يكون على النفس، وقد قرن بالقتل في كتاب الله كما قال سبحانه: { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً } النساء 66 خرج وهو يقول: ( والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله ولولا أني أخرجت منك ما خرجت ) رواه مسلم.
ومن دروس الهجرة: أن الله تعالى ينصر من ينصره، وينصر دينه، وينصر رسوله صلى الله عليه وسلم، ويعين من يلجأ إليه ويعتصم به ويتوكل عليه، ولا يكون ذلك إلا للمؤمن المخلص الموقن بالله: { إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكـــِيمٌ } التوبة 40
وفي خبر الهجرة درس عظيم في التضحية، وبذل النفس والنفيس في نصر هذا الدين وأهله والدفاع عن هذا النبي الكريم
فهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه ينام على فراش رسول صلى الله عليه وسلم وهو يعلم أن سيوف المشركين قد سُلت على النائم فوق هذا الفراش، ويتغطى ببردته في الليلة التي اجتمع فيها شياطين الكفر والغدر ليفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فيالها من ليلة عصيبة، ونومة تحيطها المخاوف والأهوال لولا حفظ الله عز وجل: { فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } يوسف 64 وهذا أبو بكر رضي الله عنه يقدم نفسه دون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: أذكر الطلب فأمشي خلفك، ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك.
ثم اعلموا أن من أعظم النصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اتباع سنته، والاهتداء بهديه؛ طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر واجتناب ما نهى عنه وزجر، وأن لا يعبد اللهُ إلا بما شرع نصرته صلى الله عليه وسلم بالحذر الشديد من الابتداع في دينه والكذب والافتراء عليه، وتصديق ما يُنشر في ذلك من الرؤى والأحلام المكذوبة عليه صلى الله عليه وسلم من أمثال: ( الوصية المنسوبة للشيخ أحمد خادم الحرم النبوي الشريف ) والتي تنشر بين الحين والآخر، هي مبتدعة مكذوبة مفتراة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى الشيخ أحمد المذكور.
فاتقوا الله عباد الله أن تقعوا في البدع، من حيث لا تشعرون.
وقد بين بطلان هذه الوصية كثير من العلماء منهم الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى في : ( مجموع فتاوى ومقالات متنوعة ).
عباد الله: وفي حادثة الهجرة درس في الصحبة، فالإنسان في هذه الحياة لا يعيش وحيدا، دون صديق يلاقيه ويواسيه، يشاركه مسرته ومساءته، إلا أنه لا بد أن تكون هذه الصحبة على خير وهدى، لا لغرض أو عرض دنيوي: { الأخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ }الزخرف 67 وقد تجلت هذه الصحبة بين النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضـي الله عنه، وبين المهاجرين وإخوانهم الأنصار بإيثار منقطع النظير: { وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }الحشر 9
عباد الله: وعندما يساء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإلى سنته ويسخر به عبر كتابات ورسومات آثمة يقوم بها أعداء الدين، عند ذلك على المسلمين أن يقوموا بنصرته صلى الله عليه وسلم بقلوبهم وألسنتهم وكتاباتهم، إذ لم يلقوه صلى الله عليه وسلم فيدافعوا عنه بأبدانهم. يتعبد المسلم لربه بالغيرة لهذا لدين ولهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، ويتعبد لله بإغاظة من استهزأ به، فإن إغاظة أعداء الله عمل صالح يُتقرب به إلى الله ويؤجر المسلم عليه؛ كما قال سبحانه: { مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ }التوبة 120
ثم صلوا وسلموا عباد الله...
[/size]
أما بعد: فتأملوا عباد الله في سيرة خير البرية، وإمام البشرية وسيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم. وحديث اليوم رحمكم الله: لمحات من هجرته صلوات ربي وسلامه عليه، وما لاقاه من قومه من سخرية واستهزاء، وطرد وإيذاء واعتداء، وتآمر بالقتل. في وقت يشتد فيه أذى الكافرين وتداعيهم على المسلمين وتتوالى عليهم هجماتهم في شتى بقاع الأرض. وفي خبر الهجرة النبوية، وفي قصص الأنبياء: ذكرى للذاكرين وعبرا للمعتبرين، فيها دروس عظيمة، ونماذج من التضحية والفداء والصبر على البلاء.
لما رأى المشركون أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تجهزوا، وخرجوا بالذراري وساروا بهم إلى المدينة، ولم يبق بمكة إلا قليلا من المسلمين، خافوا خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، ولحوقه بهم، فاشتد عليهم أمره، فتشاوروا ما يصنعون به، فاتفقوا أن يأخذوا من كل قبيلة شابا جلدا، ويعطى كل واحد منهم سيفا صارما، فيضربوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه بين القبائل، وفي ذلك
يقول سبحانه:{ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } الأنفال 30. وفي إحدى الليالي عزموا على قتله، فجاءه جبريل بالوحي فأخبره، وأمره ألا ينام في فراشه تلك الليلة، فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر نصف النهار في ساعة لم يكن يأتيه فيها، فقال له أخرج من عندك، فقال إنما هم أهلك يا رسول الله، فقال: ( إن الله قد أذن لي في الخروج ) فقال أبو بكر الصحبة يا رسول الله، قال نعم، فقال أبو بكر فخذ بأبي وأمي إحدى راحلتي هاتين، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم آخذها بالثمن، وأمر عليا أن يبيت في فراشه تلك الليلة، وأخبره أنه لن يخلص إليه شيء يكرهه منهم، واجتمع المشركون عند بابه يرصدونه ليقتلوه، فخرج عليهم، وأخذ حفنة من التراب وجعل يذروه على رؤوسهم ولا يرونه، ويتلو قوله سبحانه: { وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ } يـس 9 وذهب إلى بيت أبي بكر ليلا، ثم مضيا إلى غار ثور، فجعل أبو بكر يمشي ساعة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وساعة خلفه ففطن له فسأله، فقال يا رسول الله أذكر الطلب فأمشي خلفك، ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك فقال: ( يا أبا بكر لو كان شيء لأحببت أن يكون بك دوني ) قال نعم والذي بعثك بالحق، فلما انتهينا إلى الغار قال أبو بكر مكانك يا رسول الله حتى استبرئ لك الغار فاستبرأه، ثم دخلاه وضرب العنكبوت على بابه، وجدَّت قريش في طلبهما، وأخذوا معهم القافلة حتى انتهوا إلى باب الغار فوقفوا عليه، فقال أبو بكر يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى ما تحت قدميه لأبصرنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما ) ولما يئس المشركون من الظفر بهما جعلوا لمن جاء بهما دية كل واحد منهما، فجد الناس في الطلب، فلما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه، بحي مدلج، بصر بهم سراقة بن مالك، فركب جواده وسار في طلبهم، فلما قرب منهم سمع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم دعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فساخت يدا فرسه في الأرض، ثم قال سراقة ادعوا الله لي، ولكما علي أن أرد الناس عنكما، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطلق، ورجع يقول للناس قد كفيتم ما ههنا. ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره ذلك بخيمة أم معبد فقال عندها، ورأت من آيات نبوته في الشاة وحلبها لبنا كثيرا في سنة مجدبة ما بهر العقول، فصلوات ربي وسلامه عليه. وبلغ الأنصار مخرجه صلى الله عليه وسلم من مكة، وقصده المدينة، فكانوا يخرجون كل يوم إلى الحرة ينتظرونه أول النهار فإذا اشتد حر الشمس رجعوا إلى منازلهم حتى إذا كان يوم الاثنين ثاني عشر من ربيع الأول على رأس ثلاث عشرة سنة من النبوة قدم إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فبادر الأنصار إلى السلاح ليتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكبر المسلمون فرحا بقدومه وخرجوا للقائه فتلقوه وحيوه وأحدقوا به، والسكينة تغشاه عليه الصلاة والسلام.
بارك الله .. أقول ما تسمعون ....
الخطبة الثانية
الحمد لله...أما بعد: عباد الله وقد سمعتم شيئا من خبر هجرة النبي صلى الله عليه وسلم فانهلوا منها الدروس التي تنير لكم الطريق، وتعينكم على الثبات عليه.
أيها المسلمون: إن من أبرز الدروس المستقاة من حادث الهجرة : أن صاحب الدين القويم والعقيدة الصحيحة ينبغي ألا يساوم فيها، أو يحيد عنها طرفة عين، بل يجاهد من أجلها ما استطاع إلى ذلك سبيلا، يصبر ويصابر، ويستهين بالشدائد والمصاعب فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم صبر على أذى المشركين ثم خرج من مكة وهي أحب البقاع إليه، خرج منها؛ والخروج من الديار من أشد ما يكون على النفس، وقد قرن بالقتل في كتاب الله كما قال سبحانه: { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً } النساء 66 خرج وهو يقول: ( والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله ولولا أني أخرجت منك ما خرجت ) رواه مسلم.
ومن دروس الهجرة: أن الله تعالى ينصر من ينصره، وينصر دينه، وينصر رسوله صلى الله عليه وسلم، ويعين من يلجأ إليه ويعتصم به ويتوكل عليه، ولا يكون ذلك إلا للمؤمن المخلص الموقن بالله: { إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكـــِيمٌ } التوبة 40
وفي خبر الهجرة درس عظيم في التضحية، وبذل النفس والنفيس في نصر هذا الدين وأهله والدفاع عن هذا النبي الكريم
فهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه ينام على فراش رسول صلى الله عليه وسلم وهو يعلم أن سيوف المشركين قد سُلت على النائم فوق هذا الفراش، ويتغطى ببردته في الليلة التي اجتمع فيها شياطين الكفر والغدر ليفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فيالها من ليلة عصيبة، ونومة تحيطها المخاوف والأهوال لولا حفظ الله عز وجل: { فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } يوسف 64 وهذا أبو بكر رضي الله عنه يقدم نفسه دون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: أذكر الطلب فأمشي خلفك، ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك.
ثم اعلموا أن من أعظم النصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اتباع سنته، والاهتداء بهديه؛ طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر واجتناب ما نهى عنه وزجر، وأن لا يعبد اللهُ إلا بما شرع نصرته صلى الله عليه وسلم بالحذر الشديد من الابتداع في دينه والكذب والافتراء عليه، وتصديق ما يُنشر في ذلك من الرؤى والأحلام المكذوبة عليه صلى الله عليه وسلم من أمثال: ( الوصية المنسوبة للشيخ أحمد خادم الحرم النبوي الشريف ) والتي تنشر بين الحين والآخر، هي مبتدعة مكذوبة مفتراة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى الشيخ أحمد المذكور.
فاتقوا الله عباد الله أن تقعوا في البدع، من حيث لا تشعرون.
وقد بين بطلان هذه الوصية كثير من العلماء منهم الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى في : ( مجموع فتاوى ومقالات متنوعة ).
عباد الله: وفي حادثة الهجرة درس في الصحبة، فالإنسان في هذه الحياة لا يعيش وحيدا، دون صديق يلاقيه ويواسيه، يشاركه مسرته ومساءته، إلا أنه لا بد أن تكون هذه الصحبة على خير وهدى، لا لغرض أو عرض دنيوي: { الأخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ }الزخرف 67 وقد تجلت هذه الصحبة بين النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضـي الله عنه، وبين المهاجرين وإخوانهم الأنصار بإيثار منقطع النظير: { وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }الحشر 9
عباد الله: وعندما يساء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإلى سنته ويسخر به عبر كتابات ورسومات آثمة يقوم بها أعداء الدين، عند ذلك على المسلمين أن يقوموا بنصرته صلى الله عليه وسلم بقلوبهم وألسنتهم وكتاباتهم، إذ لم يلقوه صلى الله عليه وسلم فيدافعوا عنه بأبدانهم. يتعبد المسلم لربه بالغيرة لهذا لدين ولهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، ويتعبد لله بإغاظة من استهزأ به، فإن إغاظة أعداء الله عمل صالح يُتقرب به إلى الله ويؤجر المسلم عليه؛ كما قال سبحانه: { مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ }التوبة 120
ثم صلوا وسلموا عباد الله...
[/size]